كنت ضائعا وسط الحشود التي تضج بها ساحة ((جامع الفنا))، مغمورا بالصخب وأضواء المساء الباهرة عندما شعرت ـ فجأة ـ بالجو من حولي وقد صار مشحونا بالعداء ونُذُر الخطر. توجَّست خيفة ونظرت بريبة إلى الفُلول من حولي، متوقعا أن يظهر في أي لحظة بوجهه العدواني ونظرته الحاقدة، ولم أكن أدرك أنه قريب مني إلى هذا الحد..
استجمعت قواي، حاولت أن أبدو هادئا ثم استدرت نحوه.
اصطدمت بوجهه ذي الملامح الجامدة، وحَدَجني بنظرة مستخفة ساخرة. تجاهلت نظرته التي رجتني، وضغطت على أطرافي كي أمنعها من الارتعاش.
ملامحه القاسية هي عينها: الحاجبان الكثان المتباعدان على نحو لافت/ الأنف الأفطس بمنخريه الواسعين اللذين يختلجان توترا/ العينان الغائرتان اللتان رأيت كدَر الحقد يخالط ماءَهما منذ اصطدمت بهما لأول مرة، فالفم الواسع بشفتيه الممتلئتين كشفتي زنجي..
أجل إنها الملامحُ ذاتها التي أعاينها في كلِّ مرة، لكن الغريبَ أنه بمجرد أن يتوارى عن نظري، تنمحي تلك الملامح والصفات تماما من ذاكرتي على نحو بالغ الغموض. أُجهد ذهني محاولا استعادتها، أحدِّق في الوجوه من حولي بحثا عن ملامحَ مشابهة تلُم شتاتَ الصورة، لكني أرهق نفسي سدًى: هو كائنٌ لا يشبه أحدا ولا أحدَ يشبهه!.. لكن بمجرد أن أراه ثانية تنتعشُ ذاكرتي دفعةً واحدة مثلما ينير ضوءٌ وهاج وسط ظلمة حالكة، وأسرُّ لنفسي: إنها الملامح ذاتُها أبدا لا تتبدل، فكيف أعجز عن حفظها في الذاكرة؟!..
* * *
لم أعد أذكر متى قابلته لأول مرة، ولا كيف انْتسجَت بيننا خيوط هذا العداء الغائر.. ربما كان ذلك منذ الأبد!
أهز ذاكرتي بعنف وأجُوس بين سراديبها المعتمة، فلا أعثر على نقطةِ بدايةٍ، أو موقفٍ حاسم آذنَ بهذا الشرخ الفاصل والجامعِ بيننا في آن، والذي بقي يزداد عمقا واتساعا، إلى أن أضحى هُوًّة سحيقةَ الغور.
أكون مندسا وسط الزحام فأشعر بثقل حضوره المشبعةُ به ذراتُ الهواء من حولي. أتوهمه يتعقبني من خلفٍ فألتفت بحثا عنه إلى أن تتشنَّجَ عروق رقبتي. إلى سريري أعود في آخر المساء منهكا فأجدُه قد سبقني إليه، وضبط منبَّه نومي على أرق مدجَّج بالكوابيس.. كأنما تُسعفه القدرة على أن يكون في أكثر من مكان في الوقت ذاته، وفي النهاية هو لا يقيم في أي مكان!
أتصوره الرجلَ الذي أمامي ذا القفا الرفيعة: يتلكأ في سيره في انتظار أن أصل إليه كأنما هو بعينين في قفاه يراني. وعندما سأصير بمحاذاته تماما، أو خلفه وفي متناول قبضته سيخرج يدَه المخبأة تحت السترة ليفاجئني بالضربة الغادرة / أو لعله ذلك الأربعيني الذي يجرب رفع الأثقال في ساحة (( جامع الفناء)) متخفيا في هيأة البدوي الساذج الوافد حديثا على المدينة، والمتنقل بين الحلقات على مدار الساعة / ربما هو شرطي المرور الواقف بهيبة في كل المدارات ببذلته الصيفية الأنيقة، ينظم حركة المرور بمهارة، لكن عينه أبدا لا تغفل عن أثري/ وقد يكون ذلك الرَّجلَ الأحمرَ الغامض: الموسيقي الجوال ذا المعطف الأحمر والقبعة الحمراء والسروال الأحمر الذي يكشف قصره عن ربلتين عجْفاوَين؛ يُغني بلهجات شتى ويستقطر أعذبَ النغمات من كمانه الأحمر الذي صنعه بنفسه، وفي لحظة المواجهة سيستحيل كمانُه خنجرا أو ساطورا وحمرته القانية دمي..
