هشام علوان
في روايته السادسة (المايسترو)، يقدم لنا سعد القرش، ما يمكنُ أن نطلق عليه مشروعا سرديا مُكملا لبناءاتٍ سردية سابقة، ارتكزت على فكرتي: الاغتراب والصراع، سواء كان اغترابا وصراعا روحيا أو جسديا، داخل الوطن أو خارجه، منذ روايته الأولى (حديث الجنود)، ومرورا بـ (باب السفينة)، وثلاثية (أوزير) حتى نصل إلى (المايسترو).
في (المايسترو)، وهو اسمٌ له دلالة، لشخصٍ يضبطُ الإيقاعَ كقائدٍ في فرقة موسيقية، يقدمُ لنا القرش شخصية مصطفى المحامي الشاب الذي يحملُ معه عصاه ونظّارته، ليرى بها ما خفي من العوارِ والاعوجاج، فيقوم بمعالجته ويضبطُ إيقاعه، كما يليقُ بمايسترو.
يدخلُ مصطفى المحامي في حوار عبر مواقع التواصل الاجتماعي مع سيدة أمريكية تُدعى لورا، والتي تعمل أستاذة للدراسات الشرق أوسطية بجامعة ميشيجان الأمريكية، يبدأ الحوار بتعارف تقليدي بينهما بالتحية الشهيرة: Hi، فتفاجئه برد التحية باللغة العربية: أهلا، التي تعني الترحيب الشديد بالضيف العربي، حين يُقري ضيفه، ويريد أن يكون ودودا معه لأبعد حد، كأنه حَلَّ ونزل بين أهله.
تستمر الحوارات، بين مصطفى المحامي ولورا متأرجحة بين الشدة واللين، ومحاولات استعراضية منه لمجاراة ثقافة لورا الواسعة، يحتدم الحوار أحيانا كأنه مباراة بين خصمين، من يربح يذعن له الآخر، حين دعاها لزيارة مصر، فتجيب أنها لا تجد داعيا لزيارة أي بلد عربي، ينصب مصطفى فخّا لها، يستدرجها كي تقع فيه، حين يسألها:
( ـ ذكريني، هل أنتِ إنجليزية، وبلادك هي بريطانيا العظمى؟
ـ إنجليزية؟ لستُ إنجليزية، ولا أتصور أن ذاكرتك ضعيفة إلى هذه الدرجة. اصعد إلى أعلى في أول المحادثة، لكي تجد أنني درست وأقيم وأُدَرّسُ في ميشيجان.
ـ عفوا، أنتِ أمريكية، وهذا لا يمنع أن تكون بلادك هي بريطانيا.
ـ أمرك غريب، هل تجعلني لغتي الأولى الأصلية الإنجليزية مواطنة إنجليزية، وتحول بلدي إلى تابع للجغرافيا البريطانية؟ تقول جادا أو ساخرا: بريطانيا العظمى، فما شأني ببريطانيا عظمى كانت أم صغرى؟!
ـ أنتِ أجبتِ، أغنيتني عن محاولة إقناعك بأن لغتي العربية لا تعني بالضرورة أنني مواطن عربي، وأن بلادي عربية، مصر مصرية.
ـ مصر مصرية، هذه بداية معقولة، وعليك البحث عن الجذور والروافد والتفاعلات، وكلها تنفي فكرة النقاء العرقي، أمريكا أمريكية، هذا إيجاز فلا أحد أمريكيا خالصا، إلا البؤساء الذين حملوا صفات الهنود الحمر، وهم ليسو هنودا أو حمرا) ص31، 32.
حوارٌ أم صراع؟!
هكذا يبدأ الحوار بينهما ليوحي لنا في أول مستويات التلقي لهذا النص، أننا أمام صراع ثقافي بين الشرق والغرب، من خلال الرسائل المتبادلة بين مصطفى ولورا، هل هو حوار أم صراع؟! تلك هي المسألة كما قال هاملت!
