عبد النبي بزاز
تمتح قصص «عودة مكيافيلي» للقاص المغربي الصديق اروهان من مرجعيات متعددة، منها ما هو وجودي فكري بتعالقات أسئلته، وعمق بحثه في ثنايا الأنطولوجي، ونبشه في أضابير المغيب المنسي، وما هو اجتماعي في رصده لما يعج به المحيط الخارجي من مفارقات واختلالات عبر عناصر حكي يستغرقها الزمان بتداعياته وامتداداته، وموضوعات يتوزعها الحلم والكتابة بطابع وصفي تخترقه بلاغة التشبيه في أبعاده المجازية.
تطالعنا أولى نصوص المجموعة «لا شيء يعجبني..» بآفاق بحث مضن عن المعنى بحس فلسفي في عالم موسوم بالسعة والتباعد: ” أنا الباحث عن المعنى في الوجود.. الفيلسوف التائه.. ” ص 9، مستحضرا جهابذة الفكر والفلسفة كسقراط: ” فتذكر قضية سقراط الفيلسوف.. ” ص 17، ليغوص في متاهة تفكير تتشعب مسلكياته، وتتعدد اتجاهاته: ” لا يدري فيما يفكر، ولِمَ يفكر ؟ في الوجود.. في العدم… ” ص 20، حيث يحاصره سيل من أسئلة تداهم ذهنه، ويزدحم بها خاطره: ” أسئلة مؤرقة جالت بخاطره دفعة واحدة… ” ص 21، دون الظفر بجواب يحدد أفق تفكيره، ويلملم شتات أفكاره: ” بلع سؤالا دون أن يجد له جوابا شافيا… ” ص22،راصدا، و مصورا ما يعج به محيطه من آفات تنخر كيان المجتمع، وتضاعف من تفاقم شروخه وتصدعاته كما يحيل على ذلك نص «كبياض الثلج..»: ” كيف لهذا المكان الذي لا يهدأ من صخب وضوضاء المعطلين…؟ ” ص 27، في إشارة إلى معاناة حاملي الشواهد من أجل الحصول على شغل يدرأ عنهم الغرق في متاهات مجهول مشرع على اليأس و الضياع في غياب سياسة تشغيل محددة المعالم والأهداف.
وتتوزع قصص الأضمومة بين أزمنة الماضي عبر عنصر الاسترجاع: ” داخل غرفته تقوقع يسترجع تفاصيل كل شيء… ” ص 10، بالعودة للنبش في زمن الطفولة، وما تختزنه من صور وأحداث لم تطمسها عاديات النسيان: ” تعقبت أثر الطفولة والذاكرة ذات يوم.. ” ص 13، والحاضر الذي يحرص على الاحتفاظ بتوهجه وزخمه: ” تزاحمت صور شتى كادت تفقدني علاقتي بالزمن الحاضر.. ” ص 15، فالعلاقة بالزمن عبر آليات الاسترجاع ( نوستالجيا الماضي في حقبة الطفولة )، والتوق لحاضر تشتد الرغبة وتتأجج في الارتباط به، وعدم التفريط في تجلياته وأبعاده.