هو كل هؤلاء جميعا، و هو ـ أيضا ـ لا أحد!
بلا رحمة صارت تتناهشني الأوهام وتعذبني الأسئلة: هل وجوده حقيقة أم محض وهم؟ واقع أم خيال مريض سيفضي بي إلى الجنون؟ أم هو محض فكرة خرقاء ستستمتع بتعذيبي إلى حين ثم تتبدد؟
* * *
كانت نظرة الاستخفاف لا تزال تتراقص في عينيه، وخيل إلي أن كدَرَ الحقد ازداد فيهما فجنح ببياضُهما إلى السواد.
في لقاءاتنا المعدودة التي سلفت، لم يكن يبقى إلا لماما.. فقط ريثما يتأكد من أنني رأيته ثم يجلدني بتلك النظرة الحاقدة، ويصلب فوق شفتيه الغليظتين ذَاتَ الابتسامة الساخرة والمتوعدة مثل جرح غائر في الوجه، ثم يتوارى في عتمةِ زقاقٍ أو يتلاشى ببساطة في الزحام..
لكنه هذه المرة لبث واقفا في مواجهتي، دون أن يتزحزح من مكانه قيد أنملة! أخذنا نحدِّق في بعضنا البعض في ما يشبه التحدي، وانصرمت الثواني طويلة ثقيلة الوطء..
تشنجَت أطرافي بعد أن ضغطت عليها طويلا لمنعها من الارتعاش، لكني تجلدت: لقد قررت ألا أكون فريسة سهلة!
دون أن يدع أحدُنا الآخرَ يخرج عن مجال رؤيته تقدمنا معا، حذرين متحفزين، باتجاه وسط الساحة.
بلغنا حلقة من الحلقات فانفتحت دائرتها في موضعين سمحا لنا بالمرور ومواصلة السير. تنحى الراوي جانبا دون أن يعترض على اقتحامنا لحلقته المزدحمة بالجمهور، ولما تجاوزنا الحلقة عادت لتلتئم من جديد، وصفق الراوي بيديه إيذانا بالعودة إلى أجواء حكايته.
استحالت نظراتُنا المتبادلةُ خطا من نار ممتدا بيننا. كنا نتحرك في خطين متوازيين باتجاه قلب الساحة الصاخبة المكتظة بمرتاديها. لم يكن أي منا ينظر إلى موطئ قدميه، مخافة أن يفقد تركيزه. أي لحظة سهو من أحدنا قد يستغلها الآخر لينقضَّ على غريمه ويصيبَه في مقتل.. مع ذلك كنا نتقدم بلا أدنى عرقلة في الساحة التي كانت تجذبنا إلى وسطها كما تجذب المغناطيسُ بُرادَتي حديد. والغريب أن الحشودَ بدت كما لو كانت متواطئة معنا: تفتح لنا ممراتٍ لنتقدم بسلاسة إلى وسط الساحة، دون أن نصطدم بأحد أو يُعيقنا شيء!
وصلنا حلقة ضخمة تتوسط قلبَ الساحة. في اللحظة التي دخلناها بسلاسة من خلال فجوتين انفتحتا بغتة كان راوي السِّير مستغرقا في الحكي وقد جفَّ فوق زاويتي فمه زبدٌ أبيض. بحركة مسرحية متقنة وضع إحدى يديه جهةَ الحزام ثم رفعها إلى أعلى راسما بحركته نصفَ دائرة في هيأة من يستَلُّ سيفا من غمده، وقال موازيا بين حركته والكلام، فيما عيناهُ شاخصتان إلى أعلى: ((.. واستل الآخر سيفَه البتار، وحانت لحظة المواجهة. نظرا إلى بعضهما البعض ومن عينيهما تطاير الشرر، وأسرَّ كل منهما لنفسه: أنا ـ لا محالة ـ اليوم قاتل أو مقتول، فلأُجْهز على عدوي بلا إبطاء..))
أنهى كلامه ثم انسحب بسرعة مندسا بين الجمهور، بعد أن جمع عدته المتقشفة، وتركنا وحيدين وسط الحلقة، كأنه ممثل مغمور أدى دوره ثم اختفى في ظلمة الكواليس.
