الظاهر والخفي.. قراءة فى “لحظات فى زمن التيه” للسيد نجم

sayed negm
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 د. رمضان بسطاويسى

بدأ “السيد نجم” مشروعه القصصي بكتاب “السفر” الذي كان يتضمن أعمالا تدلف العالم بتوتر ووجل، وكان التذبذب بين ضمير الغائب والمتكلم واضحا فى التعبير بين عالم الذاتية، وعالم الحياة اليومية، ولكن كثيرا من بذور عالمه القصصي كانت واضحة وامتدت إلى أعماله اللاحقة.. وان كانت قد تشكلت فى صورة خصبة وغنية، جعلتها تغادر صورتها البسيطة الأولى.

وهذا ما نجده فى “أوراق مقاتل قديم” وهى تسجيل لخبرة الحرب التي عاشها الجيل، وتشكل ملمحا أساسيا من ملامح تجربته الإبداعية.

ولكن فى رواية “أيام يوسف المنسي” عام 1990م دخل مرحلة مختلفة عن عالم البدايات.. وبدا القاص يقترب من تقنيات جديدة لم يعهدها فى عالمه الجمالي، مثل “الأمثولة” وهى الصورة القصصية التي تتضمن أكثر من بعدن مما يغرى النقد بتفسيرها من زوايا عديدة، وفيها يركز القاص على المضمر والخفي والمسكوت عنه أكثر مما يركز على الظاهر والمرئي، ولهذا يمكن قراءة أيام يوسف المنسي من خلال مستويات عديدة مثل المستوى الاجتماعي الذي يجسد العلاقات التي تنتج ثقاة الاستهلاك، والمقصود بالثقافة هنا:صورة الحياة اليومية، وليست مجموع المعارف والعلوم والفنون التي يقوم الفرد بتحصيلها.ز فهذا هو مفهوم النخبة عن الثقافة، بينما هي طقوس الحياة اليومية في السعي وراء شروط الضرورة التي تنتج الحياة، فيقدم لنا من خلال يوسف مسيرة الانتقال بعد انهيار المنزل بين عوالم مختلفة

وأثناء ذلك ومع تلك الحركة فى المكان/ الوطن نكتشف صورة العلاقات القائمة بين المهمشين من البشر وغيرهم.

ومكن أن نقرا مستوى الأسطورة، فنرحل رحلة السفر اليومية-عبر مراحل الحياة- بين القيم المختلفة، ولعل هذه التقنية –الأمثولة- هي التي امتدت إلى روايته “العتبات الضيقة- حيث يقوم بتقديم العوالم المختلفة للقاهرة ، لكن بصيغة أخرى تشي ببعد آخر وراء هذه المظاهر المتبدية فى الشخصية الرئيسية، ولكن كلاهما يسافر وينتقل، والانتقالات ى الرواية الأخيرة تفهم بمعنى الانتقال النفسي والوجداني، أكثر مما تعنى الانتقال المكاني..

وهذه التقنية غالبا ما تثير مشكلات فى تلقى نصوص الكاتب، لان القراءة الأدبية للنصوص التي نطالعها الآن، تحاول إعادة إنتاج النصوص وفقا لمنظور سابق على تجربة الكتابة، فيتفق مع النص أو يختلف الناقد وفق موقع النص من هذا المنظور، دون أن يدع النصوص تكشف عن نفسها، فيقوم الناقد بتحليل وتوصيف النص كما هو، وليس استنطاقه بما ليس فيه، ولعل هذا ما قد ظلم التجربة الأدبية لدى السيد نجم، لان تقنياته فى الكتابة، تجعل مسئولية القراءة تقوم على عاتق الناقد، الذي عليه أن يشير إلى أبعاد النص المركبة، كما تظهر فى قصديه الكاتب التي تعبر عن نفسها فى اختياره للعناوين الرئيسية والرعية،وتقطيع فقرات النص وفقا لرؤية جمالية يتبناها الكاتب.

لعل هذا هو محور تجربة السيد نجم الإبداعية، فنصوصه تشير إلى شيء ظاهر، وتومئ من طر خفي إلى أشياء كامنة وخفية ومضمرة، وهذا واضح في مجموعته القصصية (لحظات فى زمن التيه)

فالعنوان يشير إلى تفتت لحظات الإنسان المعاصر، وعدم اتصالها، وقد تأتى هذا من اقتران اللحظات بالتيه، ونصوص الكتاب تشير إلى المعنى السابق من خلال إبراز لنوعين من الزمان داخل المجموعة القصصية.

