الطّيّب غنايم*
الشِّعْرُ محاولاتُ توثيق جماليّة للحظةٍ ما، لموقفٍ مُعيّن، للإحساسِ الذي يداهمُ الكاتبَ لحظاتِ تلقِّيهِ إشارةً من رَبَّةِ الشِّعر فتُمْلي عليه أوصافًا يُدرجُها على هيئة الموصوف أو على شاكلة ما يشعرُ حِيَالَ ما أو من يِصفُهُ/ا. الأدبُ لعبةٌ، تقنيّاتٌ، وعيٌ للصناعةِ والشِّعر أصعبُ أنواع هذه اللُّعبة. يجيدُ الشّاعرُ مرزوق الحلبيّ ويتقنُ هذه اللعبة، فيكتبُها بوعي لا ينتقصُ من تلقائيَّةِ العُذوبَة اللّسانيّة.
هذا بشكل عامّ، وبشكلٍ خاصّ، حينما يداعبُ الشِّعرُ شَعْرَ أفكارِ الفِكْرِ ويحاوِلُ ترتيب الأخلاقيّات والجماليّات بوصفها وَجبةً دَسْمَةً يجبُ التهامُها من أجل البقاء والوجود، على أنّها حالةٌ ضروريّةٌ واجبةٌ، فإنّه، أي الشِّعْرُ حينها ترتفعُ درجةُ حرارته حَدَّ الغليان إلّا أنّه في ذات الآن يُشْعِرُكَ بدفءٍ في القلبٍ وبارتخاءٍ وتوتُّرٍ يتضافران لأنّهُ حين يتناولُ الفلسفةَ يصير عَذْبًا، صَلْدًا، مُخْتَرِقًا للمعايير، الموضوعات وطرائقِ تناوُلِهَا وتناولِ الحياة.
رباعيّات التّجلّي
الشِّعرُ الذي ترغبُ خِلْسَةً في استلابِهِ لَكَ هو شِعْرٌ ودَدْتَ لو تكتبُهُ أنت، هذا ما انتابني حيال قصيدة “رباعيّات التّجلّي”، التي وجدتُني أقرأها مرارًا وتكرارًا وأقفُ على كلّ شطرةٍ منها، هذه القصيدة الموسيقيّة الصّوفيّة التّأمّليّة العميقة الحادّة العذبة ركيزةٌ أساسٌ للمؤلّف الشّعريّ:
كأنّني صوفيّ
وقلبي جوهرة
كأنّني ورقٌ
غارقٌ في مِحْبَرَة
كأنّني شيخٌ
وظلّي صنوبرة
كأنّني زهرة
على مقبرة
فَقَلْبُ الصّوفيّ جوهرتُهُ، لأنّه من قلبِهِ يرى الوجودَ ويتقصّى تفاصيلَ بارئِهِ في خلائقِهِ، ومن الدّاخلِ يأتي الخلاصُ، فقط من الدّاخل، فالعالمُ الخارجيّ بضوضائهِ وعبثِهِ ونيرانِ حروبِهِ الدّاميةِ المفجعة سوف لن يأتي البشريّة بخلاص. الصّوفيّ يقتطعُ خلاصَهُ من داخلِهِ، إذ يتّحِدُ مع دواخِلِهِ فيرتبطُ مع ذبذبات الوجودِ الأصيلةِ ليرى العالَمَ دونَ تشويش أو تشويه. الصّوفيّ يرى العالمَ بطريقةٍ صافية نقيّةٍ كعمليّة تقطير تفصلُ المكوّناتِ المختلفةَ للمادّة فترى المكنونات على حقيقتها دون رتوش.
الصّوتُ الرّاوي في مؤلّف “الطّريق إلى الآخرة” واعٍ أيضًا للمُحيطِ المزبلة/المقبرة ورغم ذلك هو واعٍ لكونهِ زهرَةً تُجمِّلُ المحيطَ القاتم، لأنّ الطّاقة تأتي من القلبِ وليس من المحيط السّلبيّ.
