“الصعيد في بوح نسائه” .. التنزه داخل فخ
Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0in 5.4pt 0in 5.4pt; mso-para-margin-top:0in; mso-para-margin-right:0in; mso-para-margin-bottom:8.0pt; mso-para-margin-left:0in; line-height:107%; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin; mso-bidi-font-family:Arial; mso-bidi-theme-font:minor-bidi;}
محمد عمرو الجمّال
" آه يالاللي وآه يالاللي...على اللي اتغرب راح ولاقالي"
ترصدتنى هذه الأغنية بصوت "فردوس عبدالحميد" منذ اللحظة الأولى التى عاينت بها الكتاب فوق طاولة العرض.
وعلى الغلاف تلك المرأة معصوبة الرأس ذات الظلال الملاحقة لبشرتها أنما تبدت ،فكانت تكفينى فى العنوان كلمة (بوح) لأتحيز إليها، ماذا تريد هذه المرأة أن تقول ؟!
منيت نفسى بقراءة الكتاب فيما بعد وعلى مهل . لكن الكتاب فى يدي ظل يصدر أزيزا مكتوما معلنا عن رغبته فى الحكي،فشرعت أفر وأقلب صفحاته لأنظر من أيها يدهمنى الصوت . سلمى أنور كاتبة جادة و العنوان مختوم بالهاء المراوغة لكنها نفس الهاء المرهقة تحت وطأة الصعيد الغليظة. وخرجت من حفل التوقيع بانطباعين أحدهما عن سلمى أنور والآخر عن موضوع الكتاب ، فأشفقت مما تجرأت عليه! وتساءلت أى طريق سلكت لمراوغة الوحش؟.
أولا :صندوق الدنيا :- تلعب المقدمة دورا مؤسسا فى الكتاب، فهى ليست مختصرا ولا مرشدا ولاهى تعقيب اجوف يجعلنا كثيرا مانتعجل للمتن. ولكن المقدمة كانت مشاركة بفعل الغواية. ولفهم ذلك ربما نستحضر صورة قائد الفرقة المسرحية في (مولان روج) وهو يعدد على الحاضرين ماسيرونه بعدما يشرع الستار، أو صاحب صندوق الدنيا الذى يشعل فضول الصبيان إلى أن يزج برؤوسهم تحت الغطاء . وبرغم بعض الكلمات ذات الجرس الأكاديمي (الممانعة الثقافية- التفسير الميتافيزيقى- الآثار الجانبية- التمدد فى الوعاء اللغوى) ،فقد نجحت سلمى أنور فى لفت الإنتباه منذ السطور الأولى، وفجرت فى الحضور عبارات ملهبة للتوقعات وجالبة للنفر القليل المتردد خارج السرادق. ولتتمكن أيضا من رؤية ذلك، عليك أن تتخيل الكاتبة وهى تبسط ذراعيها بطريقة مسرحية وتردد هذه العبارات "كان على أن أقنعهن بالحديث" ، "كان على أن أمنح العهود" ثم تغير نبرة صوتها بطريقة أشد تحريضا لتقول "الغيبيات و الأطياف، الأرواح و الأشباح، واختراق الحجب الكونية".ثم ربما لايكفى ذلك كله، فذلك الجمهور ممرن على درامات عديدة وقليل الثقة فى محصول النساء . فتخرج سلمى إلى النظارة حكاية" الست مزيونة" والتى تنتهى بعبارة صعيدية بالغة القوة و الحكمة و الطرافة " خلاص..فضينا! خبطتونا كف وخبطناكم كف ..كل واحد يشوف مصالحه عاد !" عندئذ يخرج الجميع دراهمه لشراء التذاكر والجا بمحض تلهفه إلى عالم السحر و العدودة.
" آه يالاللي... وآه يالاللي"
ثانيا: دم و لحم :- تراودني الأغنية من جديد، ولكن هذه المرة بصوت أكثر أنوثة يعلن عن سحره منذ الحكاية الأولى على جسم و لسان "ورد" " شريهان الصعيد" ، وذلك الغنج الصعيدي المحبب للرجال. تعود الكاتبة بحذر إلى خلفية المشهد وعلى أطراف أصابعها، ثم من طرف قصي تفجر فى الحاضرين أنوثة "ورد" فتخرج الأخيرة من الدخان قائلة " أنا صعيدية ياناس معايزاش اتكلم كيفكم." ومحبة فى الجمال يستمعون لحكاياتها ، ويرصدون أحلامها عن التعليم و العمل و الزواج ،ورغبتها فى التحرر بلاسفور ولا "جلع" . والجمهور هنا ذكوري بطبيعة الحال ولسوف نعرف السبب بعد قليل،المهم أن الكاتبة تستغل انشغال النظارة عنها و تقوم بتنفيذ خدعتها الأهم، فلم تكن خشبة المسرح إلا جليدا تكون بفعل حداثة التعارف وشطط التوقعات فتقوم سلمى بإذابة الجليد وكسر حاجز الإيهام لتشرك النظارة فى الفعل . وليس من المهم أن تكون صاحب لهجة صعيديه لتشخص معنا، المهم أن تكون ذكرا شرقيا،تستطيع أن تخوف النساء وتشد شعورهن وتغازل الحلب والسوريات.
