الطرق لا تؤدي.. قراءة في نص “وشاء القدر”

الطرق لا تؤدي.. قراءة في نص "وشاء القدر"
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. سعد خليل الجبوري

كلنا نعلم أن الاختزال[1] (stenography ) هو اكبر ابناء الترميز[2] (figuration) ، الترميز .. تلك الصفة التي تميز الادب المبدع عن غيره .. ونراها ديدن جميع النصوص الفلسفية او اللاهوتية التي اطلعنا عليها او لم نطلع على مختلف مراحل التاريخ البشري في كل بقاع الكرة الزرقاء (على حد تعبير (اينا) يوم ان رآها من الاعلى)[3]..   واذا اعتمدنا تعريف البلاغة بـ(اداء افضل المعاني في اقل المباني) يمكننا ان نطلق على نص (وشاء القدر) للكاتب والناقد العراقي (بشير ابراهيم سوادي) انه نص بليغ .. اعتمد الاختزال والترميز الى اقصاه لنحظى بمتعة التفكيك المجيدة التي تتيح لكل منا ان يسبح في نهره الذي يرغب .. وهو ما ساحاول – كقارئ – عمله في السطور التالية ، من خلال الاعتماد على مبسطات تحليل المحتوى  analyse de discoursواستغلال (ثغرات البوح) التي اتاحها عقل الكاتب لنا اثناء الكتابة يوم ان مال الى كفة الخيال بانفصال عن الادراك[4].

يبدأ النص بجملة :

إلتقيا في العاشرة من ديسمبر صدفة

استغل احد الافعال الخمسة لطرح شخصيتي قصته/روايته الرئيسيتين ليثبت الموعد باختزال الساعة واليوم بكلمة واحدة اجبرته على طرح اسم الشهر لتتضح الرؤية ..

على طاولة وكتاب مفتوح

تأثيث للمكان ووصف depiction مستغرق يحيلك الى عالم الكاتب بدون تكلف او تعب ..

هو مكان عام لاشك .. ما داما التقيا صدفة .. وهو مكان ثقافي او دراسي ما دامت طاولاته تتيح للكتب النوم على وجناتها التي شهدت الكثير من التنهدات ودموع الوداع وانكسارات البوح

ودمعة الانكسارات اشد الما ..

تقاسم عنوان الكتاب/الثيمة theme ، الابتسامة كابسط مدلولات الرضى لا الاغتباط والدمعة كاعمق مدلولات الوله لا الحزن.

لتأخذ الابتسامة تمددها ..

رضى تاما بكل المسار بافراحه واحزانه ولحظاته المميزة طوال تلك المسيرة/العلاقة procession  مهما كان نوعها الا انها طويلة على طريقة الاطفال في الوصف بمد حروف العلة او الحركات في الكلمات التي يراد المبالغة بها .  

هااا هااا

 وكأنهما كانا طفلين عثرا اخيرا على كنز السكاكر المخبأ في كل منهما لينعما (بالاستطعام) مهما كان نوعه في غفلة عن الاهل . وعلى طريقة السيدة فيروز في (فايق يا هوى) بدلالة

جبران

تلك الشخصية التي فرضت حضورها على اردية البطلين بدلالاته الاضافية additional Significance. كالتجريب Experimentation والمهجر Diaspora والاستلاب Alienation  والحنين Nostalgia والعروبة Arabism والتمرد Recalcitrance .. الى اخره مما ينطبق على جبران.

الا انني ارى ان جبران هنا ليس جبران المعروف لنا وان كانت دلالته تنفع في القراءة بالمستوى الثاني mid-reading  . لكن بالرقي مع النص الى عتبات اعلى نرى جبران هو الكاتب نفسه. ابن قرية احتضنها دجلة باعماقه القبلية – التي حاول التمرد عليها دوما – الا انه يبقى جبران. او قد يسير بنا في درب الظروف والمقدرات التي تحكمنا كاحصنة مدن الالعاب لتبقينا معصوبي الاعين ندور في حلقات تتكرر باستمرار برغم مظاهرنا الموحية بالوثوب والحلم بالانطلاق الى افاق اخرى.

في مستواه الاخير hi-reading  ارى ان جبران ارتداء لفظي لمفردة اخرى وهي (جنزار) ذلك القبر الاشوري الذي شهد اجمل تأملات الكاتب في تأرجحه بين السماء (جنزار) والارض (دجلة) بفعل الريح (الظروف والمتغيرات) والنار (الغنية عن التعريف) التي تستعر في داخل وخارج الكاتب. بهذا نحكم انه استجلب عناصر الطبيعة الاربعة ليضيف لها عنصره الخامس وهو الذاكرة .

فالغروب ومنتصف الليل والصباحات تجعلك اكثر تذكرا ..

ما زال منذ ديسمبر الاخر  يتذكر عندما تألمت سكينة

البطلة المجهولة التي صرح بوصفها بالسكون والصبر والتحمل والاحالة الى سكينة بنت الحسين رضي الله عنهم لننسحب نحو عالم الصراع المستمر بين الحب والخوف / الخير والشر / النور والظلام . وسكينة الصبورة التي توالت عليها الخسارات فاستقبلتها بصبر وجلد لا بيأس وخنوع .. بشجاعة واثقة متقدة مع امل كبير لانها تعلم انه  

ليست كل الطرق تؤدي اليه ..

