جمال السعيدي
على غير هدى كان يركض بجنون.. مذعورا كأنه أرنب بري تلاحقه مخالب ذئب مخيف. ترتعش كل خلية في جسده من الرعب فلا يملك أن يستدير خلفه، أو أن يسترق نظرة خاطفة تهدَئ من روعه. مع أنه كان يدرك على نحو قاطع ألاَ أحد يلاحقه، والمطاردة غير واردة، إذ لم يكن على طول الرصيف كائن سواه..
برغم العيوب التي تشوب في الغالب أحياء مهملة على الهامش حول مدينة طنجة، برغم الندوب المتقرحة في دبر هذه المدينة، وظلال آثارها على طباع أهلها وسلوكات أبنائها، إلاَ أن سلمان بحكم انتمائه إلى أسرة نظيفة يدير شؤونها أب متعلم وقور، فقد نشأ هادئا رصينا منطويا على نفسه لا يخالط في بيئته العكرة أترابه ممن ساءت أخلاقهم وانحرفت ميولاتهم. وزاد في غربته أن تعلَق بقراءة القصص، يقبل عليها فلا يكاد يراه أحد إلاَ متأبطا كتبه. وكان في مظهره ذاك ما يدعو شباب الحي من جهتهم إلى أن يزهدوا في صحبته.. على هذا النحو أمضى سلمان أيام شبابه الأولى؛ وحيدا ترافقه قصص رومانسية تعيش بين صفحاتها شخصيات تحلَق به إلى عالم بديل يؤثث أحلام يقظته.
في بداية أيام الصيف الخاملة، في أول المساء، والقيظ لما يزل كاتما على أنفاس العباد، خرج سلمان يتلمس في الدرب الظليل بعضا من رطوبة المساء. ولم يكد يبتعد عن بيته خطوات حتى وقعت عيناه على شابة تروي أصصا صغيرة على حافة شرفة في نهاية الزقاق. كانت المرة الأولى التي يرى فيها هذا الوجه الفتيّ. “هذا البيت مهجور طيلة أيام السنة، ولا تفتح نوافذه إلا مع قدوم أهله من إسبانيا في مطلع الصيف، والظاهر أنهم لم يصلوا بعد.. فمن تكون هذه الجميلة..؟!” كذلك فكر سلمان متسائلا في استغراب.
تردد قليلا ورفع إليها عينين وجلتين، فراعه أن يجدها تقبل عليه بابتسامة عريضة محرّضة، لعلها كانت وراء إحساسه بجرأة لا عهد له بها. وجد نفسه يطيل النظر إليها ويبادلها البسمة بالبسمة.. وتطورت بدافع الرغبة وفورة الشباب لغة العيون إلى إشارات باليد. إنها تدعوه إلى الداخل، تدعوه هو دون غيره. التفت إلى الخلف مع أنه كان متيقنا من خلو المكان، فلم يجد غير جدران صماء دونها نوافذ وأبواب موصدة. تفتق الحبور بداخله وتراقصت دقات قلبه، لولا شعور حذر بالخوف دب في أوصاله بمزيد من القوة، نغص عليه فرحته وشل حركته فلم يبرح مكانه، مع أن إشاراتها الملحّة وحركات يدها كانت تقول صراحة: “البيت خال ليس فيه سواي.. تعال الآن!!”
طالت وقفته يتابع حركاتها في بلادة، حتى إذا غابت برهة عن عينيه، ظهرت ثانية عند الباب بكامل قامتها تومئ له برأسها وتحثه على خوض المغامرة.. انقادت رجلاه إلى نداء الطبيعة وصوت الحياة، ووجد نفسه يرتقي درجات بيت غريب يلفه سكون ثقيل. حتى إذا وصل إلى الطابق الثاني ألفاها في الردهة مسندة مرفقها الأيسر إلى باب الشقة على نحو مائع لعوب، وعلى شفتيها لمعت تلك الابتسامة ذاتها.. وهل هناك ما هو أقدر على صرع الرجال من نظرة شرهة تذكي نارها ابتسامة مائعة جسور.. فكيف بشاب غض طري العود، لم تطأ قدماه ساحة النساء قط، ولم يعرف في حياته امرأة غير أمه وجارتها الخالة يامنة !!
تخطى سلمان عتبة البيت واعترضه في صحن الدار سجاد أحمر مزدان بورود بيضاء، تردد عند حافته قليلا، أيدوسه بنعله أم.. وانحنى على قدميه يريد خلع الحذاء فتدخلت الشابة: “لا. لا عليك.. تفضل هنا!” وأشارت إلى أريكة تكسوها ملاءة صفراء تصدَ عنها الغبار. كان يشعر بهول الخطوة التي أقدم عليها، يجتاحه إحساس بالخزي من دخول بيت غريب في غفلة عن أهله، منصاعا لرغبة جارفة مستعرة لا طاقة له على ردَها.. وجاءه صوت الأنثى رنانا: “لدي عصير الخوخ.. هل تحبه؟” مع أن حلقه كان جافا، والهواء في البيت حار يضغط على رئتيه، وجد نفسه يرد بصعوبة: لا. لا.. شكرا!! وأصرَت هي بدلال: “كيف لا..!؟ بالتأكيد سوف تشرب شيئا باردا ” استجاب لها بصوت خجول: ” شربة ماء إذا أمكن”.
