إبراهيم مشارة
يعتبر العقاد ظاهرة أدبية وفكرية خارقة في دنيا الفكر والأدب فهو كالجاحظ أديب موسوعي لم يقصر نشاطه على حقل من حقول المعرفة وإنما سعى إلى الثقافة ككل ونظر إليها على أنها كل لا يتجزأ.
والذي يبهر في هذا الكاتب عصاميته فهو إن اكتفى في تعلمه النظامي بنيل الشهادة الابتدائية فقد كدح في سبيل المعرفة كدحا وأخلص في طلبها مضحيا بالزوجة والولد ومتاع الدنيا مكتفيا بما يسد الرمق ويحفظ ماء الوجه.
وأما الصفة الثانية الباهرة فيه فهي حبه للحرية وإيمانه بأنها أساس صلاح الفرد وتعلقه بالحرية دفعه إلى الذود عن كرامته والاعتزاز بنفسه حتى لكأنه أحد آلهة الإغريق. ولقد كان لويس عوض على حق حين قال :
” صورة العقاد عندي لا تختلف عن صورة هرقل الجبار الذي يسحق بهراوته الأفاعي والتنانين والمردة وكل قوى الشر في العالم” .
مارس العقاد النقد والتراجم والمقال وأخرج كتبا آية في تحري الدقة العلمية والحقيقة مستعينا بقلمه السيال وبثقافته الجبارة في شتى شؤون المعرفة.
فلقد عرف العقاد “بالعبقريات” وبقصة “سارة” و”بالديوان في الأدب والنقد” وبسيرته الذاتية “أنا” وبهذه المؤلفات شاع بين الباحثين والأساتذة والطلبة.
غير أن الثابت أن الذي كان يحز في نفس الأستاذ العقاد- رحمه الله- أنه
لم يشع كشاعر وأن شهرة حافظ وشوقي كانت تؤلمه أعمق الألم ، ولاغرو
في ذلك فالعقاد يرى أن الشعر مقتبس من نفس الرحمن وأن الشاعر الفذ بين الناس رحمن أوليس هو القائل ؟:
والشعر من نفس الرحمن مقتبس
والشاعر الفذ بين الناس رحمـن
بلى فالشاعر تفضي إليه ألسنة الدنيا بأسرارها فهو روح الوجود وضميره والشاعر أعلى درجة من غيره ومن وصل إلى هذه المرتبة فقد حقق أعظم مأرب في الحياة.
ولقد أخرج العقاد عدة دواوين شعرية وأعطاها عناوين تتماشى وسني عمره ” يقظة الصباح” ،”وهج الظهيرة” ،” أعاصير مغرب” ،” أشجان الليل” وديوان آخر رصد فيه وقائع الحياة اليومية على عادة شعراء الغرب جعل عنوانه ” عابر سبيل”.
ويجدر بنا قبل التطرق إلى شعر العقاد أن نعرف موقفه من الشعر فلقد عرف الكاتب الشاعر بخصومته العنيفة لأنصار شعر التفعيلة ولما كان عضوا بالمجلس الأعلى للآداب والفنون ومقررا للجنة الشعر كان يحيل قصائد التفعيلة على لجنة النثر للاختصاص ، فلقد حارب هذا النوع من الشعر وكان يسميه الشعر السائب . فهو من المحافظين على عمود الشعر دون الخروج على الأوزان الخليلية فالوزن والقافية هما حدا الشعر وما يميزه عن النثر، والشاعر الفذ هو الذي يعبر عن أفكاره وأحاسيسه محافظا على الوزن والقافية دون أن يحد الوزن من قدرته التعبيرية .
إن الشعر عند العقاد فن محكوم بالقيود وهو مناورة بها يتميز الشاعر عن الشويعر والشعرور.
ولم يقف العقاد عائقا أمام سنة التطور فالتجديد في الشعر ضرورة من ضرورات العصر وقد مارسه أجدادنا فأبدعوا الموشحات والأزجال والمجزوء ومخلع البسيط ونوعوا القوافي حتى تتأتى المرونة في التعبير وتتحقق المتعة الفنية ويتحاشى السأم من الرتابة المملة في الوحدة، وهكذا مارس العقاد التجديد في الشعر بتنويع القافية واستعمال المجزوء والاستعانة بالبحور الخفيفة كالرمل والخفيف والمتقارب والمديد ، وأضاف الى ذلك قصر الشعر على الوجدان وقد كان شعار مدرسة
الديوان بيت لعبد الرحمن شكري:
ألا يا طائر الفــــــــــــــردو
س إن الشعر وجــــــــــدان
وتحاشى المديح الزائف والرياء الكاذب والمبالغة الحمقاء وفي ديوان
“عابر سبيل” قصر الشعر على هموم الحياة اليومية كقصيدة الكواء، ليلة العيد وفي هذا الديوان بالذات قصيدة في طفل صغير شرب على وجه الخطأ الجعة فاستمرأها واستحلاها فيقول العقاد على لسان الطفل – وهو إمعان في الواقعية الشعرية والصدق الفني- :
(البيلا ، البيلا ) عوض البيرة البيرة لأن كثيرا من الصغار ينطقون الراء لاما .