نجدُ أن الصراع عند سعد القرش في (المايسترو) صراع فكري ثقافي بين مصطفى ولورا، وليس عنصريا بين أعلى وأدنى، بل هو تزاوج وتمازج بين حضاراتٍ لأنه ثقافي بين أنداد، ولم يكن صراع وجود كما في رواية (قصة حياة باي Life Of Pi) للكاتب الكندي يان مارتل، والتي تحكي عن باي شاب هندي، ونمر وضبع وحمار وحشي وقرد، نجوا من حادثة غرق سفينة، وكلهم في قارب وسط المحيط، وكان الصراع بينهم على الوجود، من يفترس من؟! ولم يبق في القارب سوى الشاب باي والنمر، وبقيت العلاقة بينهما في توجسٍ وحذر، يصطاد باي من المحيط طيورا وكائناتٍ بحرية، يقتسمها مع النمر، كأن حوارا من الصمت البليغ بينهما، من أجل هدنة مؤقتة لتجاوز محنة التيه في المياه الزرقاء، والنجاة في آخر الأمر، بعد رحلة ظلت مائتي وسبعة وعشرين يوما في المحيط، وحازت الرواية على جائزة البوكر البريطانية عام 2002م.
وليس الصراع في (المايسترو) عنصريا بغيضا كما جاء في رواية الطيب صالح الشهيرة (موسم الهجرة إلى الشمال) بين مصطفى سعيد بطل الرواية وإليزابيث زوجته البريطانية، صراع بين الشمال والجنوب، قائم على التعالي والغطرسة والنظرة الدونية للآخر، فجاءت النهاية بينهما عنيفة مأساوية.
على النقيض نجد مصطفى المايسترو بطل سعد القرش، كان ندّا للورا، فحدث هذا التمازج الذي انتهى بالمحبة والتوافق رغم اختلاف العادات والتقاليد والدين “ظلت محتفظة بديانتها المسيحية”، لأنه حوار حضاري، قائم على التسامح وقبول الآخر.
هناك أيضا صراع شرقي / شرقي، مبني على العقائد بين نوّاف الرسام الذي لا يحمل هُويّة (من فئة البدون)، وتسو البوذي الذي يحلم أن يُعمّد ويصبح لاما في مدينة لاسا المُحرمة على الغرباء في هضبة التبت، فيأخذ الحوار في الرواية، جانبا يغلفه التعصب أحيانا:
(ويهتز القارب من القهقهات، ويلومه نوّاف:
ـ مالك أنت بالله يا تسو؟ أنت كافر والحمد لله.
لا يغضب الرجل بوصفه بالكفر، وإنما لانطواء لهجة الاتهام على ازدراء وخطأ، في لحظة مساسٍ بالعصب العاري للعقيدة، أو الاستهانة والاستخفاف ببلاده وأهله، لا يراعي شيئا، ولا يبالي بأحد. تيار الغضب، حين يسري تلقائيا، يضيء مصباحا أو يشعل حريقا. ويسعفه لسانه:
ـ لو أن الأمر هو الكفر فنحن نتساوى، كلانا كافر بإله الآخر.
يَعْجَبُ نوّاف أن يتهمه أحد بالكفر، ليس كفرا بالله، وإنما الكفر في عمومه كلمة لا يحتملها. ثم يفكر أن الكافر بالكفر هو المؤمن الحق:
ـ وسوف يقضي الله، يوم القيامة، في محكمة العدل بحكمه.
ولا يأبه تسو للقيامة ومحكمتها:
ـ إذا كنتُ لا أؤمن بإلهك، فهل أخاف قضاءه في يوم تسميه “القيامة”، أو أعمل حسابا لنار تقولون إن “وقودها الناس والحجارة”؟ كيف يتساوى احتمال الناس بأجسادهم الضعيفة، مع حجارة تنضجها النار؟
ـ لأن عقولهم مثلك قُدَّتْ من الصخر، فهي والحجارة سواء.
يصمت تسو، ويخلو وجهه من أي تعبير، ويفقد حياده زهوا أراد نوّاف أن يجنيه من الانتصار المعنوي عليه، فيسأله وهو يشير إلى رأسه:
ـ جيد أن تقتنع بوجود صخرة هنا، حجارة لا عقل.) ص 38، 39.
وأحيانا يتداخل معهم أنيل الشاب الهندي الذي يعتنق الهندوسية، ظهر ذلك جليا في موقف تفسير تسو لحالة الدفاع عن النفس، بأن التسامح يفترض ألا نعتدي على أي شخص ولو بدفع الأذى عن أنفسنا كما في العقيدة البوذية، بينما انتقده أنيل ورأى بضرورة الدفاع عن النفس، فجاء رد تسو موبخا محتدّا، ليلخص الأمر في قوله: (إخرس يا ولد، منذ متى يناقش الآلهة؟) ص20.