انطلقت تتهادى أمام عينيه الجائعتين، وعادت بعد وقت قصير تحمل في يدها كوب ماء يكسوه ضباب بارد، استلمه منها وأفرغه في جوفه دفعة واحدة، فيما اتخذت هي مكانها بقربه وغرقا في سكون مريب.. امتدت بينهما لحظة صمت تفوح منها رائحة الغواية، ما لبثت المرأة الشابة أن قطعتها:
– ما بك ؟ تبدو متوترا..
فرد بنبرة متشككة:
– لا.. لا شيء.. أخشى فقط..
وقاطعته بمرح وأناملها تعبث بطرف قميصها الأبيض الصيفي:
– لا تخش شيئا، أنا هنا بمفردي، جئت إلى بيت أختي أعتني بنظافته قبل أن تعود مع أولادها من إسبانيا. سوف تصل في نهاية الأسبوع.
رفعت إليه عينيها تبحث في وجهه عن أثر كلماتها المطمئنة، فضبطت عينيه تتأملان شفتيها في شراهة، وأردفت متسترة على شعور لذيذ تراقص بداخلها: ” جئت من تطوان رفقة أخي مساء البارحة. أهلي محافظون جدا..”قلبت عينيها إلى الأعلى بنعومة وتابعت: ” أنت تعلم.. أرملة مثلي لن تفلح في الخروج إلى السوق بمفردها. فكيف بالسفر دون رقيب يحصي عليها أنفاسها..!” وتصاعدت من جوفها تنهيدة حارة.
سقطت كلماتها، تلاشت كذرات الغبار. وحدها كلمة “أخي” تردد صداها في رأسه وأيقظت خوفه من جديد. تساءل في حذر: “أين هو الآن؟”
– لا تقلق ! إنه شاب ضجر لا يحب البيت، أنا لا أراه قبل حلول الظلام.
أخمدت كلماتها بعضا من مخاوفه وعاد الصمت يخيم من جديد. امتلأت أنفاسه برائحة الأنثى فأصابه من قربها خدر لذيذ واستبد به.. تحركت يداه وامتدتا إلى كفها البضة البيضاء فوجدها رخوة طيعة داخل كفيه الدافئتين. رفعت إليه نظرة زائغة وهمست بحنان: “ما أجمل عينيك!!” والتقت نظراتهما في حوار عذب ارتعشت له الأهداب واختلجت من دفئه الشفاه..
أوشكت دوامة الرغبة الجامحة أن تلفهما داخل زوبعتها العاتية، لولا أن تصاعد من الأسفل صوت مريب، شق طريقه إليهما عبر السكون الأصم، وتبعه صوت أقوى يقطع الشك بيقين صاعق: ” لا شك أن أحدا دخل البيت وصفق الباب الحديدي خلفه. من يكون سواه..!؟ أخوها وحده من يقاسمها البيت.” كذلك هتف صوت الرعب من أعماقه، بينما قفزت هي كما لو أنها تلقت وخزة في خاصرتها، وسارعت تخطو على أصابع قدميها إلى أن أسندت جذعها على الدرابزين وألقت نظرة خاطفة إلى الأسفل، ارتدَت إليه من حينها وقد تشوهت ملامح وجهها وتشنجت عضلاته، وفي عينيها تراقص البؤبؤ على نحو مخيف: ” عيسى.. خاي عيسى.. “
وقف أمامها سلمان مخدّرا تحت هول الصدمة.. وكنست الشابة بعينيها الدامعتين زوايا البيت تبحث عن مخرج، وأدارت رأسها سريعا في كل صوب كالعصفور إذا داهمه الخطر، ثم قفزت إلى باب في الممر الفاصل بين الدرجات وعتبة الشقة على يمين الدرابزين، أدارت مفتاحه وأصدرت أمرها بنبرة صارمة: ” ادخل هنا ! ” لم يكن في رأسه عقل ليفكر، انصاع كما تنصاع الخراف لمصيرها وقفز إلى الداخل تاركا لها تدبير الأمر. أوصدت دونه الباب، وجاءه صوت القفل من الخارج يشعره بأمان كاذب.
