عبد النبي بزاز
بعد خمس إصدارات شعرية، ينتقل الشاعر المغربي عبد القادر محمد الغريبل إلى مجال الكتابة السردية بإصدار باكورته القصصية “جرذان قذرة وعزلة”، والتي تندرج في نوع القصة القصيرة. وقد وفق الكاتب، بشكل كبير، في تشكيل نصوص تمثلت العناصر الأساسية للسرد القصير من شخوص، وأحداث، ووصف، واسترجاع، بل جرب، وببراعة، أدوات القص الموجز، في النصوص الثلاثة الأخيرة (المراهنة، المخاطرة والمجازفة) من خلال ما وظفه من اقتصاد لغوي، وتكثيف دلالي، وتلميح؛ وهي عناصر معتمدة في لون القصة القصيرة جدا، مع تجريب أشكال تعبيرية أغنت متن المجموعة، ونوعت من نهجها القصصي الذي اكتسى طابع الانفتاح في نهاية نصوص ظلت معلقة على أفق احتمالات متعددة تستعصي على الحسم والتحديد كما في قصة “قيد التذكر”، فرغم إصابة الحاجة زينب بـ”الزهايمر” فإنها ظلت تتذكر دجاجاتها التي كرست جل وقتها وجهدها لمنحها الكثير من العناية، والاهتمام والرعاية. وفي قصة “البئر” حيث سقط بوسلهام (المرضي) في البئر بعد أن تعتعه السكر، ونالت منه الخمرة، ليتساءل، بعد أن استرجع وعيه، كيف زاغ عن درب خبر مسالكه، وتاه في طريق بعيد عن مقر سكناه، فما فتئ يصرخ ويستغيث ليختتم النص بـ(بستان) كفضاء مفتوح على نهايات ذات حمولات متعددة القراءات والأبعاد.
وفي سياق النهج القصصي المعروف فقد اعتمد القاص على شخوص لبناء الأحداث، وتسيير دفة الوقائع كما في قصة “قيد التذكر” حيث برزت شخصية الحاجة زينب التي حازت طابعا محوريا في سير مجريات الحكي، مع ذكر أبنائها وبناتها دونما أي تأثير يذكر. وفي قصة “البئر” التي تضمنت شخصيات بائع الخمر بابا علي (البغل الحرون)، وصديقه بوسلهام (المرضي)، وشخصيات أخرى كالعياشي، وسي أحمد (المجنون)، وخالتي زهرة، والحاج المعطي، ولالة رحمة. وكلها شخصيات ارتبطت بأماكن كبيت عمي العياشي، وبستان سي أحمد، ودار خالتي زهرة، وبستان الحاج المعطي، وجنان لالة رحمة. وعلى النزعة الواقعية كما في قصة “بطاقة”، وقصة “البئر”، وقصة “ولي الأمر”، وكلها تصور أحداثا مستقاة من صميم الواقع، وما يعج به من اختلالات وأعطاب.
وتزخر المجموعة بالعديد من التيمات أبرزها تيمة الوحدة والعزلة، والتي اعتمدت جلها على ضمير المخاطب، بدءا من أول قصص المجموعة “نسيان” التي تصور حالة شيخ في الخامسة والستين من عمره يعيش حياة تكتفي بما هو ضروري، خالية من أي مظهر من مظاهر الترف: “تقريبا عمرك خمسة وستون سنة … معاش جد هزيل ….. لعيش غير كريم، لتحيا مكتفيا بالضروريات فقط، لا امتياز لترف …” ص 11. كما أن الوحدة التي تطوقه، وتغمر كيانه والتي تتحدد من خلالها نظرته للعالم، وتسعى جاهدة على ألا تكون سوداوية: “ولأنك وحيد لا يجب أن تنظر للعالم بنظرة سوداوية …” ص 15. فموضوع الوحدة الذي تم تصريفه عبر ضمير المخاطب، والذي هيمن على مجريات القص، وتغلغل في تفاصيله: “أنت وحيد وأنت تحيد عن دربك …” ص 21. فإيقاع الوحدة يتزاوج أحيانا مع العزلة: “عزلتك وحدها لها حساب …” ص 23، التي يسكنه هاجسها، ويسري في حناياه، ويأسر ذهنه: “ظلال العزلة وحدها الموجودة التي عاجلا أو آجلا في كل مرة تعود فتراها في مواجهتك …” ص 23، هي قدره المحتوم الذي يتعقبه، يطارده، يواجهه. مما رسخ ثابت الوحدة لديه كلازمة لا محيد عنها: “أنت وحدك تتعلم أن تمشي كرجل وحيد، أن تتسكع بين شعاب الحياة ومنعرجاتها دون رفقة …” ص 27.
ولتفادي خطية السرد ونمطيته فقد غير الكاتب ضمير المخاطب وسمة الوحدة في نصوص مثل “العالم كله ينهار” إلى ضمير جمع الغائب حيث قال: “يمسكون بك، يبصقون في وجهك حقيقتهم المبكية، يتقيأون، يصفرون …” ص 35، وضمير الجماعة في مقاطع من قصة “بطاقة” التي يستهلها بالقول: “في ذلك اليوم النحس دخلنا طابورا بعد طابور لقاعة الطعام …” ص 41. مما قلص من هيمنة ضمير المخاطب على مجريات الحكي، وتفاصيله السردية.