ربما كان انتقاد أنيل نابعا من تجربة شخصية، نتيجة لطرده من قصر سيده الخليجي، وموافقة والده ماني على تلك العقوبة، عندما بنى في فناء القصر قاربا من بقايا الخشب، ذَكَّر الخليجي بأصوله الأولى، حين علق صديقه المخمور على القارب ساخرا: (لو احتفظ به أبوك، لجعلناه نواة متحف لأدوات الصيد، لكنه فرط في ثروته، وليته دفنه في حديقة القصر ليعثر عليه أحفاد الأحفاد) ص16.
فاغتاظ سيده الخليجي من المعايرة، وعاقب أنيل بالطرد من جنة القصر.
كان إحساس أنيل ـ الذي ولد في الخليج ولم ير الهند أبدا ـ بالظلم الفادح من سيده، نظير خطأ ساذج لم يتعمده الشاب الهندي، بل وجد موافقة وترحيبا من ابن صاحب القصر ذاته، لكن والده لا يريد تذكر أصوله الأولى، ومهنة أبيه صائد اللؤلؤ، ذلك التاريخ مشين بالنسبة له، ويريد أن ينساه، فوجبت عقوبة أنيل:
(يسأله سيده: أبوك ماني، هل تعرف معنى “ماني”؟
ـ أعرف يا سيدي أنه أبي، هذا معنى الاسم الذي هو أبي.
ـ ماني كما عرفت من زمن يعني الجوهرة، أما أنت فهندي مزيف، لم تعش في بلادك، ولا تعرف عنها أي شيء، ولدتَ هنا، ودللك أبوك فنشأت طريا، ولولا العِشْرَةَ مع أبيك لاستحققتَ القتل) ص18.
ثم يضيف كأنه رب يطرد عبده الآثم من جنته، وهو يشير إلى بوابة القصر/الجنة:
(من هناك تعرف الطريق، اخرج ولا تريني وجهك، خذ قاربك إلى الجحيم، وتسوّل أي سيد يكفلك) ص18.
المعمار والبناء
أما المستوى الثاني لتلقي النص، فهو معمار البناء السردي للرواية، وهو محكم وبه خبرة للكاتب سبقتها خمس روايات، وقراءات عديدة، لكن كثرة المناظرات Debates بين تسو البوذي ورفاق القارب، جاءت أحيانا ثقيلة وتشبه المناظرات الدينية، وأكد عليها كثرة الاستشهادات في نصوص دينية قرآنية وأحاديث نبوية، وكذلك في التناظر الثقافي الفكري بين مصطفى و لورا كما سبق وأوضحنا.
ويكمن المستوى الثالث لتلقي الرواية في اللغة، وهي أحيانا فصحى ومرات فصيحة، لكنها جاءت معبرة عن الشخوص، ومناسبة للمواقف، وأحسن الكاتب توظيفها بدلالاتها المتعددة.
المستوى الرابع وهو دلالي، يكمن في فكرة القارب الذي يرمز للعالم، حيث يوجد بداخله أربعة رجال من جنسيات وعقائد مختلفة (مصطفى الأمريكي من أصل مصري، وأنيل الهندي الهندوسي، وتسو البوذي، ونواف البدون).
في داخل هذا الحيز المكاني الضيق (القارب)، وخلال الحيز الزماني القليل (أحداث الرواية تدور خلال ست ساعات تقريبا) كيف حدث امتزاج بين هذه النماذج البشرية، رغم اختلافها العرقي والعقائدي إلا أنها تعايشت وتقبّلتْ بعضها برحابة صدر وألفة، وتحاورت بشكل حضاري، متجاوزة كل الخلافات بينها.
من الدلالات في النص أيضا، استهلال الرواية بترنيمة إلى رع عندما يشرق، من كتاب الخروج إلى النهار، المعروف بكتاب الموتى عند قدماء المصريين، كأن نورا سوف يأتي من بعد دياجير الظلام، أو كأن ما سيأتي نبوءة أو إشارة.
كما يأتي النص بتجليات أخرى عن شخوص عابرين في الرواية، لكنهم تركوا أثرا دالا على فكرتيّ: الصراع والاغتراب، مثل شخصية ماني والد أنيل، الخاضع الخانع لولي نعمته الخليجي، الذي لم يزر بلاده الهند منذ سنوات طويلة، أخذته الغربة في متاهاتها، واستنزفت حنينه إليها حتى نفد، وكيف ضحى بابنه، من دون أن يرفل له جفن، في سبيل إرضاء سيده الصيّاد القديم الذي حوّلته ثروة النفط، ليصبح من رجال الأعمال، ولا يحب أن يُذكره أحد بأصله المتواضع.