وهكذا فقارئ شعر العقاد يقف أمام عمارة نحتت أحجارها بأزميل وأحجارها من جرانيت أسوان لا يبهرك الجمال في تلك العمارة بقدر
ما يبهرك الجلال .
فالعقاد كما يرى تلميذه زكي نجيب محمود شاعر الجلال ، ولنا في تفسير نزوع الشاعر هذا المنزع رأي مستمد من التركيبة النفسية للعقاد المنبهرة بالبطولة الممجدة للأبطال ولعل قامته الهرقلية وعصاميته الأسطورية زادتا في تقديره لنفسه ومواهبه ومن ثمة إعجابه بشخصه وهو موقف يؤدي بصاحبه إلى العزلة في جبل الأولمب مع آلهة الإغريق ويصبح الجليل والعظيم هو ما ينزع إليه ذلك الشخص، ولسنا ننفي صفة الجمال الفني عن شعره ففي بعض قصائده لمحات فنية جميلة ، اقرأ شعره في وصف الشاعر واكتناه أغوار نفسه واستمتع بكلماتها الفنية الجميلة:
يجني المودة مما لا حيــــــاة لــــــــه
إذا جفاه من الأحيـــــاء خـــــــــــوان
ويحسب النجم ألحاظا تساهـــــــــره
والودق يبكيه دمع منـــه هتــــــــــان
إذا تجهم وجه الناس ضاحكــــــــــه
ثغر الورود ومال السرو والبــــــان
تفضي له ألسن الدنيا بما علمــــــت
كأنما هو في الدنيا سليمـــــــــــــــان
والشعر ألسنة تفضي الحياة بهـــــــا
إلى الحياة بما يطويه كـتــمــــــــــان
لولا القريض لكانت وهي فاتنـــــــة
خرساء ليس لها بالقول تبــيـــــــــان
مادام في الكون ركن في الحياة يرى
ففي صحائفه للشعر ديــــــــــــــوان
وفي قصيدة ” العقاب الهرم ” وهي قصيدة موحية بمعاني العظمة المقهورة بالزمن، إنها قصة عقاب هرم فعجز عن الصيد وصارت فرائسه تمرح أمامه نظرا لعجزة، وينسحب هذا المعنى على الأشخاص العظماء والدول الكبرى إنه الجلال عندما يشيخ، يقول الشاعر عن العقاب:
يهم ويعييه النـــهــــوض فيجثــــــــم
ويعزم إلا ريشه ليس يعـــــــــــــــزم
لقد رنق الصرصور وهو على الثرى
مكب وصاح القطا وهو أبكـــــــــــــم
يلملم حدبـــاء الــقــدامــــــى كـــأنـــها
أضالع في أرماسها تتهشــــــــــــــــــم
ويثقله حمل الجـنـاحيـــــن بعــدمـــــــا
أقلاه وهو الكاسر الـمتقــحــــــــــــــــم
إذا أدفأته الشمـس أغفـــــى وربمــــــا
توهمها صيدا له وهو هيثـــــــــــــــــم
لعينيك يا شيخ الطــيـور مـهــــابـــــــة
يفر بغاث الطير عنها ويهـــــــــــــــزم
وما عجزت عنك الــــغـــداة وإنـمـــــا
لكل شباب هيـــبة لا تهــــــــــــــــــرم
وفي قصيدته عن “أسوان” وقصرها الفرعوني العتيق الذي زاره الشاعر هنا نقف أمام الجلالين جلال المعمار الهندسي وجلال التعبير الفني عند الشاعر يقول العقاد:
رعى الله من أسوان دارا سحيــــقة
وخلد في أرجائهــا ذلك الـقـصـــــرا
أقام مقام الطود فيهـا وحـــــولـــــه
جبال على الشــطـيـن شــامخة كبـرا
وليلة زرنا القصر يعـلـــو وقــــاره
وقار الدجى الساجي وقد أطلع البدرا
قضى نحبه فيه الزمـان الذي مضى
فكان له رسمـا وكان لـــــه قــبـــــرا
فياوجه “أوزيريس” هــلا أضــأتـها
وأنت تضئ السهل والجبل الـوعرا
فما رفـعـــت إلا إلــــيــك تــجــلـــة
ولا رفعت إلا إلى عرشك الشـكـــرا
ولست ضنينا بالضــيــــاء وإنــمـــا
لكل إله ظلمة تحجــــــب الفــكـــــرا
وأحص مفردات العظمة والجلال في هذا المقطع من مثل :
الطود، شامخة ،كبرا، وقاره، قضى نحبه فيه الزمان، تجلة، رفعت، إله ……الخ
أما ناقدنا الكبير الدكتور شوقي ضيف فيري أن العقاد أقحم الفكر والمنطق في الشعر فجاءت قصائده دلائل منطقية ومسائل عقلية لغلبة الفكر والحجاج على الكاتب الشاعر العقاد وأنت واجد مثل هذا في شعره.
