حسني حسن
– كان لابد وأن أفقد بصري كي أبصر نور الرب في روحي.
الليلة، وهو مستلقٍ في فراشه الخشن الفقير، بجسده الضامر العجوز، بلحيته الشهباء الكثيفة التي تغطي وجنتيه الشاحبتين، بعظام صدره، الناتئة اليابسة، كما الأغصان الذابلة لأشجار خريف قاسٍ، وبعينيه الواسعتين، اللتين يحسبهما نافذتين إلى ما وراء كل وراء منذ أن سملهما ملاك الرب، ليُعيد حنانيا، بإذن الرب، النور إليهما، ليتحقق، مجدداً، وعد الرب، وليسطع مجده في أفق قلبه الجاحد وعقله الشكوكي الرياب… الليلة، والتي قد تكون آخر الليالي، يجد نفسه مندفعاً لإعادة التفكير بكل ما عاش به فيه وله خلال عقود عمره الماضية، مذ جرى له ما جرى على ذلك الطريق الترابي، الممهد والممتد، ما بين أورشليم ودمشق. يتذكر، الليلة، وبجلاء كلي، كيف كان أمره في البداية؛ مجرد حِبر فريسي شاب، يؤمن برب الجنود يهوه، وتلتهب مخيلته بانتظار مجيء مسيحه الموعود، أو رجوع النبي إيليا، من غير أن يتعارض، بداخله، إيمانه، القلبي العامي واللا عقلاني ذاك، مع افتتانه، العقلي النخبوي والمترفع، بكتب أفلاطون الملهمة، وحفظه، عن ظهر قلب، لمحاوراته الخالدة التي يمارس خلالها المعلم سقراط مهامه، التي حدَدها لنفسه، كقابلة عقلية للأثينيين، عبر تهكمه اللاذع، ثم فجأة، وكأنما بتدبير شيطاني، مذهل ومكين،، تروح تروج بالآفاق، في يهودا والسامرة، في الجليل وطرسوس، وحتى في بعض شوارع دمشق وأزقتها الخلفية، كما في ميادين أثينا، الشهيرة العظيمة، تلك الأراجيف والتخرسات والمزاعم عن هذه المعجزة التي مرت من تحت أنظاره دون أن يبصرها: ها قد جاءهم ذلك المسيح، الذي انتظروه طويلاً واستعجلوه كثيراً، فبشَر ووعظ، وطاف بالقرى والمدن، بالسهول المزروعة ومن فوق التلال الغابية، ودخل أورشليم المقدسة، بقدمين حافيتين وأسمال مهلهلة تغطي الجسد النحيل، مخفوراً بمحبة تلاميذه، وبأساطير العامة والرعاع عن أفعاله الخارقة، التي تتحدى نواميس وسنن الطبيعة، كما عن كلماته الحارقة، التي تلهب مكامن الروح، البارد المتجلد بدواخلهم، بسلطان، الأمر الذي لم يقدر على أن يمرره له، أو يسامحه عليه، قيافا والفريسيين.
– لكنك لم تمرره له، أنت أيضاً، أيها الرسول.
استفاق من بحرانه الهاذي في الذكريات والصور على استدراك جليسه الغامض الجالس عند قدميه بآخر الفراش، وهو يمد يده، المعروقة المرتعشة، ليتناول من اليد المصوبة نحوه قدحاً من الماء البارد، ويشرب.
