سعيد بوخليط
ارتبطتُ فيما مضى حميما بساحة جامع الفنا؛مثل أغلب مراكشيِّي المدينة العتيقة، بحيث لم يكن ينقضي يوم واحد دون زيارتها أو مجرَّد عبورها سريعا أو احتساء شوربة من مطبخنا التَّقليدي أو قهوة أو شاي منعنَعٍ ملهِمٍ بين زوايا مَعْلمة مقهى ماطيش، على أنغام الكلاسيكيات الغنائية العذبة، رفقة بعض أصدقائي الرَّاحلين؛العالقة إلى الأبد ذكرياتهم الجميلة بين تلابيب ذاكرتي.
أيام مضت، صارت حتما ضمن غياهب المندثِرِ هناك، ولازالت حواسِّي تحافظ على نفس طراوتها رغم كونها يوميات توقَّفَت تقريبا منتصف التِّسعينات، حينما غادرتُ وأسرتي خارج سور المدينة التُّراثية.
في غضون سياق الألفية الثَّالثة، شرعتُ جامع الفنا تبتعد ابتعادا صراحة عن كنه تلك الأصالة المألوفة التي فتحت عليها عيناي، وترعرعتُ وأفراد جيلي بين كنفها.
عموما، يعرف الجميع بأنَّ جامع الفنا، عنوان مفصليٌّ لثقافة الحلقة، ارتبطت سياقات طفولتي وشبابي بثلاثٍ منها، أدمنتُ عليها قصد التسلِّي والابتهاج والاستمتاع بشتَّى الخطابات والمشاهد الفولكلورية: الملاكمة، عروض باقشيش صحبة حماره، حلقة العشَّاب الصَّحراوي.
ارتبطت لديَّ اللحظات الثلاث نفسيا بمراحل عمرية معيَّنة، ومستويات نضج الاهتمامات واستقرار الهواجس وطبيعة استدعاء المثيرات الملهِمة.
*حلقة الملاكمة الشَّهيرة: تناوب أَخَوَانِ على تنظيم أطوارها، اتَّسما معا بنفس الحضور والفطرة كأنَّهما توأمان، امتلكا نفس السليقة اللغوية الشّعبية التي تلعب بذكاء اجتماعي على دغدغة مشاعر المتحلِّقين قصد امتلاك جرأة التقدُّم إلى وسط الحلبة والمشاركة في مباراة، مع وجود مبارز شبه دائم، اشتُهر بلقبي”فان دام”و”رامبو” ؛على سبيل الذمِّ بما يشبه المدح.
شابٌّ، أبعد بعد السماء عن الأرض، من البنية الجسمانية والعضلاتية للممثِّلَيْنِ المشهورين خلال تلك الحقبة، لأنَّه نحيف للغاية، تهاوت كلّ أسنان فمه رغم حداثة عمره، لذلك يلعب بثغره تمطيطا وتقليصا وتدويرا وشدّا ومدّا، أحيانا على طريقة إسماعيل ياسين مع تقليد ذات ضحكته، فتزداد ملامحه هزلا، تغرق الجمهور في قهقهات لاسيما حينما يشرع صاحب الحلقة في مدح مقاتله العتيد بكيفية تشبه الطابع الحماسي لمقدِّمي مقابلات الملاكمة الاحترافية، و”فان دام” أو ”رامبو” في أوج تمارينه التسخينية، و قِمَّة حماسته القتالية، بينما لايكاد يختلف هيكله الفعليّ عن رسم الفهد الوردي، بطل المسلسل الكارتوني الذي كنت أسرع للتجمُّد أمام التلفزيون الصغير حتى أتابع حرفيا مغامراته بنفس الشَّغف.
عموما، تجري بين الفينة والأخرى مباريات بدائية مثيرة تحظى بتصفيق حادٍّ ثم تتقاطر المساهمات المادية على صاحب الحلقة، الذي اشتهر بدعائه: ”أطلب من الله أن يضع حَدَبة على أنفكَ ذات صباح دون سابق إنذار، إذا بخِلْتَ عليّ بما يطويه جيبكَ!”.