شرع الجمهور يتراجع إلى الخلف من جميع جهات الحلقة التي كان قطرها يتسع شيئا فشيئا، إلى أن اصطدمت أجسادُهم بجمهور الحلقات الأخرى وصدتهم كراسي وطاولات المطاعم المُعدة على أطراف الساحة..
تدفَّق المزيد من الحشود باتجاه الحلقة التي تضخمت أكثر إلى أن غدت سوارا سميكا مُحكمَ الاستدارة، وبدت كطوقٍ بشري منيع يستحيل النفاذ منه؛ حتى لو جَبُن أحدنا وأراد أن يفر بجلده فإن جدارَ الحشد سيعيده مُرغما إلى ساحة الموت..
حانت مني التفاتة خاطفة نحو الجماهير فإذا هي تصرخ بهستيرية وتُلوِّح بقبضاتها المرفوعة، كأنما تستحثنا على القتال. أرى أفواههم تنفتح وتنغلق دون أن تبلغني أصواتهم، فقد خرست ـ لحظتها ـ كل الأصوات التي كانت تهدر في الساحة، وإن بقيت حاضرة مثل خلفية صامتة، ولم أعد أسمع سوى طنين حاد مسترسل، كأنما صُمَّت أذناي..
شرعنا نتحرك ببطء في مدار الحلقة مثل مُصارعَيْن، وقد بلغ منا التركيز مداه. كان اللعين يحاصرني بنظرة الاستخفاف ذاتها، فيما غَدَت عيناه كُرتي لهب.
قمنا بدَورة كاملة على الحلقة الضخمة، ثم عاد كل منا ليقف في مكانه الأول متأهبا للقتال.
سرَت في عروقي قوة لا عهد لي بها، وأحسستُني أشدَّ ما أكون شراسةً وقدرة على القتال، فدنوت من غريمي غير هيَّاب. حدَّقت فيه / كذلك فعَل، فتشابكت نظراتُنا في الفراغ مثل حبال لا تُرى. تقدمت خطوة فدنا بمثلها. و لحظَةَ هممتُ بالانقضاض عليه ضربتُ بقدمي الأرض فارتجت من تحتي. من صدري انفلتَت صيحةٌ عظيمة أوشكَت أن تشقَّه، أغمضتُ على إثرها عينيَّ وهويتُ إلى قاع غيبوبة عميقة وخاطفة تشبه النوم، لم أدرِ مقدار ما استغرقَت من وقت.
عندما استعدتُ وعيي ألفيتُني وحيدا وسط الساحة التي أقفرت فجأة من البشر.. أين الحلقات والرُواة؟ أين الفِرق الموسيقية؟ أين مرتادو الساحة الذين ضج بهم المكان منذ لحظات فقط فكأنَّه قَفيرُ نحْلٍ؟..
أرى ريحا خفيفة تبعثر أوراق اللعب التي تركها المشعوذون وقارئاتُ الكف تحت مِظلاتهم المتهرئة وغابوا لا أدري أين. وهناك على طرف الساحة قِردةٌ تائهة تركها المروضون تلهو بحبات ذرة قذف بها نحوها أطفالٌ جذلون كانوا هنا.. موائدُ الأكل فارغة ومن القدور يتصاعد البخار؛ كأنما لم تكن الحشود تنقض منذ لحظات فقط على محتويات الصُّحون والأطباق بشراهة كأنها تأكل آخر قوت على الأرض.. وحيدٌ أنا الآن هنا وسط الساحة، وما من غريمٍ أمامي! دخانُ المواقد وبخارُ الأطعمة لا يتبددان، بل يتجمعان في فضاء الساحة ويُحيطان المكانَ بهالة رمادية..
رنوتُ إلى أصابعي فإذا أظافري قد استطالت وصارت مخالبَ حادةً تلمع كالنِّصال، و في داخلي تأجَّجت شهوةُ القتل.. حينذاك نظرتُ أمامي وقلتُ لي كما لو كنت أراني في مرآة: ” الويل لك! “.. وفي بدني أنشبتُ مخالبي، وما همَّني من أين ابتدأتُ ولا كيف سأواري سوْءة نفسي..
………………….
*من مجموعة “الزرافة تظهر في غابة الأسمنت” الفائزة بجائزة الطيب صالح ـ الدورة السابعة 2017
*كاتب من المغرب