لكن بالبداهة فأن بعض الطرق تؤدي اليه بغض النظر عن استحالتها

لتحل الدمعة من جديد كلحظة الولادة ..

 فهي مفعمة بالامل وهي دمعة الفرح والوله لا الحزن كما اسلفنا ..

رضيت ان تجعله حلما مرئيا لا واقعا غائبا .. فالقهوة اشد حضورا من الخمر ولذلك نسبها الى اويس ، هو لم يقصد اويس القرني التابعي المبارك الذي نقل له الرسول الاعظم محمد (صلى الله عليه وسلم) ولا الامام اويس بن الشيخ حسن الجلائري .. تلك الاسرة التي ادلت بدلوها في قمع هذه الارض (العراق ) ردحا من الزمن .. انه يقصد اويس ewes  بلفظه الكلداني القديم .. ايليا في الارامية والعبرية .. الياس في اليونانية[5] .. والخضر عند المسلمين .. وخضر الياس لدى اهل نينوى او اليخاندرو Alexandro  في اسبانيا بنت الاندلس . ذلك الصوت الجائل في البرية . معلم الانبياء[6] وباني صيدون[7]. انه من يسقى التائهين الماء ويدلهم على مسالك الصحراء ليصلوا بر الامان .. وهو صديق الاولياء والفقراء والامهات حتما .

التقمص الذي منحته سكينة  لحبيبها ليخرج من جلباب  جبران  الذي ارتداه الى ثوب اويس  الابيض المصفر بفعل دخان الشموع لكثرة

مطالعاته في منتصف الليل الى الصباح ..

 ظننتم مثلي حتما للوهلة الاولى انه يطالع كتبا او شيئا ما.. لكن حرف الجر الذكي طرح فكرة انه يتأمل السماء ويقرأ علامتها وبشائرها ونذرها لينطلق مجددا صوتا صارخا في البرية او

ليدب شوارع المدينة نحو التيه

 فما زال موسى صديقه ومعلمه وتلميذه المحبب العارف الفضولي يسير بتلك الرحلة التي ارهقته على امل ان يدخل الارض الموعودة للمؤمنين . وهنا ايضا نجح في ايهامنا انه لا يقصد (موسى الحوري) الاثير عنده والذي لابد وانه يعلم من هي (سكينة) الحقيقية . بل واكاد اجزم انه ليس هو جبران الذي كتب دمعهم وابتسامهم.

ما يعزيني ككاتب/قارئ في هذا النص هو لمسه للكثير دون اثارة ضجة. اعد هذا النص رافدا من نهر ظاهرة ادبية phenomena بشر بها (الحسين بن منصور)[8] او شمس تبريز[9] او جنداري[10] او مطلك[11] . ورحلوا مبكرا. في قاع نفس البئر او على نفس المقصلة لا فرق . المهم انهم تركونا ككتاب (جنزاريين) نحاول استحضارهم في كل حرف.

ارعت من سيكتب وأروعت فيما كتبت ..

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*كاتب عراقي

1] الاختزال (stenography ) وهو : اسلوب في الكتابة يعتمد الاختصارات والرموز والحروف التي تدل على معاني او جمل.

 [2]  الترميز (figuration) وهو : من المجاز الذي يقوم على توسيع الاستعارة حتى تحرج عن حدود الجملة فتصبح حكاية تطول او تقصر.

[3]  اينا وهو انكي ايضا ضمن مسماه الارضي ابن انو كبير الالهة السومرية ووالد مردوخ الاله البابلي زوجته اينانا. وهو مسؤول حسب الاسطورة عن خلق الانسان الاول (ادبا) وانقاذ (زيوسيدرا/نوح) من الطوفان الذي اجتاح الارض . تحكي اسطورته انه قدم من كوكب اخر يقع في اخر مجرة درب التبانة اسمه (نيبيرو) الى كوكب الارض بحثا عن الذهب لمعالجة هواء نيبيرو . ووصف الارض بهذا الوصف عندما اقترب منه بمركبته السماوية .

 [4] يعرف الرمز على انه نتاج العمل المشترك بين العقل والادراك تحت توجيه الخيال (fiction) ، خلافا عن المجاز الذي ينتجه الوهم (illusion)عندما يشرف على العمل المشترك للعقل والادراك .

 [5] بإضافة السين الى اخر الكلمة وهي علامة الرفع .

 [6] كان معلم موسى (عليه السلام) وقصته مشهورة في القران الكريم

 [7] ساعد في اعادة بناء مدينة صيدون بعدما خربها الجيش الاشوري في نفس الموضع. برغم انه كان مختبئا فيها من بطش الملكة ايزابيلا لانه عارضها في عبادة الهها (بعل) / (اشور) / (رع) / (مردوخ) اله الشمس .

 [8] الحلاج . المتصوف الشهير .

 [9] شمس الدين التبريزي معلم ورفيق جلال الدين بن الرومي مؤسس الطريقة المولوية الصوفية .

 [10] القاص العراقي المرحوم محمود جنداري.

 [11] الروائي الشهيد حسن مطلك

مقالات من نفس القسم