اقرأ هذا المقطع لتقع على صحة هذا الرأي:
وهذا إلى قيد المحبة شاخـــــــــص
وفي الحب قيد الجامح المتوثـــــب
ينادي أنلني القيد يا من تصـــــوغه
ففي القيد من سجن الطلاقة مهربي
أدره على لبي وروحي ومهجـــــتي
وطوق به كفي وجيدي ومنـكـبــــي
ورب عقيم حطم العقــــم قيـــــــــده
يحن إلى القيد الـثـقيل عــلـى الأب
فهذه فلسفة عميقة تؤكد أن لا حياة بلا ضرورة وأن القيود مهماز القريحة والإرادة الإنسانية .
أما هذا المقطع فهو زبدة التأمل والتفكير لا يتأتى إلا لأولي الفكر والحجاج:
والعقل من نسل الحياة وإنما
قد شاب وهي صغيرة تتزين
والطفل تصحبه الحياة وما له
لب يصاحب نفسه ويلقــــــن
إن العواطف كالزمام يقودنا
منها دليل لا تراه الأعيـــــن
على أن في بعض قصائد العقاد غنائية شجية استلها من مكنون ضميره وسلخها من تباريح وجدانه وآهات نفسه وقل في الشعر العربي من بلغ هذه الغنائية الحزينة حتى المتنبي الذي يقول :
يا ساقيي أخمر في كؤوسكما
أم في كؤوسكما هم وتسهيد؟
إن طلبت كميت اللون صافية
وجدتها وحبيب النفس مفقود
يقول العقاد :
ظمآن لا صوب الغمـــــــــــــام ولا
عذب المدام ولا الأنداء ترويـــــــني
حيران، حيران لا نجم السمــــاء ولا
معالم الأرض في الغماء تهديـــــــني
يقظان، يقظان لا طيب الرقاد يـــــدا
نيني ولا سحر السمار يلهينــــــــــي
غصان ،غصان لا الأوجاع تـبـليني
ولا الكوارث والأشجان تبكـينــــــــي
سأمان، سأمان لا صفو الحيـــاة ولا
عجائب القدر المكنون تعنينــــــــــي
أصاحب الدهر لا قلب فيسعدنـــــي
على الزمان ولا خل فيأسونـــــــــي
يديك فامح ضنى يا موت في كبدي
فلست تمحوه إلا حين تمحونـــــــي
وبعد : فهل العقاد شاعر ؟
وجوابنا:
نعم إنه شاعر ولئن طغت شهرته كناقد وقصصي وكاتب مقالات وباحث في سير العظماء فلن نبخسه حقه في إلحاقه بمملكة الشعر ، ونزعم أن له في وادي عبقر الهاتف الذي يزين له زخرف القول، وفي تقديرنا أن الشعر الحديث الذي جدد بهاءه وأحيى مواته البارودي وحافظ وشوقي ، ونفخت فيه روح الحياة جماعة “أبولو” برومانسيتها الحزينة والرابطة القلمية بانطلاقتها الوثابة، إن هذا الشعر بحاجة إلى دواوين العقاد وإن موقفه من الشعر صحيح سليم ولو أنه يفهمه كما فهمه كبار شعراء الإنجليز وديوان
” عابر سبيل” يعتبر فتحا في الشعر العربي بعد أن عفر جبينه أحقابا أمام قصور الخلفاء، فالشعر صورة من الحياة ونسل مبارك من رحمها وفي الحياة أطياف ومشاعر و طرائق قدد يتسع لها الشعر جميعا بما فيها الفكر وثمار العقل وهذه هي أهمية العقاد كشاعر.
ولعل نقيصته الوحيدة تحامله الشديد على شوقي لسبب نفسي أكثر منه فني ثم حملته الشعواء على شعر التفعيلة الذي توطدت دعائمه وبذخت صروحه وكان فتحا جديدا في حياتنا الأدبية.