*باقشيش وأذكى حمار: لقاء فكاهيّ بامتياز، أخذ نموذج عروض السِّيرك، فقد كسَّر هذا الحمار تماما الصورة النَّمطية المعتادة عن فصيلة الحمير باعتبارهم نموذج البلاهة المطلقة، بل على العكس من ذلك، يدخِّن سيجارة مع باقشيش بنشوة آدمية، متفاعلا بكل ليونة مع إشارات سيِّده، مقبلا بليونة وذكاء على تفعيل مختلف الحركات المطلوبة؛كأنَّنا حيال مشاهد سيرك الحيوانات المروَّضة.
*الصَّحراوي ومعشبة الفحولة: إنَّها الحلقة الثالثة، مناسبة إلحاح هذا البوح وآخر ذكرى غير قابلة للانمحاء، بحيث تستمرُّ كامنة بين طيات نوستالجيا ذاك الزمان المنقضي.
توقَّفت عن ارتياد الأوَّليتين بعد افتقادهما لوهجهما الأصلي، أو ربما انزياح اهتمامي أكثر فأكثر وجهة الجلوس صحبة الآخرين والإنصات إلى أحاديث الصَّحراوي الشيِّقة والمبهجة، يزيدها زخما إيماءات الصَّحراوي التي يمكنني تشبيهها بالكوميدي روان أتكينسون(مستر بين)؛قصد تقريب الصورة للقارئ الحالي، وحركاته التَّجسيدية لاسيما كيفية تقليب عينيه الجاحظتين التائهتين، فتقتلع من دواخل الحضور انسياب قهقهات متعالية لامتناهية، دون إبدائه قط للغرابة تجاوبا من نفس القبيل !محافظا في غمرة موجات الضَّحك العارمة على تماسكه؛مما يزيد الوضعية فكاهة.
محور حلقة الصَّحراوي ورسالته اليومية في هذه الحياة؛مثلما أعلن دائما، سعيه الحثيث لإنقاذ الرجال من إمكانية ضياع رجولتهم والحيلولة دون انهزامهم في الفراش أمام النِّساء أو”لْغْريغْرَاتْ”حسب تعبيره؛مصطلح خاص بلامعنى لغوي نحته ربَّما جزافا، وجوهر دوره التَّنقيب الدَّائم بين طيَّات وصفات الكتب التُّراثية في طليعتها وصايا الطبِّ النَّبوي، وعلماء المسلمين القدامى، قصد استمرار سيادة الفحولة والأسِرَّة الليلية إمبراطورية الرجال الفيحاء، مردِّدا ومكرِّرا، وقد جفَّت شفتاه بوضوح جرَّاء الزَّعيق.
يصمت قليلا، كي يتذوَّق بتؤدة رشفات كأس شاي أقرب منظره إلى قهوة كالحة، قوام صنيعه بعد شرحه خلطة أعشاب محض صحراوية مركَّزة وكذا عنبر”غاغا gaga”، مضيفا بأنَّ ”غاغا”حوت عملاق يلاحقه الصيادون بغية استخراج عنبره الثَّمين من جوفه، باعتباره دواء طبيعيا لتحقيق طفرة جنسية، يكفي الواحد بعد تحويل هذا العنبر إلى طحين، تناول اليسير مغلي في إبريق، ارتشافه فترة قليلة قبل الجماع، كي يغدو حينها الرجل أسدا لايشقّ له غبار، دليل الصَّحرواي في هذا الباب، مايفعله شخصيا ب”الحاجة زوجته”مولات الدار””؛يعلن دون اكتراث، فقد بلغت غير مامرَّة خلال مناسبة واحدة أوج نشوتها، بل تسقط شبه مغشي عليها من آثار المتعة، لذلك تقبِّل يديه شكرا واستحسانا.
اختتم دائما هذه العبارة، وقد اتَّسعت حدقتا عينيه الصَّغيرتين بكيفية غريبة، ثم جاحظتين بامتياز عبر حركة غير منتظرة تجعل الجمهور في حالة هستيرية تامّة من الضَّحك، تعضيدا لإقراره اللغوي بالزّهو والخيلاء، نتيجة انتصاره في واقعة السرير مع إقرار رسمي من طرف”لْغْريغْرَ”زوجته المنطوية حسب تقييمه دائما مثلما المرأة عموما، على تسعة وتسعين مكمن للشهوة، قياسا لممكنات الرجل، بالتالي مهما فعل يظلُّ المأمول بعيدا، لكن حين إثراء الجسم بجرعات من”عنبر غاغا”، يصبح المستحيل واقعا بكل تفاصيله الاستثنائية.