– كنتُ شاباً، مثقفاً ومؤمناً، وكنتُ، أيضاً، مواطناً لدولة عظيمة تأسست قواعدها على دعامتي العقل والقوة، فكيف لي أن أصدق هراء العامة وأشواقهم المجانية إلى المعجزة والسر؟ كيف لي أن أنبذ محاججات أفلاطون وبطش يهوه وسلطان القيصر وأستبدلها ببضعة أقاويل مرسلة، كما الشعر، أو كما همس العجائز والنسوة، قد تفيض طيبة وعذوبة، لكنها لا تسمن ولا تغني من جوع؟
– وهكذا؟
– أنت تعلم بقية الحكاية، أيها المرائي، فلماذا تتقصد استفزازي الليلة؟
لم يكن الطريق إلى دمشق، إنطلاقاً من أورشليم، في أثر تلاميذ المصلوب ورسله، شاقاً ولا طويلاً. وكان، وجرياً على عادته، قد اتخذ لسفره ما يلزم من تدابير لبلوغ مقصده بأمان، ولتحقيق غايته الملحاح، بمطاردة المارقين المرتدين؛ خراف إسرائيل الضالة، ثم العودة بهم إمَا لحظيرة الإيمان برب الجنود، وإما لسجون نائب القيصر العظيم. غير أنه، وبعدما أدركه الليل على الطريق وقد حل به التعب والإرهاق وأخذ النعاس يداعب أجفانه، آثر المبيت تحت شجرة أرز، خضراء سامقة، بانتظار شروق الشمس.
– وعندها ناداك إليه!
رمق محدثه بنظرة، باردة ميتة، تصدر عن عينين مُطفأتين كما لو أنهما مصنوعتان من زجاج معتم خشن.
– كان يهزني، من دون أن يلمس جسدي بالمرة، وهو يصرخ بي، متسائلاً ومستنكراً، عمَا يدعوني إلى اضطهاده.
– هل على هذا النحو قال؟ وبتلك اللفظة نفسها؟
تمهل الرسول العجوز أمام سؤال السائل لدقيقة كاملة بدت لهما طويلة ثقيلة ومستعادة، ربما لألفين من السنين.
– لعله ليس باللفظة ذاتها، أو لعله لفظها، لا أتذكر جيداً الآن، لكن ما أتذكره بوضوح هو طاقة النور تلك التي تفجرت بداخلي، وبهرت عيني، وأفقدتني بصري لزمن تالٍ غير قصير.
– وعلى هذا النحو بات المطارِد طريدة!
يفهم أنه لن يغدو قادراً على الإيمان بما أُلقي في قلبه، هو نفسه خلال تلك الليلة العجائبية، من إيمان دون أن يرى، لكنه يدرك أيضاً، وبكيفية تستعصي على الأفهام، أنه لن يرى ما لم يؤمن، وأن نكران الجحود هو شرط الشهود، لولا أنك، أنت بذاتك يا شاول، كنت قد أسست يقينك على الشهود، على سُلطة العقل وعقلية السلطة.
– ربما هذا ما صار إليه الحال، وبرغم سخريتك.
رد على محدثه بمرارة اجتهد، كثيراً، كي يداريها ويحرر صوته من آثارها الداكنة.
– لا، ليس هذا ما صار إليه الحال أيها الرسول الكبير، فلستَ أنت من يستسلم أو ينسحق أو ينسحب على هذا النحو المشين، وإلا فخبرني كيف غدوت، بين عشية وضحاها، راعياً أكبر لكل تلك الخراف، الطيبة البريئة، التي قدتها لحظيرته؟ مبدعاً أعظم لتلك الخرافة المبهرة الخرقاء؟
– تعني….
انتفض الجالس على طرف فراش موت العجوز واقفاً كمن يهم بالرحيل. كان يعرف أنه قال كل ما أراد قوله للرسول المُهيأ تواً للسفر، بعيداً بعيداً، عن أي دمشق وكل أورشليم.
– تعرف، وأعرف، ما أعني، أمَا الآن فوداعٌ بلا لقاء.
حط صمت، ثقيل عريض ممتد، وشرع يغلف الكون برمته. وفي الخارج، واصلت الضفادع الساهرة بطين قنوات ري حقول الحنطة نقيقها الليلي، من دون انقطاع، وراحت عيدان القمح تستقبل نسمات المساء الوانية وترتعش مثقلة بالسنابل المكتنزة المتخمة بالحبوب. وفي الأعالي، حافظت الأنجم على مساراتها المعتادة ودورات حيواتها وموتها، المحايدة المستقلة غير المبالية. ووحده، أمسى قلب الرسول، الذي يعرف حقيقة ثقل وعنف ووجاهة ما عناه ضيفه الغامض، يعذبه السؤال الجديد القديم.