اكتشف الانسان منذ القدم أن الخشب يطفو على الماء فاستخدم قطعا خشبية كبيرة من أجل عبور بحيرة صغيرة و مع مرور الوقت بدأ يطور صناعة مراكبه البحرية الى أن أضحت سفنا شراعية في أول أمرها الى بخارية الى سفن حديثة ذات دفع نووي و قد ساهم في هذا التطور العديد من الحضارات ابتداء من المصريين القدامى الذين ابتكروا الأشرعة الى العرب الذين زودوها بالاسطرلاب و البوصلة، ثم جاء الأمركان فبنى روبيرت فيلتون أول سفينة ذات دفع بخاري لأغراض تجارية ، مرورا بالبريطانيين و السويديين حيث سجلت سنة 1836 أول براءة اختراع باسم البريطاني فرانسيس بيتيت سميث و السويدي جون أريكسون بتطويرهما لمجاذيف دفع لولبية لقيادة القوارب البخارية ثم رجعت الراية للأمريكان بتطوير سفن ذات دفع نووي1
نمر كمسلمين على آية التفضيل هاته المذكورة آنفا مرور الكرام مفتخرين بتفضيل الاله إيانا بحملنا على البر و البحر دون أن نبحر في معاني الاية التي كانت الاشارة الالهية فيها بمثابة مجرد اقلاع عقلي روحي للمسلم من أجل خوض غمار التدبر القرآني، فإذا كان الأمر كذلك ، فيمكن أن نقول أنه إذا رجعنا الى كتب التفسير فإنها تحيلنا على المعنى القريب المتبادر الى الذهن وهو أن الله سبحانه و تعالى يخبر عنتشريفه لبني آدم وتكريمه إياهم في خلقه لهمعلى أحسن الهيئات وأكملها كما قال ” لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ” [ التين 4 ] وغيره من الحيوانات يمشي على أربع ويأكل بفمه وجعل له سمعا وبصرا وفؤادا يفقه بذلك كله وينتفع به ويفرق بين الأشياء ويعرف منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدنيوية والدينية“وحملناهم في البر“أي على الدواب من الأنعام والخيل والبغال وفي ” البحر أيضا على السفن الكبار والصغار“ورزقناهم من الطيبات“أي من زروع وثمار ولحوم وألبان من سائر أنواع الطعوم والألوان المشتهاة2 .
يبقى التساؤل الكبير مطروحا فهل تميز الانسان عن سائر المخلوقات فقط بركوبه الدواب البرية و البحرية المخلوقة منها و المصنوعة أم أن الأمر يتعداه الى مغزى عميق نبهت له كل الديانات كأساس و هدف أسمى وهو “تلبس الأخلاق المحمدية ” مصداقا للحديث الشريف “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” لكن العقل الإسلامي تلهى عن هذا المغزى الى قشور شعائرية ظانا أنها المراد الالهي الأوحد من الخلق ، في حين كانت هي فقط الوسيلة و السفينة التي تحقق القرب منه سبحانه و تعالى لكن ليس الا عبر استحضار الهدف الأعلى هو “تلبس الأخلاق المحمدية ” في فلسفتها العميقة المبنية على نسق أخلاقي قيمي يربط بين الوحي و الفطرة ، فالأخلاق منها ما هو مفطور فينا، و منها ما استعان العقل فيه بنور النبوة لتتضح له الرؤية.
لن يستقيم حال البشرية الا إن هي استنارت بنوري العقل و الوحي ، راكبة سفينة “الشريعة” أو ” العقل الأخلاقي ” كفلسفة عميقة و ليس كقشور شعائرية و بعقلية مرنة غير متحجرة، من أجل التحقق بمرضاة الاله في هذه الحياة الدنيا قبل الآخرة، و مرضاته لها أمارات و علامات تتبدى للامة الوسط حين تتحقق فعلا بوسطيتها التي أرادها الحق لها ، فلا هي تعيث في الأرض فسادا إن أذن الحق بعلوها على الأمم، و لا هي أمة قصعة3 تتداعى عليها الأكلة، لا يد لها و لا قوة في إبعاد الأكلة عنها.
…………………….
*أكاديمي و باحث مغربي
1، انظر تاريخ السفن و أنواعها ، محمد طارق، بتصرف.
2، انظر مثلا تفسير ابن كثير للآية.
3،مقتبس من الحديث النبوي الشريف :عَنْ ثَوْبَانَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : ” يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَتَدَاعَى عَلَيْكُمْ ، كَمَا تَتَدَاعَى عَلَى الْقَصْعَةِ أَكَلَتُهَا ” ، قِيلَ : أَوَ مِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ : ” لا ، بَلْ أَنْتُمْ أَكْثَرُ ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ , وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ , وَلَيَقْذِفَنَّ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ ” ، زَادَ مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ فِي حَدِيثِهِ , قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا الْوَهْنُ ؟ قَالَ : ” حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الآخِرَةِ ” .