ممدوح فرّاج النابي
لم تكن أزمة كتاب “في الشعر الجاهلي” (1926)، هي الأولى أو حتى الأخيرة من الأزمات التي تحرَّشت بعقيدة طه حسين (1889- 1973) وأفكاره، وحرضت أصحاب الفكر الأحادي على المطالبة باستتابته. فقد سبقها أزمة “تجديد ذكرى أبي العلاء“(1919) بعد اتهامه بالتشكيك في عقيدة أبي العلاء، فتارة يلصق به صفة الإيمان، وتارة أخرى يلصق به صفة الكفر!
واحدة من هذه التحرشات (الفكرية) بطه حسين، والتشكيك في عقيدته، كانت مع رحلته إلى فرنسا (1914 – 1919)، فبوادر الأزمة مع العميد نتجت إثر زواجه من سوزان بريسو (1895- 1989) الطالبة الفرنسية المنحدرة من عائلة كاثوليكية، والتي ظلت على دينها إلى وفاتها.
بدـأتْ علاقة طه حسين بسوزان بعد مرور عام من وصوله إلى فرنسا للالتحاق بجامعتها للحصول على درجة الدكتوراه التي أوفدته الحكومة المصرية من أجلها. كانت سوزان بريسو التي التقاها طه حسين مصادفة، اليدَ التي امتدت له وسط متاهة أروقة الجامعة لتقوده إلى دروب العلم، وتحل له ألغاز اللغة، فصارت ملازمة لظله، وانتهى الحال بها لتكون رفيقة درب الدكتور، فقد كانت بمثابة الأمل الذي تسرَّب إليه من عتمة الظلام الذي كان يعيش فيه.
ومن ثمّ لم يكن غريبًا على طه حسين أنْ يخصُّها بحديث عذب في كتابه «الأيام» الذي سجّل فيه على ثلاثة أجزاء ذكرياته منذ أن كان طفلاً في القرية واصفًا حالة البؤس التي كان يعيشُهَا وأقرانه في قرية “الكيلو” إحدى قرى محافظة المنيا، مرورًا بدراسته في الأزهر، منتهيًّا في الجزء الثالث بدراسته في فرنسا ثم تدريسه في الجامعة والصّراعات التي خاضها في سبيل استقلال الجامعة.
فيأتي وصفه لها في الجزء الثالث بالمَلَك “الذى بدّله مِن البؤس نعيمًا ومن اليأس أملاً، ومن الفقر غنى، ومن الشقاء سعادةً وصفوًا”. ومن شدّة إيمانها بطه حسين عاشت معه متنقلّة ما بين البلاد التي كان يتنّقل إليها، ومصر التي عاشت فيها ردحًا طويلاً (75 عامًا في مصر وحدها) حتى إنها فضّلتْ أن تُدفن فيها، وهذا ما ذكره مؤنس ابنها.
- العشق عند طه حسين
كان العميد من الوضوح وهو يُعلن موقفه من الحبّ، وأنّه أحبَّ زوجته –حتى – قبل أن يتزوّجها، فعندما سأله مُحرر جريدة المساء، بتاريخ (14.12.1970) عن أثر الحب في حياة عميد الأدب العربي، أجاب: “لقد أحببتُ امرأتي قبل أن أتزوّجها، وتزوجتها لأني أحببتها ولا زلتُ حتى هذه اللحظة أحبّها، كما أحببتها قبل الزواج مع زيادة الاعتراف بالجميل” (محمد الدسوقي: أيام مع العميد، ص140، 141).
