محمد حسن خليفة
يبعد عن قريتنا بثلاث قرى، تُدعى قريته ب “السِبيل” يصلى الفجر ويركب حماره الأبيض متجهًا نحو قريتنا، يُحمل الحمار بالمتاع من النعناع والشبت والبقدونس والفجل والكرات والكزبرة، ما لذ وطاب من الأرض، قريتنا أول وجهته، يبدأ بشارعنا أولاً.
يصيح عاليًا بصوته العذب الممتلئ بالنغمات على بضاعته، فى السابعة يكون قد وصل، ومن أجله تتهافت الأمهات لشراء احتياجاتهم منه.
لم أكن أعرف اسمه إلَّا عندما نادته جدتي بالعَمّ إبراهيم، أول مرَّة رأيته فيها كان شاحب الوجه، هزيل الجسم، صفراء أسنانه من فرط الشاي والسجائر، والسواد يملأ أسفل عينه نتيجة مرضه.
كنت أخاف النظر إليه، أظل أفكر لِمَ هو هكذا؟ هل هناك أسرة تهتم به؟ هل له أطفال أو زوجة؟
وعند السؤال عليه لم أكن أجد إجابة ترضينى.
فجدتى تخبرنى أنه قليل الكلام، ولا يعارض كثيرًا الزبائن فى الأسعار، مما يجعل الزبائن يا ولدى تماطل معه فى السعر، وهو ينزل على رغبتهم، مع أن أسعاره لا تتعدى النصف جنيه أو جنيهًا كاملًا، إلَّا أن الناس يا ولدى ينتظرون أي فرصة لممارسة القوة على الأقل منهم، تمامًا كما تفعل الدولة معهم.
الناس فى غربة، إلَّا أن عَمّ إبراهيم غربته أقوى ومثيرة أيضًا، رجل لا تعرف عنه شئ، كلّ ما تعرفه اسمه ووظيفته، تخشى النظر فى وجهه بسبب المرض الذي أهلكهه، رغم ذلك تشفق عليه، تتمنى أن يكون حاله أفضل، بل يصل الأمر بك أن تحبه، وتنتظر مجيئه!
انقطع عم إبراهيم عن المجئ للقرية والشارع ثلاثة أشهر، خلال تلك المدة لَم يشرب أحد فى الشارع الشاى بالنعناع!
الأحاديث عن هذا الرجل العجوز الذي يأتى كلّ يوم للقرية محملًا ببضاعته على حمار أبيض منذ ما يقرب العشرة أعوام ويشترى منه جميع الناس النعناع والفجل، وفجأة ينقطع عنهم! أصبح الحديث الدائر فى كل بيت، والموضوع الأهم، إذ لَم يكن يشغل الشارع أحاديث ذات أهمية كبيرة، كيف وهو لَم يُخلف يومًا لَم يأتى فيه.
لا أعرف ما الذي جعلنى فجر هذا اليوم مستيقظًا يأبى النوم أن يأتينى، التقطت حينها كتابًا من المكتبة وجلست فى البلكونه أطالعه على ضوء شروق الشمس الذي يأتى من بعيد مترددًا.
الساعة السابعة الآن ولَم أمل من القراءة! الشمس أصبحت تغمر المكان، الشارع فارغ إلَّا من أصوات العصافير، أغلقت الكتاب فجأة ورحت أتجول بعينى فى الشارع من أوله لآخره حتى تسمرت عينى على المَنزلة!
نعم هو العَمّ إبراهيم راكبًا حماره، يصيح على بضاعته بصوتٍ عذب كلّه نغم
“اللى عايز الجرجير، شبت وبقدونس وفجل، نعناع أخضر”
حتى توقف أسفل البلكونة وبخفة شديدة قفز من على حماره وأخرج كُوزًا ممتلئًا بالماء وراح يرش به عيدان النعناع وحِزم الفجل والجرجير.
أنا غير مدرك لِمَا أراه الآن، الجسد الهزيل صار بنيانًا قويًا، والوجه الشاحب بات مُكتنزًا تقفزُ منه الحُمره، وتحت العين اختفى السواد دون رجعة، الحركة سريعة، اللسان لا يكف عن الحمد والتسبيح، وإبتسامة نضره تعم الوجه.
أسمع صوت هرجلة وتقلبات فى الأسِرَّة، همهمات وحيره، وأسئلة كثيرة.
هل هو أم أحد غيره؟
بعد دقيقة كانت الجدة فى الشارع تُسارع الخطى تستقبله فَرحه غير مصدقة.
_ليك وحَشة يا عَمّ إبراهيم، فينك يا راجل؟
_أنا أهو يا ست الكل
_غيبة طويلة!
_غصب عنى، المرض تملك مني
_مرض إيه يا راجل؟ ما وشك زي البدر أهو!
_ده فضل ربنا عليّ، بعد شهر رقدة فى السرير لا حول ولا قوة، وأنتِ عارفه لا ليا عيل ولا تيّل، نصحوني ولاد الحلال أروح النوبة!
