الطفولة المضطهدة في “أجساد تحترق في الشارع “للقاص المغربي محمد الصفى

أجساد تحترق في الشارع
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبدالله مرجان

يشخص القاص المغربي محمد الصفى في مجموعته القصصية “أجساد تحترق في الشارع” واقع الطفولة المعذبة والمهمشة، وصرخة أبرياء لاذنب لهم في حياة كتبت عليهم قهرا، في ظل تملص المجتمعات المتخلفة في احتضان سواعد الأمة ورجال الغد بدل رميهم في الشارع، إذ ينخرط هؤلاء الأطفال مكرهين في أعمال الذل والمهانة غير آبهين بمخاطرها وما قد ينجم عن امتهانها من عواقب وخيمة. هم أطفال لا يكاد سنهم يتجاوز الست أو العشر سنوات، أحيانا تصادفهم في الطرقات و الشوارع الرئيسية في بعض المدن المغربيةو آخرون ينتشرون في الأسواق وجنبات المقاهي وفي المقابر والمزابل، يمسكون بعلب “السيليسيون” يستنشقون ما يخدرون به عقولهم، ويتسولون تحت ضغط الحاجة.يشفق على حالهم البعض والبقية تنهرهم أو تتجاهلهم.إنهم أطفال المغرب الضائعيين المحرومين من حقهم كباقي أقرانهم في العيش كما يشتهون. وإنك وأنت تنظر إليهم أو تنصت لهم لتتأسف لحالهم و للظروف التي دفعتهم إلى الخروج إلى الشارع ومواجهة متطلبات الحياة في سن مبكرة دون استعداد أو دراية بالمحيط وحيثانه المفترسة.

والأكيد أن القاص محمد الصفى قد وضع الأصبع عن الجرح وهو يترصد المشاهد ويقتنص صور معاناة طفولة بريئة تدفع ثمن التفكك الأسري وغياب دور المدرسة الفعال غاليا، فتتيه في فضاءات مخيفة، أي تأخذ من المقابر والمزابل والبنايات المهجورة ملاذا لها، وغالبا ما تتعرض لافتراسها من طرف ذئاب بشرية قاسية قلوبها تغتصب هؤلاء الأبرياء الذين رمت بهم ظروف قاهرة إلى عالم موبوء.

فإذا كان الفقر هو الدافع الرئيسي الذي يجبر بعض الأباء على الاستعانة بأطفالهم، إلى جانب العنف الأسري ومشاكل الطلاق، فإن المجتمع مسؤول عن حماية هؤلاء الأطفال من هذا الضغط الأسري و من هنا تبرز الحاجة إلى مسائلة و محاسبة هؤلاء الأباء على تقصيرهم و عبثيتهم و المغامرة بفلذات أكبادهم، في الوقت الذي ينبغي أن يتواجد هؤلاء الأطفال في المدارس و المراكز الثقافية و التربوية و الرياضية، و ذلك عن طريق سن قوانين صارمة لحماية الطفولة المغربية. إنه واقع مرير قد يدفع الفرد إلى الاحساس بانعدام المساواة في الكون و العبثية المطلقة، بيد أن هذا التصور قد يبدوا صائبا في المجتمع المادي المطلق.

فحين تتحالف المدرسة مع الأب الجائر المحكوم بعقل التقليد ولغة السياط والعبيد، ويتستر القانون على الأيدي القاسية والعقول المأزومة، فمن ياترى ينقذ هذه الطفولة وينتشلها من مخالب الضياع؟

إنه وأمام غياب جواب شاف وجهة رسمية تتكفل بالأطفال المتخلى عنهم أو المطرودين عنوة من بيوتهم يفتح الشارع ذراعيه لاحتضانهم وهنا تتبدل حياتهم وتقسو قلوبهم فيرتمون في حضن متشردين محترفين فيعيثون فسادا بعقولهم البريئة ويحولونهم إلى قنابل موقوتة قابلة للإنفجار في أية لحظة، انفحار في كنف الجريمة والتعاطي للمخدرات ثم التلاشي عبر الزمن.