الرّاوي في هذا المؤلّف الشّعريّ القاسي، يرغبُ في تقمّص دورَ النّبيّ، رغبَةً جامحَةً في تصليح هذا العالم العطب، لكنه واعٍ لمحدوديّته كإنسان، فينسحبُ وراءً ويتمترسُ بالشِّعْرِ، وهو ما يجيدُهُ:
كأنّني
إمامُ الزّمان
كأنّني
أثَرُ النّار في المكان
(ص 21)
ولم يختَرِ الرّاوي أن يكونَ نارًا، بل أثَرَها، وهذا نابعٌ أيضًا من النّظرة الصّوفيّة، ومتناغمٌ مع النّظر إلى أثرِ الله على أرضِهِ الشّاسعةِ، فالتّفكّر في الخلائقِ يؤدّي إلى اكتشافِ الخالق.
الذّروةُ في هذه القصيدة، أو ربّما إحدى ذروات الشّعريّة في مُجمَلِ المؤلّف الشّعريّ هذا، هي جُمْلَةُ الخاتمة، وهي عمليّةٌ قَفْلةٌ رائعة، والقفلات في الشّعر، لها بالغ الأثر وكبيرُ الثِّقَلِ في تصميم القصيدة – كما تقول الباحثة باربارا هيرشتاين سميث في كتابها “Poetic Closure القَفْلَة الشّعريّة”[1] التي تنسبُ للقفلة الوزنَ الأكبرَ في شعريّة القصيدة وتقول إنّ النّهايَةَ تمنحنا نظرةً تلخيصيّة ومغايرة لكلّ النّصّ الشّعريّ الذي قرأناهُ. أمّا القفلةُ الذُّروةُ في هذه القصيدة:
كأنّني العهدُ
كأنّني الوعدُ
كأنّني
اليومُ والغَدُ
كأنّني ذاتي وذاتُ الله في لحظة الوَجْد
(ص 23)
هو تمازجٌ بين ذات المخلوق وذات الخالق، وهي عُصارةُ فلسفة الصّوفيّة، التي لعمقها كُفِّرَ الكثيرون من روّادها ولسببها صُلِبَ الحَلّاجُ. والوَجْدُ حالة حبّ عميق، ذروةُ عشقٍ، وفيها من الوُجودِ، الكينونةِ والتّواجُد. الضّدّان، الصّغير والكبير، المخلوق والخالق، الأرضيّ والسّماويّ، ليسا ضدّين، فالضّدّان هما عنصران متناغمان، وفق النّظرة الصّوفيّة التي ينضحُ بهذا هذا المؤلّف:
كأنّي ضدّانِ
في واحد
كأنّي ذاهبٌ
والوقتُ عائد
كأنّني حربُ
العقائد بالعقائد
كأنّني مؤمنٌ
أوقَفَ قلبَهُ شمعَةً في المَعابِد.
الرّاوي الشّاعر واعٍ للأضداد في دواخِلِهِ، لكنه راضٍ عن هذا التّنافر الذي يجعلُهُ سلامُه الدّاخليُّ تناغمًا يَلِدُ ذبذباتٍ بنّاءة.
حربُ العقائد بالعقائد هي حربُ عقيدة الرّاوي المرتكزةِ على الانفتاح، العقل، النّقد، الشّذوذ عن القطيع ضدّ عقيدة القطيع المُذْعِنَةِ لكلّ مُقَدَّسٍ وكلّ سخيف، دون مساءلةٍ وبكلّ تسليم.