_النوبة! تعمل إيه؟
_شيخ قبيلة نوبية كان فى مسجد القرية، لما شاف حالتي اللى لا تسر عدو ولا حبيب، أصر يعالجنى هناك فى النوبة. استقبلنى فى بيته، من الفجر بعد أن نصلى ونفطر، نمشي لآخر جبل فى قريته، وهناك فى الرمل يقوم بدفنى وينثر عليّ الرمل، حرارته لا تطاق كأننى دخلت جهنم، ثم بعد وقت محدد يعلمه هو ويقوم بحسابه يخرجنى من الرمل ونعود مرَّة أخرى لبيته الواقع فى أول القرية.
البيوت تشبه بعضها، القلوب صافية، والوجوه التى تشاهدها فى الذهاب والعودة لا تعبس فى وجهك أبدًا، بل تجدها تبتسم عن طيب خاطر تضحك بكل ود ومحبة، لا تكن لك أي ضغينة.
زين لم يكن إلَّا إنسانًا عاديًا، بل أقل من العادي، رغم هذا أهل قريته ينصبونه كبيرهم ويلجأون إليه فى مشاكلهم، يجدون فى بيته الراحة والألفة، مُقيمون عنده، باب بيته الخشبي ذا اللون الأخضر المرصع بقبضة نحاسية لا يُغلق مهما كان، زين وهب نفسه لأهله. هو الأب لهم، رغم أنه لم يتزوج إلَّا أن كل ما فى القرية من أولاد وبنات هم أبناء له. لا يُغلق فى وجهه باب، كل الأبواب مفتوحة بإذن الله، هكذا كان يذكرنى دائمًا، يا إبراهيم توكل على الله فالأبواب مفتوحة بإذنه.كل يوم نكرر هذا المشوار وعملية الدفن هذه ونثر الرمال ونعود ثانية. بعد شهر فقط وجدت نفسي يا حاجة سليم البدن، وشهية مفتوحة لا تقول لطعام لا مهما كان لونه. أود أن أصارع الأُسُود بما حل بي من قوة، بعد يومين راحة أرغمنى على الجرى بعد الفجر إلى الجبل لمدة أسبوع كامل. لَم أجد فى ذلك تعبًا بل وجدت راحة.
فى الأسبوعين التاليين كان يصف لي زيوت كثيرة وأقوم بدهَان الظهر والساق والكعبين والذراعين.
فى الأسبوع الأخير كنت أرمح مثل الحصان فى القرية، الكل يعرفني، يشاورون عليّ ويقولون: “أتى مع الشيخ قعيدًا، الآن تراه كالنحلة لا يهدأ”
_بركاتك يا شيخ، إلَّا اسمه إيه يا عَمّ إبراهيم؟
_اسمه الشيخ زين
_أمانة عليك يا ولدى تكلمه أو توصلنى بيه، رجلى ضعفت، العظم نخرب السوس فيه.
_أنتِ تؤمرى ياحاجة
_كل الناس فى الشارع خرجوا، الأمهات والبنات، حتى الرجال تركوا النوم، كلهم يودون السلام على العَمّ إبراهيم، وانا واقف فى البلكونة أشاهدهم وأشاهده، كأن زين هذا هدية من الله أرسلت له فاغتنمها ولَم يبارحها حتى أتم الله شفاءه.
ضجة عارمة فى الشارع، تحول المكان إلى سوق كبير البائع الوحيد فيه العَمّ إبراهيم.
هذا يصيح من بعيد أعطنى حزمة سبانخ وملوخية!
آخر بقدونس وكزبرة، وهذا يطلب نعناع السِبيل من العَمّ إبراهيم
الكلّ يتبارى من أجل شراء أي شئ منه، لا يجادلون ف السعر يدفعون كما يقول بل بعضهم يدفع بزيادة.
جاءت من الزحمة هذه الدعوة “الله يكرم الشيخ زين اللي ما شفته عنينا، وجالك نجدة”
الجدة تخبر عَمّ إبراهيم أن غداه اليوم عليها وفى بيتها، يبتسم لها لكن يرفض بأدب والخجل يعلو وجهه.
_أنت حر، دي ملوخية، وهتحبس بشاي بنعناع بعدها.
_دايمًا عامر يا ست الكل، كلك كرم وأصل.
_أنت وعدتنى هتكلم الشيخ زين، أو توصلنى بيه.
_وعد الحر دين عليه! راح أزوره مرَّة ثانية هو شيخي وأنا من مُريديه، له عليّ حق، وزيارته واجبه.
حين غادر العَمّ إبراهيم الشارع لَم يكن بقى من حِمله شئ، بضاعته كلها مباعة.
اتجه نحو المَنزلة بحماره، يمتلئ صدره بالرضا، خفيفًا مرحًا لا تغادره الإبتسامه، ومن بعيد يلوح بيده.
لم يتبقى إلَّا الغبار الذي خلفه الحمار وراءه، بعد دقائق قليلة كانت الجدة تنادي عليّ بصوت عالي كي أنزل للفطور والأهم لأشرب الشاى بنعناع السِبيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من مجموعته الأولى “إعلان عن قلب وحيد” الصادرة بمعرض الكتاب 2020 قبل وفاته بأيام