البشير الأزمي
أتذكر..
أتذكر أن آخر ما سمعته منك: ” من هنا تبدأ الطريق”..
كنا يومها عائدين إلى حينا، لم أسألك عن أي طريق تتحدث لأني سمعتُ منك هذا أكثر من مرة، لم أرَ الطريق ولمْ أرَ أية بداية..
أتذكر..
أتذكر أن آخر مرة حدثتني فيها عن الطريق ذكرتَ أنك عثرتَ على كتاب نادر غَيَّرَ نظرتك إلى الحياة. ما أنا متأكد منه هو أنك أنت من تَغَيَّرَ، وتغيرتَ إلى الأسوَءِ..
ونحنُ نسير أغمضتَ عينيكَ وحين فتحتهما قلت لي إنك أحسستَ أن مفاصلك توُجِعُك، وضوء الشمس يُزْعِجُكَ، ورغم ذلك قلتَ لي إنك أحسستَ بلذة؛ كانت لذةً مُوجعةً. قلتُ لنفسي هامساً متى كانت اللذة توجعُ ومتى كان الوجعُ لذَّةً؟
أتذكر..
أتذكر أنك قلتَ لي إنك فتحتَ الكتابَ الذي عثرتَ عليه في الطريق فبدأتِ الصورُ والرسومُ تهجمُ عليكَ؛ صورُ رجالٍ ونساء وأطفال وصبيان وفتيات وحتى صورُ الشيوخ والعجائز، ورسومٌ لمخلوقاتٍ غريبة.. قلتَ إنَّ الكتابَ متآكلُ الحواف وبعض الأوراق ملتصقة بأخرى وقد ماعَ حبرُها وقد حاولتَ فك بعض الأوراق عن بعضها فلم تفلح، وكل مرة تحاولُ تأتيك أصواتٌ من بين صفحات الكتاب تنهاك عن أن تفعل وتحذرك من عواقب ذلك..
ظللتُ صامتاً أحدقُ إلى وجهك، ظننتك في البداية تمزح، أصررتَ على قولك. لم أجد غرابة في أن يتضمن الكتابُ صوراً لرجال ونساء وأطفال، إن ذلك أمرٌ عادي، ما لم يكن عادياً هو إصرارُك على أن ما في الكتاب من صور ورسوم تتكلم، وتحدثك من حين لآخر وأنَّ الشوارعَ والدروبَ والأزقةَ في الكتاب لها روائح فواحة تنفذ إلى خياشيم أنفك وتسكرك.. قلتُ لك فعلاً إن لحينا روائح تُسكِرُ؛ روائح نفايات سائلة متخمرة، روائح مجاري المياه العديمة..
أتذكر..
أتذكرُ أنك انشغلتَ عنِّي وبدأتَ تُسرعُ الخطْوَ وكأنك فار من خطر يداهمك، استجمعتُ أنفاسي محاولاً مسايرة إيقاع ركضك، من حين لآخر تلتفتُ نحوي وكأنك تريد أن تتخلص مني وأنت تبتعد عني.. أرى وجهك شاحباً وقد بدت ملامحُ الذعر عليه. الضبابُ يدنو من بعيد ويُصَعِّبُ عليَّ متابعة طيفك.. كلما تقدم الضبابُ ازدادت الرؤيةُ صعوبةً..
من بعيد رأيتك، رغم الضباب الكثيف، ترتطم بالمارة.. وقعتَ، أغميَ عليك اقتربتُ منك، توقف بعض المارة، شرع أحدهم في معالجتك، يحاول فتح عينيك ووضع قطرات ماء في فمك.. اقتربتُ منك أكثر وتحدثْتُ إليك.. لم تكن تستمع إلى حديثي.. عندما استعَدْتَ وعيكَ أدركتَ أني واقف إلى جنبك، ذراعك اليُمنى ملتوية تحت جسدك والدمُ ينزف منها وطرفٌ من قميصك مُبَقَّعٌ بالدم.. بدأ الناسُ يبتعدون عنك الرائحة التي تخرج من جوفك تبعدهم..
الرجل الذي يعتمر قبعة إفرنجية ينقل غليونه من يمين فمه إلى يساره قال:” إن ما حصل نتيجة هذا الكتاب”، صمتَ للحظة وتابع:” أتذكر قصة الرجل الذي كان حاد الطباع ودائم الخلاف مع نفسه ومع شخصيات الكتاب، كان ذلك من زمن بعيد..”
أتذكر..
أتذكر أنه لم يتركه من كان حاضراً يكمل حديثه وصاحوا فيه:” معتوه.. مجنون..”، ابتسم الرجل وقال:” سترون.. سترون..”، وغاب عن أعيننا، وهو يبتعد ابتلعهُ الضبابُ..
أتذكر أني من ذلك اليوم لم ألتقِ بصديقي ولم أعرف عنه شيئاً..
أتذكر أني، وأنا أرتِّبُ أغراضي بدولاب عتيق عثرتُ على ذلك الكتاب، نفضتُ عنه الغبار العالق به.. حوافه متآكلة وبعض الأوراق ملتصقة بأخرى وماع حبرها.. حاولتُ فك بعض الأوراق عن بعضها وإذا بأصواتٍ تنهاني من أن أفعل وتحذرني من عواقب ذلك إن أنا فعلت.. قرأتُ في الصفحة الأولى:” من هنا تبدأ الطريق..”..
أتذكر..
ما عدتُ أتذكر شيئاً..