يبتغي الرّاوي في كثير من مواضع القصائد المختلفة على طول المجموعة الشّعريّة إصلًاحًا للعالم أجمع، لديه فانتازيا نبويّة تريد لو تمنحُ العالمَ نورًا وترشده الطّريقَ النّيِّرَ القويم:
كأنّني معجزةُ
الوليّ
كأنّني رقصة
الهنديّ
كأنّني محبّةُ
النّبيّ للنبيّ
الوليّ والنّبيّ مفردتان تتكرّران في مواضع مختلفة، تعزّزان من الفانتازيا الإصلاحيّة السّائدة في مجمل العمل الشّعريّ. فالتّجربةُ الصّوفيّةُ التي دخل عبابها الحلبيّ، تتجلّى بارزةً في قصيدةً ذُيِّلَت بتوقيع الشّاعر (قونية، 5 تشرين الأوّل 2022)، حيثُ يحجُّ إليها روّاد الصّوفيّة، وحيثما دُفِنَ مولانا جلال الدّين الرّوميّ، شاعر وفيلسوف الصّوفيّة المولويّة العظيم – فهل ذهبَ الشّاعرُ إلى قونية ليتعمَّقَ في المذهب الصّوفي ويتقصّى مصادرهُ وبواطنهُ أم أنّه ذهب ليستثيرَ في نفسه شِعْرًا؟ الإجابة لا تهمّ، تهمّني قصيدة “في حضرة مولانا” (ص 24):
كُن متواضعًا لتُدرِكَ، إذا ما تأَمَّلْتَ مَلِيًّا،
أنَّكَ قد تكونُ لا شيء يُذْكَر
أو لا يُذْكَر
مُجرَّدُ “هيج”
وبالتّركيّةِ، فإنّ كلمةَ “هيج” تعني العدمَ أو اللا-شيء، وَمُجَدَّدًا يُركّز المُحتوى على صِغَرِ البشَرِ أمامَ الخالقِ وأمامَ عَظَمَةِ ما أَوْجَدَ وما أنتَجَ وما صَنَعَ، فالصّوفيّةُ تَجْعَلُ من صِغَرِنا مُنْدَمِجًا مع ضخامة هذا العالم الرّحب، فكما ذكرنا أعلاه، لا أضدادَ – بل تناقضات متناغمة في ذات الكينونة الأوسعِ من التّقطُّبات.
ويواصِلُ المتحدِّثُ في القصيدة:
ستفرَغُ من ذاتِكَ في حضرةِ مولانا
وتمتلئ بالفكرة المُشْرِقَة
العقلُ هو دُرَّةُ التّاج في هذا الكتاب، والفكرةُ المُشرقة-النَّيِّرَة هي جوهرةُ الجوهرة – فالشِّعرُ هنا يَحْذُو حَذْوَ العَقْلِ وليس كما هي الفكرة السّائدة بشأن القلب الذي يُمْلِي القلبَ وتيرَةَ الأشعار.
في هذا السّياق يحضرني ما قاله الصّحافيّ الفذّ حسن البطل، رحمه الله، عن دوريش وأدونيس، واصفًا الأوّل بشاعر القلب والمشاعر والثّاني بشاعرِ العقل ودُرُوبهِ؛ أمّا مرزوق الحلبيّ فإنّه يدمجُ ويمازجُ بين المدرستين، بكل اتّزانٍ وتؤدة. فلا القلب لهُ الغَلَبَةُ ولا العقلُ لهُ الغَلَبَةُ، إنّه المزيج بين قلب وعقل، مع ترجيح الكفّة للعقل. في هذا المؤلّف يُكْتَبُ العقلُ شِعْرًا. ويسجِّلُ القلبُ ما يرتئيه العقلُ. الرؤية والرّؤيا هي الضّالّة للراوي/الشّاعر، إلّا أنّها عصيّة على المنال، صعبة التّحصيل والاصطياد، فيلجأ الشّاعر إلى الرّضا بالقُصُور:
قُل لنفسكَ راضيًا:
لا أَحَدَ
لا أَحَدَ
يرى ما رآهُ مولانا
ويظلُّ مُمْتَلِئًا بذاتِهِ
لا أحَدَ
لا أحَدَ
(ص 27)
البابُ الأوّل من الأبواب التّسعة للمجموعة، أسميّهِ باب العقل – فموتيف الفكر والتّفكير والخلاص من خلال العقلانيّة هو الموضوع لهذا الباب الذّكيّ.