وتظهر بخفوت شخصية مونيرول الشاب البنغالي أحد ضحايا الاغتراب في النص، الذي اختفى بعد أن ضاق صدره بأصابع سمينة ليد تعبث بشعر رأسه، ورفضه لإشارات سيده الشاذة المريبة.
وهناك حكايات أخرى عن مصطفى ودفاعه عن مصريين بالسعودية، أحدهم متهم بتهريب مخدرات، والآخر سائق متهم بتهريب يمني إلى الأراضي السعودية.
والمرأة المطلقة التي وقف بجانبها كي تأخذ حقوقها بالقانون وأصرت أن ترقص له حين كسب قضيتها، وعلاقته الغامضة بوالده رغم مباركته لزواجه من لورا، ووقوفه بجانب مصطفى ضد رفض أمه لتلك الزيجة، وأهل قريته، وقطط الشوارع حين يترك لهم الطعام واللبن على الأرصفة.
كذلك شخصية حياة التي أُلقي بها عارية في ظلمة مياه الخليج، وإنقاذهم لها، ومساعدتها على الهرب إلى مصر، كان اسمها دالا، وحكايتها معبرة عن حالة التفسخ التي تصيب مجتمعات الوفرة المفرطة المتفاجئة بالثروة.
وتظهر أيضا والدة مصطفى بطيبتها وعفويتها، وحكاية الديك الرومي الهائج، وحزنه على ذبحه، كان يعده أخا له، كلها إشارات دلالية على نبل مصطفى، لكن ثمة إثم يحوك في صدره، تجاه موقفه الشاذ مع الثري الخليجي وزوجته وعودته بمال ملوث بالإثم، وبناء حياة جديدة بهذا المال، وخجله من ذكر تلك القصة لحبيبته لورا.
ومن ضمن الشخصيات العابرة في النص ولها دلالة أيضا، شخصية تيشي، الذي حدثت له معجزة طبية، حكى عنها تسو لرفاق القارب، في أثناء أحد الجدالات بينهم عن الطب الجراحي البوذي، والذي استطاع أن يعيد عضوا مبتورا مرة أخرى لأبيه، يقول نواف مستفزا تسو البوذي:
( ـ مالكم أنتم بالطب؟ أنتم بشر طيبون، ضحايا يحلمون بعودةٍ لا تبدو قريبة، فاستمرأوا رهبنة لا يجدون غيرها عزاء.
يرد تسو في تأدب:
ـ رهباننا ليسوا بلهاء هاربين من الحياة أو كارهين لها، لا يكبتون أشواقهم ليتفانوا في عبادة رجل يقولون إنه صُلب قبل أكثر من ألفي عام.
يبتسم المايسترو:
ـ لو أن لورا هنا الآن لغضبت من هذا الافتراء، فلا أحب إليها من السيدة مريم إلا ابنها المسيح.
ويتبع:
ـ كانت لورا ستتهمك بعبادة الدالاي لاما، ممثل الله في الأرض، صاحب القداسة الدينية والدنيوية.) ص 101، 102.
ويحزن تسو لسخريتهم من فكرة علاج الإخصاء، حين حكى لهم عن الشاب تيشي، الذي استطاع رهبان التبت البوذيين إعادة عضوه المبتور مرة أخرى.
وعندما يطالبه نوّاف بالدليل:
(فيصيح تسو بفخر:
ـ دليل؟
ـ نعم دليل، ومن دونه لا يوجد شاب، ولا عضو مفقود، ولا عضو رجع بكامل حيويته أو نصف حيويته، تخاريف.
يضرب تسو صدره:
ـ أنا الدليل.
ـ رأيتَ الشاب، أو عثرتَ على عضوه بصحبة الراهب الذي تقول إنه جرَّاح؟
ـ لا رأيت ولا عثرت. ذلك الشاب “تيشي”، كان أبي!) ص106، 107.
ونلاحظ أن السرد يغلب عليه الحوار، وليس الوصف، حوارات كأنها عصفٌ ذهني بين أفكار تبدو متنافرة، لكنها متسامحة تقبل الاختلاف، وتفتح مساحات شاسعة في العقل والقلب، لقبولها والتعايش معها في رحابة وألفة.
إنها رواية عن إنسان هذا العصر، بكل إحباطاته وهمومه، وقلقه الوجودي، وصراعاته الحياتية اليومية من أجل البقاء، وكفاحه المستمر لمواجهة حالة التشظي، التي تجعله يفقد جزءا كبيرا من إنسانيته.