أولهما الزمان الموضوعي الذي يمكن قياسه ويتمثل فى الحركة فى المكان، وهذا ما يشترك الناس  فى ادراكة. ثانيهما الزمان الخاص أو زمان الشخصية، وله بنية مغايرة للزمان الأول، لان الشخصية تعيد تركيبه أو تركيب وحداته الثلاثة (الحاضر/المستقبل/الماضي) على نحو يعبر عن تحققها الذاتي، ونجد هذا ما يشترك فيه أكثر من نص (البندول، ذات صباح عادى/ العتمة/الطائر/ النوافذ.. وغيرها) لعل هذين لبعدين من الزمن هما ما يترابطان مع تقنية الأمثولة، مما يجعل القصة لديه تحفل بالرمز الدال فى سياق النص.

يمكن تقسيم نصوص الكتاب إلى نوعين، احدهما نصوص تقدم صورة القص الذي يقوم على السرد.. وهى نصوص تنتمي إلى القصة القصيرة، مثل: “دوائر الحراسة/ ذات صباح عادى/ العتمة/ القبضة/..) وثانيهما نصوص تقدم صورة مكثفة للقص الذي يقوم على الوصف البصري أو المفارقة، أو تكرار تيمه معينة فى سطور قليلة، وهى نصوص الأقصوصة أو القصة القصيرة جدا.. القصة هنا واحدة، تقدم لقطات سريعة، ولكن دالة، بل أن الرقم الدلالي هو ما يميزها عن النوع الأول من القصص، ففي النوع الأول يدخل بنا القاص إلى جوانب النفس المعتمة فيبرز لنا الانفصال داخلها مثل (الصديق) أو يجسد لنا حالة يصعب الإمساك بها ليجسد شعورا مثل الاكتفاء بالمراقبة وتحول المكان الانسانى إلى مجرد حواس وصراعها الداخلي فى تزاوج بين صور المونولوج، مثل (المفاجأة)، والحوار الدرامي داخل النفس، الذي أحيانا ما يضيق به فيتوجه به إلى الكون ذاته..

فى النص الأول من كتابه “لحظات فى زمن التيه”: “دوائر الحراسة”، يقدم صورة للذاكرة السمعية للأوامر التي تتلقاها الشخصية طوال حياتها، مثل (إياك تجرى ى الشارع، أحذرك من نسيان الواجب، لا تتأخر) وهى السلطة الخارجية التي تتحول إلى جرثومة فى الوعي على حد “رولان بارت” وتصبح تجسيدا لممارسة السلطة على الذات من داخل الفرد، فهذه العبارات التي شكلت السياج الذي أحاط بحياته فحولته إلى سجن من منظور ما، وقد استخدم القاص ضمير المتكلم لينقل ألينا خبرات الشخصية التي يحاول إعادة ترتيب ذاتها من الداخل.. فالتذكر هنا، تذكر تحرري هو من نوع الفعل، فهو حين يريد التخلص من اسر مدرس الحساب يكتب أسماء كل معلمي الحساب فى ورقة ثم يمزقها، ولكن السلطة فى كل مرحلة من العمر تتغير حسب سياق الحياة، فهل يرصد الكاتب أن يبين لنا أن التحرر من اسر السلطة الخارجية يقتضى أولا التحرر الداخلي!

فى نص (ذات صباح عادى) تلتقي بحضور طاغ للغرفة، والنافذة، ومفردات الغرفة مثل السرير، والشبشب على الأرض، نلتقي بنوع من التوحد بن ضيق الشخصية وضيق الغرفة، لكن بموقعها من العالم يجسد موقع الشخصية أيضا. وصورة الغرفة والجدران والبيت القدم المتهالك نلتقي بها كثيرا فى إعمال السيد نجم، وتلح عليه إلحاحا كبيرا، ففي رواية “أيام يوسف المنسي” يتلصص “يوسف” على الجيران من خلال ثقب صغير فى الحائط الخشبي للغرفة التي يسكنها فى مساكن الإيواء ، فهذا الثقب يتحول فى هذا النص إلى النافذة، يستطرد القاص فيقول لنا: (إنها تقع فيما بين الجهة البحرية والشرقية، فكان لها ميزة الإطلالة على الشمس الساطعة طوال ساعات النهار.. ص17)

ويشتد حضور الحلم واللاوعي بوصفه موازيا لصورة العالم الواقعي، وان كان يتغلب على صورة صديق لا يفارقه، لكنه يموت، فيأسف على نفسه فى النهاية، دون أن يتيقن انه يجسد صورته أو صورة الأخر الذي كان يأمل أن يعيشه.