ارتدى صيفا وشتاء، لباس أهل الصَّحراء، معتبرا الدرَّاعة؛تلك العباءة الفضفاضة خيمته الجاهزة المتنقِّلة بيسر لايضاهى عبر مختلف الأمكنة صحبة ”لْغْريغْرة”أو سرير متحرِّك، كما يظهر حينما يستعرضها أمامنا بمساحة عرضها السخيّ القادر على طي شخصين طيا، لذلك فلن يتوانى، يضيف متباهيا، كلما ألحَّ عليه نداء اللذَّة.
إضافة، إلى كسوته، فقد أثَّثت جلسته فوق سجَّادة بالية ومترهِّلة معروضات شتَّى من البيئة الصحراوية، ميَّزها أساسا ثلاث مكوِّنات مثيرة لانتباه الجمهور؛أكثر من غيرها:
جلد ثعبان طويل، بشكل لافت للأنظار، أخبرنا بأنَّه ذكرى خالدة عن أفعى مرعبة، هدَّدت طيلة أسابيع ساكنة قبيلته وأفزعتهم فزعا بلدغاتها السامَّة بحيث أرسلت العديد منهم بسرعة إلى المستعجلات وأغلبهم صوب صمت المقابر، وظلَّ ينقل صحبته عيِّنة الجلد رمزا للفحولة؛ أطروحته الأولى في هذا الحياة، سواء وسط ساحة جامع الفنا أو مختلف الأسواق التي يزورها تباعا.
أما، المَعْلَمة الثانية، فتشير إلى جملة هياكل شائخة لحيوان الضَّبّ، أحد أشهر الكائنات الصَّحراوية الذي يعتبر غذاؤه؛والعهدة دائما على وصايا العشَّاب الصَّحراوي، ترياقا مذهلا بخصوص تعضيد الفحولة وتصلُّب الجهاز العضوي للرَّجل.
في هذا الإطار، مع الإشارة أخيرا إلى المكوِّن الثَّالث، فقد استعمل الصَّحراوي قصد تعليل وتجسيد حيثيات أقواله، مُجَسَّما خشبيّا لجهاز ذكوري من النوع المتين بكل لبنات جغرافيته، لايكفّ عن الاستدلال به لحظات تحديده معاني الفحولة. فجأة، ينتفض واقفا بعد قعدته الطويلة إما مقرفصا أو مشبِّكا قدميه الطويلتين والنحيفتين على طريقة اليوغا، وتبيانه بأنَّها وضعية لايصمد حيالها سوى أصحاب البنيات السليمة المتحصِّنة من آثار البرد وتعفُّن الجهاز البولي، التي تنهي بالمتصالح معها في خضمِّ تراكم السنوات إلى عجز جنسي يأتي على رجولته بل كرامته، ويصير حينها موضوع سخرية واحتقار من طرف”لْغْريغْرة”غير المتطلِّعة يجزم الصَّحراوي بكل ثقة، نحو أرصدة بنكية و أساور ذهبية، لكن أساسا وقبل أيِّ شيء ثان، ”جدارة أخينا لمعلم غانغاGanga”، صانع الحضارات والعمران، إيجابا أو سلبا، ثم يلوِّح بالمُجَسَّم العجيب كالسَّيف نحو الأعلى ويضيف: ”ياقوم ! ياقوم!عليكم برعاية هذا الأقرع اللعين”.
نتساقط ضحكا، وتنزل كلماته علينا بردا وسلاما نحن الفقراء، تبثُّ فينا نزعته الفرويدية العفوية سلوى نفسية عارمة بخصوص الانتقام من آليات المنظومة الاجتماعية الاقصائية على جميع المستويات، وقد أخبرنا في نهاية المطاف، هذا الرجل الخبير صاحب الشعبية وسط ساحة، مثَّلت دائما جامعة مفتوحة، بأنّ الاكتفاء بامتلاك الفحولة الجنسية معناه امتلاك مقوِّمات العالم برمَّته! .