هذا الكتاب دم و لحم يجذبك من كفك لدى المصافحة و يصر عليك لتجلس ثم أنت يامسكين متورط فى الحكاية. لعلك الآن تلعب دور"أحمد" فى حكاية السيدة"راء" لابد أنك أرهقتها سفرا وعنتا ولم تحن عليها إلا بالنذر اليسير ، وحين بشرت بالأنثى فررت كالنسوان،بل النسوة أرجل منك، إذ يتعاون سويا ويقرضن المال ويجتمعن فى البيت المكلوم للمواساة والمساندة ، بل إن جنية البلدة المجاورة تفهم فى الأصول و أنت لاتفهم.
مالك؟هل غضبت؟لاتغضب سريعا ،تعالى الآن لنسرى عنك بحكاية أسطورية " حكاية فاطنة وخياتها مع أمنا الغولة!"
والذى يجعل هذا الكتاب ، كما أزعم، من دم و لحم هو -لدهشتى- حسية السرد والتنصيص لدى سلمى أنور وجليساتها، ومبدأ الحسية ذاته منقسم لفرعين :-
1-حسية معاشة : تشتمل طقوس الدفن و التغسيل، نقش الحناء والتطيب، وصف السيقان المصبوبة والعباءات المحبوكة، الضرب و القتل و نكش الشعر، والربط بالسلاسل، حكايات السرير ،تفكيك الأثاث أو حتى محاولة شطب همزة الذكوره.
2-حسية ذات طابع توراتى : وهذى نجدها فى الأساطير وحيثما ظهرت غولة، جنية شريرة أو أنسية آكلة للحوم البشر . غالبها يعتمد على التخفى فى قشرة شخص آخر و إعماء القدر أو القوى الخارقة لفترة من الزمن تسمح بالمخاتلة ، مثل تخفى"فاطنة" فى جلد خشيش بون العجوز ، واختلاس الرجل للنظر من فوق السطح ليرى الجلد الحقيقي للجنية زوجته ثم يحرقها، وهذا يحيلنى إلى حكاية "يعقوب" الذى اختطف النبوة من أخيه "العيص" خلال خدعة انتهزها لعماء أبيه.
ثم تترى الحكايات وتتعاقب و تتماهى منذ الحكاية الخامسة ،بسند من احتكام النمط و تشابه البيئات [جدران الحكى] ، حتى أننى لا أكاد أفرق بين زوج "راضية" الكاره للبنات وبين العمدة الذى أجبر "شهد" على البغاء بلقيمات تأكلها ،وترى أن زوج"مستورة" الشاذ كزوج "مهجة" السكير ، وهو هو أبو "صلاة" الذى حنط أنوثتها وحبيبها الذى تركها من أجل الإرث. كلهم ذلك الرجل المفتون بنفسه المشغول عن معايبه،يود لو أقام لذكورته معبدا تتمسح فيه النساء مثل معبد الإله الفرعونى"مين" . وهذا التماهى لم ألمحه من قبل إلا فى كتاب "ألف ليلة و ليلة" والذى وإن كان الكتاب الأثير لدى ، إلا أننى أبدا لم تسعفنى ذاكرتى فى جمع خمس حبكات خلال قراءة واحدة ، ويكون الحل فى النهاية أن تستمتع بلامساءلة لتصبح ابنا للحكاية متعاطفا مع شخوصها ، وهذا بكل تأكيد ما نجحت فيه سلمى أنور.
ثالثا: أزمة النوع: ومع أزمة النوع تظهر أزمة الكاتب و القارئ معا ويبدأ طرح السؤال:-
1-هل تسطيع الرواية الحديثة -بشئ من التصرف- دمج كل الحكايات فى رواية واحدة ؟ والإجابة نعم، -وبتصرف بسيط- ، خاصة فى ظل اتساع اللغة وتأنى الوصف ، خاصة وأن بطلة الرواية واحدة وهى سلمى المتسائلة ، فكل المسامير تدق فى حائط واحد. المشكلة الوحيدة أن الكاتبة نفسها ترفض ذلك و لا تقره.