لع هذا التمايز للعوالم الداخلية بدخلنا إلى منطقة مليئة بالظلال، ودرجات الضوء التي تبصر العتمة وتجليات الحواس، فالتخارج للحواس بوصفها غريبة عن الكيان الانسانى ينقل إلينا حالة وجودية من التشتت والقلق، حتى عضلات وجهه يدلكها بالمنشفة حتى تعود الحياة إليها، فصورة الموت تلح على الكتاب بأشكال مختلفة، فى هذا النص تقاوم الشخصية موت الأعضاء الجسدية، وانفلات الحواس عن السيطرة عليها من قبل الأنا، فتبدو جدران الشقة وسقفها فى صور منبعجة وممطوطة، فتتجدد المشاجرة بن الرجل ورأسه، رأسه التي امتلأت بأسئلة عديدة حائرة عن تلك الحالة الغريبة التي تنتابه فى أمشير من كل عام .. ص9

وصورة الموت مرتبطة لدية بالمتاهة، حين تاهت الرؤية من يوسف فى الرواية، لا ندرى فى آخر الرواية، هل هو مات أم انتحر حين ضل الرؤية.

كذلك هنا تظهر صورة الموت تارة بوصفه قدرا خارجيا، وتارة بوصفه هاجسا داخليا يمسك بمجامع النفس.. والكتاب يقدم صورا مختلفة للموت مثل الموت المادي، موت الجسد، موت الحواس، موات الذات الداخلة، وفقدان الإحساس بالوجود، وهذه الصور نجدها فى أعمال كثيرة للكاتب. لعل تيمه الموت تربط بين إدراك العالم على نحو حالم، وإدراكه على نحو فيه قدر كبير من التعاسة والألم، والموت لديه لا يرادف الصمت، لان الصمت فيه حياه، حين يدع القاص الأشياء ومفردات المكان تتحدث وتفصح عن نفسها، لكن الموت لديه يرادف التوقف عن اى فعل، اى العجز عن اتخاذ قرار أو موقف ما..

ما النوع الآخر من “القصص أقصير جدا” التي يتضمنها الكتاب، فهو يقدم حالات الأنا فى علاقتها بذاتها والآخر والعالم، ففي نص (أهلا) يجسد بعمق  حضور الأشياء حين يغيب التواصل بين البشر، فيصف الجلسة التي تجمعه بالشخص من خلال وص التليفزيون وطقوس صنع الشاي، وتصبح أوراق الشاي التي تتحرك فى الكون أكثر حيوية من الشخصين اللذين لم يتحدثا سوى كلمة واحدة هي “أهلا”.

وفى هذه الأقصوصة يجسد القاص ظاهرة تشيؤ العالم. وخلوه من الطابع الانسانى، فالحضور الذي يستولى على اهتمامنا هو التليفزيون والأشياء التي تحيط بنا، بكن لا نلتفت إلى البشر أو إلى أنفسنا  حتى يتحول النوم إلى إغماءة (كما فى قصة إغماءة)

والتشيؤ هنا عند القاص، هو أن الإنسان ى حياته اليومية، وهو يريد أن يؤكد على الحضور الطاغي للأشياء الذي طمس التجربة الكيانية للإنسان، فلم يعد لديه وقت للتساؤل عن نوع الوجود الذي يحياه.. السؤال الذي يطرح نفسه بعد هذه الإطلالة على كتاب السيد نجم الأخير، أصادر عن هيئة قصور الثقافة.. أين هو تاريخ القص وكيف نرى كتاباته؟ يمكن القول بأن تجربة السيد نجم ذات طابع خاص. تتطور باتجاه داخلي سيكولوجي بغوص فى أغوار النفس البشرية، فهو لم يقلد كثيرا من النصوص التي تقوم على التداعي اللغوي، لان ما يشتد حضوره لديه هو الدال، والمشهد والحالة التي يريد كتابتها، وهو يستوعب تاريخ القص ليبدأ بداية تتضمن هموم الكتابة المعاصرة..

واستطاع أن يقدم نصوصا  تجسد بجوانبها السلبية والايجابية ملامحه الخاصة واستطاع أن يكون عالمه الخاص.

ترى هل ننتظر كتابه القادم، لنرى تشخيصات الداخل، ونرى الظلال المعتمة التي تشير إليها هذه المرحلة أو تراه يعود العالم الواقعي.. يقدم صورة الخبيئة والظاهرة.. وكتاباته القادمة سوف تقول..!

………………..

(نشر فى مجلة “الثقافة الجديدة” فى مارس 1996م)

مقالات من نفس القسم