العجل الأصفر

art
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

جاد صلاح قرقوط

 جواد، أو الزمن يهفو ويتفكك، أو زوال الطبقة الجديدة 

 حطّ مساء شاحب واستكان طرفه. لعلّ دنياي تقادمت في غضون دقائق. اضطررت أن أخرج صاغرا من دكان “أبو أدهم”. مسكين هذا الرجل. اعتاد الثراء والرخاء، إذ أنه كان الرائد في استيراد السكاكر وتصدير الحليب قبل أن أعرفه. أقول لك إني رأيت ذلك بأم عيني: كيف تدافعت الظباء السانحات جوا وهي تحلق حول إمبراطوريته العامرة، تدر الحليب وكأنه – حب فلفل، لا أعرف حقا. رذاذ أسود نُثر فوق المملكة الآشورية التي كانت قد اعتمرت تيجان التكبّر، وخدشت حياء السماء بصولجان فاحش، ومتغطرس. كان يعطس، يتشدق بشراسة، ويجهر قائلا: ((هذا هو الاستثمار! فليحفظ الله الأب وابنه)).

 أذكر ذلك اليوم جيدا. سماء فضفاضة اضطرمت رعودها، اشتدت سوداوية المزن العبوسة، تقوس ظهر الجوزاء، وظلّ يلتوي كالرقشاء تنسل عن نفسها ثياب السنين البالية، ثم تزحف وليدة عهد جديد.

انصرف الزمان الذي انشطر فيه “أبو أدهم” إلى عشرات الأحصنة الدهماء “الأصيلة”. يحملون شعلة الاستثمار، رغم أنهم ليسوا أكثر من حصان طروادة تقنّع رداء بروميثيوس.

كنت أقصد ناحية المنزل. لا خليل لي أسرّ له، أو عدوّ يتربّص بي. هكذا “لا أنام بين القبور ولا أرى منامات موحشة”.

بينما كنت أفكر في كل هذا، شعرت أن قطارا بخاريا بقوة ألف حصان يمتطي مؤخرتي، إلى أن بانت أمامي فتاة دقّ عظمها، فأذهَلت. بيد أنها كانت تبدو من الحسناوات اللائي سرق الدهر منهنّ الصبا، ورمى بهنّ القضاء حاوية التاريخ؛ فلا عجب إذا من بعض التجاعيد إن تجلّت تحت العيون الكحلاء. أطلت التأمل والتعجب. آه!

ولما اتضحت معالمها أكثر، ظننت أنني أحلم؛ ففي الأحلام ترخي الحوريات سدول الشعور، فيظل متهاويا، كأنه مسد محبوك ينساب متثاقلا إلى أسفل الجب، دون أن يرتطم بالقاع رغم العشوائية والسجية التي يهبط فيها. والله شعرت أنني أسقط. أهكذا كانت سقطة آدم؟

 وما حدث من أساطير ميتافيزيقية، بعدما أصبحنا نقف وجها لوجه، تعالت أن تحيط بها رتابة الحياة.

حين دنوت من “جوجو”، صار الكون عنا نائيا. أقفرت صحيفة الأرض من الشاه فلأنام. انفلتت من جرم درب التبانة، بعدما تدحرجت عن كتفي أطلس؛ وراحت تصول وتجول بين الكواكب والنجوم البعيدة. تخيل! في غضون يوم وليلة تغيرت ديموغرافية الفضاءات والمحيطات والناس. عفوا! كل هذا لأن جوجو أرخت ضفيرتها، وخيّل لي لغزارة شعرها الأشقر المخضر (نعم، خصل خضراء وارفة) المسترسل والأملس، أنه يستحيل أن يكف عن نسج الجمال والأساطير ولو طوق محيط الأرض بأكمله وكبّل معصمي أطلس الشقي.

بينما كانت الصخور تتساقط متهاوية من الجوزاء، تدفأت بهذا اللثام المديد. رائحته كنبيذ معتق، تسبب لي بالغثيان والدوار؛ ولكن، على أية حال، لا يهم هذا كثيرا، فالدنيا كلها دوّارة!

لفّني شعرها الوافر وراحت تقبلني. ريق مقبلها مالح، وشفتاها كانتا مكتنزتين كعنقود توت بري يانع. 