واللافت أن قراءة فاحصة ومستبصرة لنصوص المجموعة القصصية “أجساد تحترق في الشارع” تقدودنا بلا شك إلى الوقوف عند مجموعة من الصرخات و الآهات والأنين الذي يعكس واقع وحالة تدمي القلوب لأطفال كتب لهم أن يعيشوا خارج مفهوم الإنسانية والتضامن الإجتماعي ونلمس ذلك بوضوح من خلال النص القصصي الموسوم ب” أيوب ” والذي ينوء في مقطع سردي منه عن بوح موجع للطفل أيوب قائلا “…التقيته وقد افترش ورقا كارتونيا، اقتربت منه، أشاح بيده عن وجهه الشاحب، تملل ذات اليمين وذات اليسار، اعتلته ابتسامة محمومة وقال “آه أستاذ، توحشتك، هنا رجعت…”…سألته” متى عدت ؟ ولماذا؟ هل أنت بخير ؟ “لم يجب، ظل مسمرا عينه صوبي، طأطأ رأسه متنهدا :” إنه أيوب الطفل البشوش، الذي كان كل سكان الزقاق يحبونه، رغم معرفتهم أنه كان نتيحة حمل غير شرعي، من أم وهبت مفاتنها للدعارة…بلغ أيوب سن التمدرس، كان له مقعد بإحدى المدارس…أحس بطفولته رفقة أقرانه…أيام يتذكرها أيوب بكل سعادة كما يتذكر أسوأها…تربص به لما يزيد عن السنة، كان يقدم له حلويات وألعاب…لم يترد أيوب واستسلم لابن حيهم “سيمو”…ما هي الا دقائق حتى وجد نفسه داخل غرفة تم ايصاد بابها…أحس بذعر شديد وهو يرى الوحش الآدمي يزيل سرواله…انقلبت حياة أيوب رأسا عن عقب…أصيب بحالة التوجس من كل شخص يقترب منه…غابت ابتسامته…تضاعفت حالته النفسية حين علم بمهنة امه وأنه كان نتيجة علاقة غير شرعية، تدهورت صحته، تحول من طفل وديع إلى طفل عاق وعنيف…لم تمض سنة على هذا النحو حتى اختفى أيوب عن الأنظار…” الصفحة 13.

يلخص هذا المقطع السردي تراجيديا العلاقات الغير الشرعية في الإنجاب، كان ضحيتها الطفل أيوب وأخرون الذين يؤدون ثمن الانحلال الخلقي، وانهيار منظومة القيم التي تستبيح براءة الطفولة.

فإذا كانت المجموعة القصصية “أجساد تحترق في الشارع” تطرح موضوع الطفولة المهمشة والإنحلال الخلقي، فهي تطرح ضمنيا كذلك دور المدرسة والأسرة المكشوف والواضح فيما تعانيه الطفولة، إذ تخلت كل واحدة عن ادوارهاالرئيسية في تكوين ورعاية الناشئة، والنتيجة هي تزايد أعداد الأطفال المتخلى عنهم أو الهاربون من جحيم أقل قسوة بين أحضان أسر لا تعير اهتماما لأطفال من صلبها أو أطفال جاءوا إلى الوجود خطأ، إلى جحيم لا يطاق(الشارع) حيث الضياع والتشرد وممارسة السرقة والتسول والإجرام.

وتكاد كل النصوص القصصية المتضمنة للمجموعة تفصح عن معاناة الطفولة بجنسيها الذكري والأنثوي، إذ لا يختلف منطوق النص القصصي” حليمة ” عن باقي النصوص الأخرى في البوح عن مآسي متعددة عاشتها هذه الفتاة حين وجدت نفسها تفترش التراب وتلتحف السماء، وهي لا ذنب لها فيما تعيشه، بل الأنكى من ذلك أنها تمتهن مكرهة أعمال مقيتة بعدما ترصدتها عيون ذئاب بشرية وأزاحتها عن جادة الصواب، وقصة “حليمة” صورة عاكسة لباقي الفتيات في سنها اللواتي قذفتهن نفس الإكراهات، المرتبطة بفقر وجهل وانحراف الأسرة، إلى عالم الضياع والتشرد.

……………….

 *روائي وناقد مغربي

مقالات من نفس القسم