كان المكان ضيقا كالقبر؛ ركن صغير أسفل الدرج تزدحم فيه أغراض قديمة مهملة يكسوها غبار ناعم، لم يجد سلمان داخله غير موطئ قدم يسعه. وأرغمه السقف الواطئ والخوف الرهيب على أن يكتم أنفاسه ويمكث في مكمنه راكعا في خشوع العابد الناسك.. تناهى إليه بعد ثوان قليلة صوت رجوليَ خشن من خلف الباب يدمدم بأصوات مبهمة، لعلها كلمات أمازيغية لم يدرك لها معنى. أحس بالفراغ يملأ رأسه، واجتاحت روحه أحاسيس مظلمة كتمت على أنفاسه المتقطعة، وأمام عينيه مرَت أشدَ الاحتمالات بشاعة، برعت مخيلته في تصوير تفاصيلها بمزيد من القسوة؛ رأى الباب الخشبي يكسر فوق رأسه بركلة واحدة، ويبرز له شاب ضخم الهيكل، يمد إليه ساعدا صخريا نافر العروق وينتشل جسده النحيف كالخرقة.. وسرعان ما اعتلى هذا المشهد مشهد آخر؛ رأى جيرانه من أهل الحي يتجمهرون من حوله، وتلك اليد الجبارة نفسها تسحبه من قفاه في عرض الشارع وتسلمه لعناصر الشرطة. وبرزت له من بين الحشد عيون شامتة تلمع غلاّ، عرف من بينها النمام – سمسار الحي – وعانسا مشاكسة تسكن غرفة في سطح بيتهم تكره أمه كره العمى، تحقد عليها بقدر ما تحقد عليه هو نفسه وتزدريه لأسباب لا يعلمها إلاّ الله.. واصطدمت عيناه أخيرا بعيني والده، رأى على صفحة وجهه الوقور ظلالا داكنة من كآبة مظلمة، قرأ في تلكما العينين الحبيبتين معاني الخيبة والعتاب بكلمات يتشقق من هولها الصخر.. وأحس بمشاعر الندم والهوان تنهش قلبه، فامتدت أصابع يده إلى رأسه يشدّ بها شعره الأجعد بجنون، فيما كان صوت بداخله يردد في ضراعة: لا لا كل شيء إلا هذا.. كل شيء إلا أبي.. !!
تردد الصوت الرجولي في الممر ودام دقيقتين، ثم انقطع فجأة وأعقبه صمت ثقيل.. وفكر سلمان برجاء: ” ربما هو الآن في المرحاض، أو لعلها شغلته بأمر ما في ركن قصي من البيت بعيدا عنَي.. من يدري ! ” وانتصبت أمامه صورة الأرملة الشابة وهي تأمره بصوت حاد، ومن عينيها أطلت روح صلدة جبارة. وتساءل بإعجاب: ” من أين جاءها هذا القدر الهائل من القوة..!؟ “
ظل جامدا خلف الباب يتسمّع في خشوع، كانت كل ذرة فيه تصيخ السمع، صارت جوارحه آذانا صاغية. وإذا بصوت المفتاح يخدش الصمت ويدور في القفل محدثا رنّة صغيرة، أعقبها السكون من جديد.. لم تصدر عنه حركة، ظل لابدا كالفأر في جحره ينتظر إشارة من المرأة. مرّت ثوان مهيبة يلفها خوف شديد، امتدت اللحظة وطالت فيما هو يترقب خلاصه.
وكما تسطع الشمس من بين الغيوم، أشرقت الفكرة في رأسه وهتفت في قلبه: ” هي ذي.. هي ذي الإشارة.. ألم تفتح لك الباب ؟ ما معنى هذا ؟ ألا تسمع هذا الصمت الهائل من حولك يصرخ بإلحاح: اخرج.. هيا.. الآن !! “
من رحم هذا البصيص تولدت بذرة من شجاعة حررت قلبه، مدَ يده إلى مقبض الباب وفتحه بحذر شديد. أخرج رأسه من شق الباب كما تصنع سلحفاة خائفة، وألقى نظرة خاطفة إلى اليمين فوجد باب الشقة مواربا يحرضه على أن يغادر جحره، بينما كانت الدرجات إلى يساره حبلا ينحدر إلى الأسفل في إغراء شديد بالنجاة..
تنبه إلى النعل الخفيف في قدميه، استله بحركة خاطفة وأحكم عليه قبضته وانطلق كالسهم على أصابع قدميه العاريتين صوب الباب الحديدي. بحذر لص عتيق فتحه بعدما انتعل حذاءه، وخرج إلى نور العشية مغمورا بشيء لم يذقه من قبل؛ شعور بالسعادة والامتنان، تخالطه بقايا الخوف عالقة بجدار قلبه يدفعه كل ذلك إلى الرغبة في البكاء.. لم يغلق َالباب، ردَه بأناة من خلفه، وتكلَف خطوات واثقة هادئة لا تثير فضول أحد، تحمل مسافة عشرة أمتار قطعها بين البوابة ومنعطف الزقاق، بدت له مئات من الأمتار، وبين صدغيه ترددت بمزيد من العنف دقات قلبه، حتى إذا انعطف يمينا وخلف الدرب وراءه أطلق ساقيه للريح لا يلوي على شيء.. وشريط مغامرته القاتلة يمر بتفاصيله نصب عينيه فلا يصدق أنه نجا.
4 مارس 2020م