عبد الرحمن أقريش
الرباط، حي البريد، 1989.
الظهيرة، ينزل جحيم من السماء.
كان ذلك الصيف حارا لا يطاق.
توقف (المامون) عن القراءة، انخرط في لحظة بياض قوية، التفت وراح يتأملها، كانت ممددة إلى جانبه في وضعية جنينية نصف عارية، تغرق في نوم عميق وهادئ، تمدد قيلولتها، جسدها المرمري المنحوت، شعرها المتدفق يزرع فوضى جميلة على السرير، وجهها الطفولي، شفتيها الممتلئتين، ابتسامتها النعسانة، وفمها المنفرج قليلا، وكأنها تستجيب لارتدادات متعة تتلاشى بعيدا.
ثم انتبه.
توقف عند وشمها الجميل، أعلى الصرة يسارا، باللونين الأزرق والرمادي ترتسم أجسام فراشات رشيقة تحلق هبوطا، وتختفي بحركة رشيقة هناك في مكان ما، تنحدر على شكل سهم منطلق.
يبتسم، يفكر، يمضغ هواجسه، بدا له وكأن ذلك السهم يرسم وجهة الرحلة أمام الفراشات الملونة.
افترض أنها متعبة، متعبة وسعيدة، هذا الشعور الذي يتملكنا عندما ننتهي أخيرا من أمر جميل، متعب ولذيذ.
كان يهم بالعودة للقراءة عندما سمع ضجيجا وجلبة في الخارج، ثم سمع بعدها طرقا عنيفا على الباب، في البداية بدا له الأمر شبيها بحلم أو خاطرة، يصيخ السمع للحظات، وطبعا، كانت تكفيه إطلالة خفيفة من النافذة ليتبين الموقف، حشد من الفضوليين يحاصرون البيت، يحتجون، ويطالبون بفتح الباب.
يفكر، يخاطب نفسه.
– الناس يحبون الفضيحة، يستمتعون بها، يبحثون عنها، وعندما لا يجدونها يصنعونها.
وقف هناك خلف النافذة، ينظر، يتأمل المشهد ويفكر، أغلبهم يقفون بعيدا، ينظرون، يتهامسون، بعضهم يتفرج صامتا، بعضهم يحتج غاضبا، والبعض الآخر يطلب حضور الشرطة، وآخرون تحلقوا فيما يشبه الدائرة، يقف في قلبها شاب ملتح، يلبس الأبيض، لباس قصير هو خليط بين الزي المغربي والخليجي، يتكلم بصوت عال، يحرض الناس، يتحدث عن الله، والدين، والأخلاق، والفضيلة، والحلال والحرام والخطيئة…
للحظة أحس (المامون) بالخوف يخترقه، يشله من الداخل ويمنعه من التفكير.
كان الموقف يتصاعد تدريجيا ويخرج عن السيطرة.
ثم فجأة يحضر رجل خمسيني، أنيق، حليق، ويلبس بشكل عصري، أوقف سيارته غير بعيد، نزل منها مسرعا.
وقف وسط الحشد، التفت إلى الناس دون أن ينظر في وجوههم.
– شوفو يا الناس، البنت راها بنتي، والولد خطيبها، إوا الله يرضى عليكم فرقوا الجوقة…
ثم التفت إلى الشاب الملتحي، نظر في عينيه، وخاطبه بغضب.
– وأنت بالذات اسمعني مزيان، دخل سوق راسك، وباركا عليك من الفضول…أنت لست الله، لست نبيا، أنا أعرفك، أعرفك جيدا، أنت إنسان مريض، وعامر عقد، دير الخير فراسك، دعك من الناس، وابحث لك عن طبيب يعالج نفسك المريضة…
حاول الشاب الملتحي العودة إلى الصراخ، ولكن الناس انفضوا من حوله، انسحبوا بهدوء، فغادر هو أيضا خائبا ومهزوما.
بقي الرجل الأنيق واقفا هناك للحظات، وقف ينظر إلى الأرض، بدا مترددا وكأنه يفكر أو يقرر أمرا ما، ثم في حركة عصبية، مد يده إلى جيبه، أخرج علبة السجائر، أشعل واحدة، أشعلها بصعوبة وراح يدخن، وعندما استعاد هدوءه مشى في اتجاه سيارته ومضى.
في المساء، عندما هيمن الليل، وقفت هي عند الباب تودعه، احتضنته، قبلته، دفنت وجهها في عنقه، تتشمم أريج عطره ممزوجا برائحة التبغ والعرق.
عندما همت بالمغادرة استوقفها للحظة.
– كنت أود أن أسألك عن والدك…
سألته بصمت.
– …؟
– أهو شرطي؟
رسمت بملامحها جوابا بالنفي.
– أهو صحفي؟
ابتسمت، ثم تدريجيا انمحت ابتسامتها وحل محلها تعبير غريب، شيء يشبه الألم أو الامتعاض.
– لا، إنه أسوأ من ذلك، إنه محام.
…
وقف هو في الشرفة يتابع طيفها، التفتت هي مرة أو مرتين، ثم أخيرا اختفت في ظلام المدينة.