وتماهيا مع موضوع الوحدة والعزلة تبرز المعاناة بشتى أشكالها وأبعادها كما في: “تنهض من فراشك محاولا قهر الأرق … تتقلب يمينا ويسارا مرات عديدة دون أن يغمض لك جفن” ص 18، مع عجز مطبق عن أي تغيير منشود: “هو هذا الوهم القابض على خناقك أنت عاجز عن التغيير…” ص20، ليظل كل تطلع للتغيير رهين وهم متحكم. هذه المعاناة التي تحولت إلى مأساة: “المأساة لم تنقض عليك لقد تغلغلت في مسامك على مهل، انسلت بداخلك بخفة …” ص 22، سيطرت على كيانه، واكتسحت دواخله. وموازاة مع نفس الموضوع، موضوع الوحدة والعزلة، يبرز الضياع ليطوق القاص، ويزج به في سراديب التيه دون تحديد هدف محدد، أو وجهة معينة: “تأخذك وجهتك نحو شارع ما، تمضي نحو زقاق آخر، دونما هدف ……” ص27، فينخرط في سير عشوائي، ويظل ضائعا في متاهات الطرق والدروب ليتولد عن ذلك إحساس بالكآبة والفراغ: “تكييف حياة غير متآلفة وخالية من نبضات السعادة … تعيش داخل هامش سعيك للعيش في فراغ ماحق وكآبة سقيمة …” ص 29، مما يقود إلى لامبالاة وعزوف عن الكلام: “تتعمد اللامبالاة وعدم الاكتراث لشيء ما … تفقد شهيتك في الكلام …” ص 30، فتخلق لديه رؤية تحجب مظاهر الجمال، وتنحصر في اكتشاف صور القبح التي لا تتوقف عن التمظهر والبروز: “لا تصادف أي شيء سوى سيل تطيقه منذ فترة طويلة بيوتات دبقة مقالع مقبورة جدران باهتة البياض …” ص 21. حيث تغيب النظافة، وينتفي النقاء: “تمشي ملاصقا لجدران بيضاء في شوارع متسخة وإفريزها ملطخ ببقايا علك ملتصق” ص 23. وهو ما لا يختلف عن الحالة المزرية التي يعيشها شخص المتقاعد الستيني في قصة “نسيان”، سواء فيما يتعلق بمقر سكناه: “هذا الوكر التي تندس فيه بمفردك، هذا السقف الذي عددت تشققاته مائة ألف مرة … تقشراته، لطخاته من رطوبة مفسدة …” ص14، أو محيطه المجاور: “أصوات المارة، صراخ لعب الأطفال، الجلبة الحاضرة تربطك وحدها بالعالم الخارجي …” ص 14. محيط خارجي يفتقر للهدوء، وأبسط شروط الراحة: “قطرات متساقطة على الدرج من منزل جارتك، نوبات من سعال حاد الذي يصدر من حلق جارك المسن … ضجيج غير منتظم لضربات الكوابح عند الوقفات …” ص14، لينفتح على كائنات تفاقم من معاناته، وتضاعف من منسوب مأساته من خلال سلوكيات تنم عن صفاقة غير مألوفة ووقاحة غير معهودة: “يمسكون بك، يبصقون في وجهك حقيقتهم المبكية، يتقيأون في حضرتك معاناتهم البئيسة، طريقهم الشقي …” ص 35.
ولم تخل نصوص المجموعة من بعض النزعات، كالنزعة الوجودية التي تحددت في مفهوم الموت والحياة: “إن الموت كئيب لكن الحياة برمتها أشد كآبة …” ص 56، وما يطبعهما، أي الموت والحياة، من بؤس وكآبة، وإن لبثا معلقين على أفق يجلله الغموض، ويكتنفه اللبس. كما تم ذكر بعض المفارقات والتي تقوم على التضاد: “خطواتك ونظراتك التي تحط وتنزلق غائبة عن الجميل القبيح، المألوف المذهل، المظلم الوهاج …” ص 33، تم ضمها في صيغة الوصف (الجميل القبيح/ المألوف المذهل/ المظلم الوهاج)، والرؤية التي تنقل البصر، وتسرح به في معاينة العديد من الأماكن: “تتجول ببصرك بحدائق، نافورات، ساحات، ميادين” ص 33، ونباتات (أشجار)، ومغالق (أسيجة)، وكائنات بشرية (رجال، نساء، أطفال)، وحيوانية (كلاب، قطط)، وأصوات (فورات لغط، نوبات ضجيج) ص 33. كما تضمنت لغة القصص بعض تعابير من الدارجة، مثل: “تبن مع راحة خير من شعير وفضيحة” ص 42، و: “ما كيديها إلا زعيم أو كريم أو مرضي الوالدين” ص 50. مما أسهم في إغناء قصص الأضمومة لتغدو أكثر سعة وعمقا وانفتاحا.
فمجموعة “جرذان قذرة وعزلة” القصصية، انتقل من خلالها الكاتب عبد القادر محمد الغريبل من الإبداع الشعري إلى الإبداع القصصي الذي وفق في مجاله بما يمتلكه من عدة معرفية ومقدرات على الخلق والابتكار، وهو ما تمثل في تمثله لضوابط القصة القصيرة وتوظيفها بشكل جمالي ودلالي أكسبها نمطا إبداعيا بارزا ومميزا.
………………….
*جرذان قذرة (مجموعة قصصية)، عبد القادر محمد الغريبل ـ مطبعة وراقة بلال ـ فاس 2024 / منشورات غاليري الأدب.