 سقطت القبلات سهوا، منحدرة على أدراج السلم الموسيقي، كأنها ترقص ((الهابانيرا)):

 – الحب طائر متمرد…

أذعنت، أغميت من الإعياء، ومن هذا الطائر المتمرد.  يا لهف نفسي على غد!

الزمن الثاني، أو المسخ المتحوّل

وجدتني مستلقيا على فراش مهترئ الحواشي، يصدر أصواتا كعجوز متهالك الأنفاس ثقيل الهمة.

 أذكرك الآن أنني مستيقظ، وتعب من شدة الحر أيضا.  أصحو نشيطا، ألتفت يسارا، وأديم التحديق إلى جوجو لمدة لا تتجاوز مستقطعا من الزمن القصير. أشعر بتغير غريب: لا أدرك الزمن كما أدركه – آه، عفوا، كما أدركته البارحة! جوجو تغفو كالحمل الوديع بجانبي، مرتدية مرطا تنسف ذيله نسائم لطيفة راكدة تدخل خلسة من شومل النافذة قرب السرير. تلاطف ثوبها الوردي، فتصلني مشبعة بورد المعشوقة، ومحملة على ريح تهب من جنات عدن. 

أشرّع جميع النوافذ. الشمس تستلقي على الفراش. أنظر خارجا…يا إلهي! أين أنا؟ كيف استطال الزمان المخمّر بهذا الشكل، شبّ شبابه وشاخ سالف الأيام باللمم، ونهد الدهر، فأمست أوائله في أواخره؟  

أشعر بالشيخوخة، ولم أنظر في المرآة. أمن صلب الأديم أنا، أم أن أديم الأرض يشعر بالخزيان مني؟

أتلمس جسدي، والشيخوخة التي تركت كوّة في أفئدتي. أرتدي الزيّ الرسمي: قميص أبيض تخطه شرائط سوداء، وسروال كتان ذو لون نقي واحد.

جاهز للعمل! فأنا، كما تعلم، أعمل في معهد “بنات نعش” لتصدير روبوتات كسدت لغتهم الأم الغريبة عنهم، والآن يقصدون “لغات” أغرب. ببساطة، نزرع شرائح إلكترونية في عقولهم أو أدبارهم، ونصدرهم خلف البحار بعد إبرام عقود زواج مع البلد المقصود.

أحد الطلبة، على ما أعتقد، تمرّد على علومنا هذه، وأبرم العقود، بعدما رمى الشريحة أرضا وأقدم على الانتحار.

كيف يقدم إنسان ربوبي على الانتحار؟!

كان يحدثني في الدقائق الأخيرة من كل حصة درسية. وفي إحدى الأيام قدّم لي دمية جميلة وحزينة، كان قد جمع قطعها من معادن براقة غريبة مختلفة، وخرق ممزقة:

– ما هذا؟ يا سلام! تجيد الفن إذن…ممتاز…رائع! ما اسم هذه الدمية الحلوة؟

– العجل الأصفر! لا تقل دمية، فهذا يزعجني!

– ماذا علي أن أقول إذا؟

– الحبيب والقريب.

لاحت على سحنته بسمة وانية، ولمعت عيناه. لا ريب أنه عندما تعمى البصيرة، يصبو البصر إلى رؤية “هذا القريب” وليس “ذاك البعيد”. فقدنا صلتنا به، ولم نعرف عنه شيئا سوى هذه الرسالة:

 أطاح بآدم هذا الإله

           فكيف تقول: الإله القريب

وتاب الأنام وتاه السلام

          فكيف تقول: الإله المجيب 

عليّ أن أذهب؛ فلا وقت لي لقصص ألف ليلة وليلة الآن، لكن أين هويتي ومحفظتي؟ تأخرت! متأكد من أنني تأخرت، لكنني لا أملك شيئا يدلّني على الوقت. لا بأس. قبلت جوجو، همست في أذنها: ((مع السلامة)). تمتمت شيئا لم أسمعه…

لا بأس. سأذهب بلا محفظتي.

 انتعلت وطنيتي، وخرجت من هذا القصر القوطي.

يتبع…

 

اقرأ أيضاً

العجل الأصفر (1)

العجل الأصفر

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

تحقيق

سمية
تراب الحكايات
موقع الكتابة

عمو