2-ألا يجوز أن نسميها مجموعة قصصية ، وقد ثبت إضاءة كل حكاية على حدا ؟ والإجابة، بلى يجوز. ويجوز أيضا مسرحة الكتاب وعمل عشرات الأفلام منه،لكن الكاتبة لاتقول بذلك . دعنا من كل هذه الأسئلة فلم يعد سرا أن الكاتبة مولعة ب(عبر نوعية) ألف ليلة وليلة وكذلك(عبر زمنيتها) ،لكن السر يكمن فى كيفية إقرارها لذلك. والآن لنتمثل أحد المشاهد الشيزوفرنية ذات الطابع الأروستقراطى، تجلس فيه سلمى الأديبة مع سلمى الباحثة حول طاولة ودود يتراشفان نفس فنجان القهوة . وتكون نتيجة هذا الاجتماع كالأتى ،أولا :- أن لا تلغى إحداهما الآخرى وذلك بتناول مبحث يشغل كلتاهما وليكن الميثولوجيا القديمة للصعيد ،ثانيا:- أن لاتحجر إحداهما على الآخرى فى طريقة السرد أو التعقيب، ثالثا وأخيرا :أن يكون العمل مهما كان اسمه أو نوعه لطمة موجعة للرجال.
*الآن انكشف الستار عن كل شئ أرادته الرائعة( سلمى أنور) لقد أرادت منذ البداية الغوص فى الحكايا ولكن كشهرزاد عصرية تستدرج شهريار إلى نزهة ليلية خارج المخدع ، آتية على تمنعه بغواية الحكي فى هواء حديقة القصر.وإذا بها تخرج له من الحكايات بوح كل فتاة أراق عمرها، ولوث شرفها بعناده و تغولة ، وقد راوغت الوحش بالأسطورة حينا وبالطرفة حينا حتى تم لها التمكين. فإذا به يرى الحديقة الواقف بين أشجارها تستحيل جبانة ذات شواهد ، وتخرج القتيلات فى أكفانهن تباعا من خلفها شاهرة أصابع الإتهام فى وجهه،وكذلك يرى من خلفه النساء اللاتى تنتظرن ذات المصير، وبعد أن يجتمعن حوله للفتك به تأخذه الكاتبة من يده لتعرضه على عين التاريخ مخزيا.
¤ أخيرا : عرفت بالتجارب العديدة أن الناس لا يأمنون المترفهين جامعى الحكايات ولايصدقونهم إلا أن يبالغوا أمامهم فى الوصف وذكر عراقة المحتد ، وهنا يضطر الكاتب ليستكنه أكثر مما ينسخ ويصبغ الموضوع بعموم الأفكار المعقولة أما سلمى أنور فقد نجحت فى جمع الحكايات الحقيقية ، والسر فى ذلك هو شخصية سلمى أنور نفسها، وأنا هنا ناصح للعقلاء إلى التقرب منها بحذر فمن اليسير جدا التورط فى مودتها، فهى خليط موفق من العطور الراقية و التوابل الحريفة، كذلك الذى كانت تضعه الجدة"حميدة" على جسدها لتنشر نفوذها على القرية وتمرر ضوعتها إلى الذكريات. السر هو أن كل جليساتها أحببنها وتوددن إليها بالحكايا.
من أجل ذلك استأذنت "ورد"فى انصراف أمها قبل الحكى،وتحدثت"سين"إليها بصوت خافت ، وكانت"صاد" ودودا معها، وتخلت السيدة"ميم" معها عن جهامتها المعهودة. حتى"أم ملاك " وارثة التدين و التحفظ قالت لها "طاب لى أن أشاركك شيئا من ماضي أحلامي. "
وإن كانت الأساطير، حتى فى الصعيد، تتغذى من الواقع، فلربما حين تصبح الفتيات جدات وتجلسن إلى الحفيدات تلقين الحواديت،ربما حكت إحداهن لحفيدتها تلك الأسطورة عن "سلمى" اسمعى يابنيتى، وقبل ماتسمعى صل على الحبيب النبى، كان فيه زمان حورية مليحة عدت لنا البحر على حصان أسمر محجل، وكان فى جيبها الشمال فولات قليلين وكفها اليمين عليه نقش الحنة ، وجات يابنيتى وفضلت تزعق يا مين يحكي لى حكاية واديله فولة لحالة،ياكل وتشبع عياله، واتلموا عليها الخلق يابنيتى فى زمن الجوع لما خلصوا الفولات،ولأن الحورية كانت طيبة تحب الحكايات ، بكت ووقع اللؤلؤ من عنيها ، لؤلؤة بيضه خبتها جدتك فى سنانها، ولؤلؤة خضرا حطيتها على كردانها الذهب، ولؤلؤة حمرا الشمش غابت عامين فحطوها مكانها،ولؤلؤة و لؤلؤة..إلى أن تنام الصغيرة ولاتنام الحكايات...
وآه يالاللي وآه يالاللي....
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي وشاعر مصري