أغيبُ وأحضرُ
موتيف الحضور والغياب، ذلك الموتيف العربيّ بامتياز، والذي طوّرهُ الشّاعر الفلسطينيّ محمود دوريش، يأخُذُ في هذه القصيدة بُعدًا آخرَ وتنويعًا عميقًا على ذات المحتوى، وليسَ في الأمرِ تكرارٌ، بل هو اتّساعٌ لمعنى ومداعبةٌ لفكرةٍ لا يزالُ وجودها عميقًا لدى الإنسان العربيّ المُعاصر:
أُمسِكُ جمرَةَ الحكمة
تفسِّرُ الكونَ ولا تفسِّرُ
أغمضُ عينيّ على وَجَعِي
وأَغيبُ في النّور
بياضُ المعنى في آخر الطّريق ينتظرُ القارئَ تقريبًا في كلّ قفلةٍ من قفلاتِ “باب العقل”، القسم الأوّل من الكتاب، وهو ليس مجرَّدَ اختيار أن يبتدأ الشّاعرُ شعْرَهُ من العقل، فالعقلُ بوّابةُ القلب والقلبُ بوّابة العقلِ، ولا تناقضَ في هذا الكونِ الخَرِبِ، إذ أنَّ الأضداد تُكَمِّلُ بعضهَا البعض وتصيرُ متكاملةً.
البَحْثُ عن عَدَالَةٍ لهذا العالم المُشوّهِ هي ضالّة الكاتبِ الشّاعر، حتّى أنّ الرّاوي يتمنّى الخروج من القدسيّة العمياء من أجل تحرير المعنى والعبد والإنسان الرّازحِ تحت ثِقَلِ القداسة على اختلاف أنواعها:
لو أنّ الإلهَ
خَرَجَ من أسمائِهِ التّسعة والتّسعينَ
وأوقَفَ دورةَ الأفلاك
كي يصعَدَ القاطنون في الهوامشِ
إلى المَدَاراتِ
ويطلَعَ السّجناءُ من الأقبيةِ
لو أنّه قَبِلَ خطوتي
لاستوى الكونْ كما الفكرةُ العادلة.
(ص 36)
معجمٌ عاقلٌ بعنوانٍ إيروتيكيّ
الخلخالُ رمزُ إغراء، الخلخالُ في رجلِ امرأةٍ حسناء موضعَ إثارةٍ، الخلخال ينبِّهُكَ صوتًا إلى عضوٍ من أعضاء فتنَةِ المرأةِ، والخلخالُ في قصيدةِ “خلاخيلُ في أرجلِ الوقتِ” (ص 38) هو إثارَةُ وإيروتيكا العقل تُغري الإنسانَ العاقِلَ، بنهجٍ ليسَ أقلَّ إثارَةً من غزلٍ في امرأةٍ حسناء – هذه القصيدة تعريفاتٌ للعقل، لنهجِهِ، لدربِهِ:
قلبي
مهبطُ لآلهةٍ تخلّى عنها الرّبّ
اللّليلُ
دفاترُ تُكتَبُ بخطّ اليد
العينان
يطيرُ منهما اللّطيفُ إذا شاءَ
الشَّغَفُ
أجنحةُ الكون المفتوحة
الوقتُ
كي يضربَ العُشّاقُ خيامَهم
الحكمةُ
نجمةٌ تائهةٌ
في هذا السّياق، سأستعيرُ مصطلحًا من الدّراما وفنّ كتابتها، ففي هذه القصيدة الرّائعة، القفلةُ توصلِكُ إلى ما يُسَمَّى في المسرح بالتّطهير العقليّ (Catharsis) أي ذروة التّنفيس للعقل عَبْرَ الاستكانة إلى المعنى وإلى الجوهر المنبثق عنه:
المفرداتُ
جنّيّاتٌ في أعلى النّخلة
يا للمعنى الشّاعريّ المتضاربِ تناغمًا، فإنَّ الجنيَّةَ في الثّقافة العربيّة والعالميّة على حدّ سواء، رمز للقدرة الخارقة، الشّرّ، العُبُور إلى الضّفّة الأُخرى، التّخويف، التّرهيب، التّرغيب، الفانتازيا، القلق المحفوف برغبة عظمى لاستكشاف البواطن وانفتاحٌ على ما هو مُبْهَمٌ: كلّ هذا يودي بنا إلى تعريف المفردات التي هي اللّغة، فنجدُ أنّها مكوّنةٌ من ضدّ العقل، فكيفَ لهذا العقل أن يرتكزَ إلى ضدّهِ لأجل أن يكتَمِلَ؟ هكذا هو الشّعر الصّافي، يُقَوْلِبُ عكسَ الشّيء مع أصلِهِ على شاكلةِ توأم سياميّ.