ومن الموضوعات التي تزخر بها قصص المجموعة الحلم في مختلف تشكلاته و تمظهراته: ” تمنى لوكان الحلم واقعا… ليست كل الأحلام سيئة ” ص 69، مطلقا العنان للسفر والترحال في أجواء الحلم كبديل عن واقع تجهض فيه الآمال، وتتحطم الأماني: ” تسقط في الحلم… تستيقظ… ” ص 59 ليشيع في النفس أثرا جميلا جم المتعة، غامر اللذة: ” وحين تذكر الحلم اللذيذ الذي ملأ ليلته. ” ص 68، وموضوع الكتابة كهاجس يسكن ذاكرة السارد ووجدانه، وهَمّ يلازمه في كل حركاته وسكناته: ” أصابته حمى الكتابة… ” ص 22، فهي الداء والدواء، العلة والبلسم. تسطو على المشاعر، وتسيطر على الفكر لالتقاط ما يحفل به المحيط القريب من صور ومشهديات تلزم التدوين، وتحتم التصوير و التعبير: ” لم يمنع وردان من أن يترجل وحيدا، لعله يتمكن من التقاط لحظات يستغلها في كتابة روايته الجديدة… ” ص23، فعل يتكرر ما يفتأ ينتأ في ثنايا المجموعة: ” دلفت إلى مكتبي، أخذت قلما وورقة وطفقت أكتب..” ص 73. ومع فعل الكتابة تحضر أدوات وعناصر تخلع طابعا جماليا على نسيج الحكي ومكوناته كعنصر التشبيه في نص «وجوه عابرة..»، حيث نقرأ: ” فجاءه الصوت مبعثرا كأوراق الخريف… ” ص 10، أو في نفس النص: ” توحدا ككرة ثلج باردة.. “، وقصة «الذاكرة..»: ” لكنني تجمدت كتمثال بلا حياة… ” ص 7، مع توظيف «المونولوغ» لاستجلاء ما تمور به الدواخل من أحاسيس، وما يجول في الذهن من خواطر مما يضفي على المتن السردي عمقا تعبيريا و بعدا دلاليا، فتتكرر عبارات من قبيل: (همس في سره…، وطفق يحدث نفسه…، يهمس في نفسه متعجبا… )، مقرونا بصفة التعجب، و( غمغمت بينها وبين نفسها… ) بشكل «غمغمة» تفتقر للإفصاح والتصريح.
وتحضر «التيمة» الغرائبية لتمنح قصة «عودة مكيافيلي..» نزوعات ذات طابع انزياحي ينأى بها عن النمطية السردية في خطية سيرورتها القصصية: ” أدار وجهه ناحيتي فإذا به مكيافيلي نفسه.. كدت أجن من هول الصدمة… أأنت.. أنت مكيافيلي..؟ ” ص 35 حدث ينم عن خلفيات فنية تتغيا خلق واقعة تشذ في سياق حكيها عن نمطية القص ونسق صيرورته ببعث شخص كمكيافيلي من عصور غابرة، وتطويقه بسيل من أسئلة تعمق جانب الغرابة، وتشرعه على آفاق تأويلية متشعبة: ” قلت محاولا دفعه إلى حوار حقيقي…: ماذا تفعل في زماننا هذا؟ ” ص36، ليتجاوز عتبة الدهشة والاستغراب إلى مساءلة تروم إقحامه في أجواء الحكي، وتجريده من هالات إرث معرفي موغل في أعماق التاريخ الكوني،والحضارة الإنسانية عبر سفر عجيب إلى زمان غير زمانه في مواجهة سارد لم يثنه هول الصدمة، ورهبة الحدث من تطويقه بأسئلة ترتبط بماهية سفره الغريب من زمانه الغابر إلى زمان السارد الحديث. كما تبرز في نص «الوالي..» إيمان فئة من المجتمع بمعتقدات خرافية من خلال اعتقادهم الراسخ ببركات الوالي، واستجابته لطلباتهم المستعصية على التحقق بسلوكيات تفتقر لأي حس منطقي: ” وضعت إحداهن سكرا وأخرى قطعا نقدية، تدحرجت فتاة بحثا عن زوج يقيها شر عنوسة نخرت شبابها.. كانت تردد: ـ يا سيدي الوالي.. شي راجل يسافر بيا.. ” ص 61. الشيء الذي يعكس مستوى الوعي المتدني لدى شرائح عريضة من مجتمع يرزح تحت وزر جهل ممعن في الاستفحال والاستشراء.
قصص «عودة مكيافيلي» والتي حازت جائزة «رونق المغرب» للقصة القصيرة سنة 2017، يمنحها غنى «تيماتها»، وتعدد عناصرها ومكوناتها السردية زخما إبداعيا حافلا بميزات الخلق والابتكار.
………………………………..
ــ الكتاب: عودة مكيافيلي ( قصص ).
ــ الكاتب: الصديق اروهان.
ــ المطبعة: سليكي أخوين ـ طنجة / 2017.