التأويلُ ((Hermeneutics هو علمُ إِعْمَالُ العقل في قراءة النّصوص، وهو علمٌ مترامي الأطراف واسع الحقول المعرفيّة يتناولُ طرائق تناولنا للنصوص وتعاملنا معها، وفي قصيدة “المعاني” (ص 47) نجدُ تأويلَ الشّاعر للعالم، يمنحه تعريفات وتأصيلًا:
لا معنى للنصوص
لولا التّأويل
………
لا معنى للسماء
لو سكنتها نجمةٌ واحدةٌ.
لا معنى للقصيدة إذا لم يسكنِ المجازُ في بيوتها
كي يبدأَ المعنى
الطَّريقُ إلى الجحيم وَثيرَةٌ، عذبةٌ، سلسةُ التناغمِ، مشاكسةٌ وفيها الكثير من التّفكير بشأن التّفكير وطرائق تناولنا لهذه الحياة – الشِّعْرُ فلسفةٌ تُعرِّي الحياةَ وتَرُشُّ مِلْحًا على الجُرح أحيانًا وأحيانًا تُطَيِّبُ الخاطرَ بأوصافٍ عذبة مثل خمرٍ مُعَتَّقٍ ذي جودة عالية سَلْسَ العُبُورِ في الحُنْجُرَةِ.
ينتصرُ الشِّعرُ لموضوعات كثيرة، يتعلَّقُ الأمر بتوجُّهِ ومسار الشّاعر، أمّا شُعر الحلبيّ، فينتصرُ للعقل، ينتصرُ للفكر، ينتصرُ للحياة بوصفها منظومةَ جماليّات تُسَيِّرُ الوُجودَ وتأبى القطيعَ وترفضُ الإذعانَ لقوالبَ فكريّةٍ مُجهَّزَةٍ سلفًا على مقاس جمهور يبتغي التَّصفيقَ لحماسةٍ مستحدثةٍ على وَقْعِ خطاباتٍ أيديولوجيّةٍ مختلفةٍ تداعبُ السَّاذجَ في قلوبنا.
بالعقلِ يبتدأُ المؤلّفُ الشّعريُّ وينتهي بالمحو والنُّقْصانِ فَشِيمَةُ العَقْلِ التّشكيكُ والإنقاصُ والطَّعْنُ والمَحْوُ وعدمُ الاستكانة أو الرّضا، فالرّضا يَكْمُنُ فقط في عبور الدُّروب، دروبِ المعنى غيرِ المكتمل، سُبلِ التّفكير غيرِ المُتَكامل وعنايات إلهيّة بأقدارِنَا التي نفرضُ مسارتِها طواعيةً لوُجهاتنا في هذي الحياة الصّغيرة جدًا، لأنّه وفق المعجم الخاصّ بالحلبيّ فإنّ: العقلَ وحدَهُ سيِّدُ التأويل – إذا أردتُ أن أبالغ، ولا مبالغة هنا: هذي الجملةُ هي مفتاح المؤلّف الشّعريّ الشّاعريّ جدًّا والطّاعنِ في الإمعانِ العقلانيِّ – تناغمًا لا تنافرًا.
تسعةُ أبواب، تسْعُ بوّابات، تسعةُ عوالمَ ينقسم عليها “الطّريق إلى الآخرة”: في المعراج، مقام العقل، درب المسرّات، باب الخيبة، أوّل المعرفة، غواية السّرد، غريب الدّار، محنة الآلهة، نعمة المجاز.
ما موضوعات مؤلّف “الطّريق إلى الآخرة” بالفعل؟ العزوفُ عن صَخَبِ الحياة المعاصرة، والذّهابُ نحوَ ضدِّهَا – وما هو ضدُّهَا؟ الصُّوفيّة / الحِكْمَةُ التي يصفها الحلبيّ بالجمرة التي تفسِّرُ ولا تُفَسِّرُ الكَوْنَ والعَالَمَ – مرزوق واعٍ جدًا لنَقْصِ الحَياةِ، لعَدَمِ كمالها، لانتِقَاصَهَا، لنُكُوصِهَا، ولِرَدَّةِ مُرْتَادِيهَا البَرَرَةَ والكَفَرَة.
النّقصانُ هو الكَمَالُ والحبرُ يحتاجُ مِمحَاةً
ابتدأ المؤلّف الشّعريّ “الطّريق إلى الآخرة” بالعقل الذي هو “سيّدُ التّأويل” وانتهى بـ”قصيدة ناقصة”، فَقَفْلَةُ القفلات في هذا الكتابِ الشّعريّ تقولُ:
أعادَت إليَّ مؤلّفي الشّعريّ
وهَمَسَتْ:
هناكَ قصيدةٌ ناقصة!
العقلُ هو الكمالُ المطلقُ المَبْنِيُّ على نقصٍ ونقصان؟ أليسَ الكمال والنّقصان ضدّين؟ فكيف يفتتحُ الشّاعر مؤلّفه بالكمال وينهيه بالنّقصان؟ مجدّدًا دلالةٌ على تناغم الأضداد، وعلى أنّ السّواد والبياض غريمين أخوين متكاملين، بالضّبط كما هو الرّسمُ والمَحْوُ، فلولا عمليّةُ المحوِ لما اكتملتِ الكتابةُ ولولا النّقصانُ لما تَمَّ اسْتِيفَاءُ الكمالِ، ولا أضداد في هذا العالمِ المُحتقنِ إعمارًا وخرابًا.
من هذا المؤلّف الشّعريّ الشّاعريّ جدًا، أجمل الموتيفات هي الحميميّة. أجمل التأثيرات الخاصّة بقصائد هذا المؤلّف هي الشّاعريّة الحميميّة. هذي القصائد تبعث على الدفء. وأقوى الموتيفات، حينما يدور الحديث عن شعر يتناولُ حكمةً وفلسفةَ حياة وتصلك الرّسالة حميميّةً.
التّجريد في الكتاب رائع، الوصول إلى معانٍ وإلى مباحث مثل محاولة تعريف الوقت، محاولة الغوص في معانٍ لا نفكّرُ فيها في حياتنا اليوميّة. هذا الكتاب الشّعريّ نبشٌ فلسفيٌّ في سلوكيّات الإنسان المعاصر.
الشّعر تفاعل، هذي خُلاصة هذي المجموعة الشّعريّة الدّسمة السّمينة، الشّعر موقف، الشّعر تأمّل عميق في أحوال الوجود والحياة والجمال، الشّعر ظهر جَمَلٍ يستشرفُ كلّ الجبال. الشّعر ألسنة نيران تضطرم في العقل اشتعالًا فيفرّ العقلُ من الخَيَالِ ويشتَعِلُ العقلُ خيالًا يضيفُ مدماكًا آخر ينضافُ لمداميكِ سبرِ غور معاني وجودنا على هذي البسيطة غيرِ البسيطة.
باقة الغربيّة – خطّ التّماسّ
11.02.2025
………………………………..
*شاعر وناقد ومترجم فلسطيني ـ يدرّس الأدب الفلسطيني والعام.
[1] Smith, Barbara Herrnstein. “Poetic Closure: A Study of How Poems End.” U of Chicago P. pp. 25-27 (1968).