نمّت هذه العلاقة على نحو ما أذاعه طه حسين في كتاباته عنها (في كتبه، وإهداءاته لها، وأيضًا في أحاديثه، وفي رسائله إليها) وأيضًا في كتابها “معك“؛ عن قلب مشبوب بالعاطفة، يحمله بين ضلوعه، ومن ثمّ فمن الحريّ بي، قبل الشروع في إبراز علاقة الحبّ بين طه حسين وسوزان بريسو، أن أتساءل – ومعي القارئ – هل جسّد طه حسين في أدبه، نماذجَ للحبّ والعشق تكشف لنا عن هذا الجانب الذي أظهرته سوزان في كتابها عنه، ومن جانب ثان تؤكد لنا هذا التناقض الذي حوته شخصية طه، المتأرجحة بين الناقد المعنِّف من جانب، والعاشق الوله من جانب آخر، في مفارقة كاشفة لشخصية طه حسين وتعدداتها؟
يبدو لي أن الصّورة التي جسدتها علاقة طه حسين بسوزان بريسو، لهي تجسيد فعلي لطبيعة طه حسين، والتي انعكست أو لنقل تسربت صور منها في كتاباته الإبداعيّة، وظهرت أيضًا في علاقته بتلميذته الأثيرة الدكتورة سهير القلماوي.
قارئ أعمال طه حسين الإبداعيّة (أحلام شهرزاد، الحبّ الضائع، دعاء الكرون، ما وراء النهر) يكتشف – بكل سهولة – تمثيلات متعدّدة لصور العشق، الذي وصلت ذروته في إحداها -“دعاء الكراون (1934)” – إلى التخلّي عن الثأر أو الانتقام، وفي الأخرى إلى التغاضي عن النزوات والخيانات (الحب الضائع 1943)، وفي الثالثة إلى التمرد على طبقية المجتمع (ما وراء النهر 1946)؛ فالحبّ وفق منظور طه حسين لاعب أساسي في التغيير، فالحب يصنع بنعيم (بطل ما رواء النهر) ما يصنع، فلا يدري: “كيف هبط من أعلى عليين إلى أسفل سافلين؟ (ما وراء النهر، ص 32)، لا عجب إذن فيما يصيب المحبين من تبدّلات وتحوّلات، ما دام العشق كما يقول الفتى نعيم “يغير الأوضاع بين المحبين، فيجعل السيد عبدًا، والعبد سيدًا” (ما وراء النهر: ص، 25)، ومن ثمّ لا نجد غرابة فيما أصاب آمنة، وقد تحوّلت – بفعل العشق – من الفتاة التي جاءت لتنتقم إلى عاشقة، أقرب إلى الخادمة من مخدومها، فتقول تعبيرًا عن هذه الحالة: “وكذلك كنتُ ألقي سيدي مع الصبح باسمة مشرقة الوجه، أحمِل إليه قدح الشّاي وبعض الفاكهة قبل أن يثب من سريره” (دعاء الكروان، ص144).
فمثلما فنيت أختها هنادي نتيجة لحبّها هذا المهندس الشاب الذي “برع جماله حتى صار فتنة لا تتّقى، وسحرًا لا يُقاوم، وقد رقّ حديثه حتى أصبح شَرَكا يصيد القلوب وحبالة تختلس النفوس”(دعاء الكروان: ص، 95)، وكأنها بهذا الوصف تُمهد لهذا التحوّل الذي يصيبها، ويكون الحب سببًا في أن تحيد عن هدفها الذي جاءت من أجله، بل وتترك نفسها لهذا الحب الذي لفحها، وقد صار كالنار، وبتعبيرها “.. إنه النار المضطرمة، وإني الفراشة التي تهفو إليها وتَكْلُف بها ولكن عن علم بأنها مُحرقة مُهْلِكَة” (دعاء الكروان، ص95).
وبين حالة الإقبال من المهندس الشاب، والصدود التي تواجهه به آمنة، تشتغل جذوة الحب بين الطرفين، حتى يضيق به الصدر، فيأتي ذات يوم المهندس الشّاب كاشفًا عمّا يعتريه من أمر هذا الحب، دون مواربة أو أحتى غموض”بصوت لا ارتفاع فيه ولا انخفاض ولا إعوجاج فيه ولا التواء!” فيقول:
- “ألا ترين أن الأمر بيننا قد آن له أن ينتهي إلى غايته ويبلغ مداه؟
- قلت : وما ذاك؟
- قال: هذا الحب الذي اختصمنا فيه وقتًا طويلاً وسكتنا عنه وقتا طويلاً، ولكنه لم يسكت عنّا، فما أظنه قد أمهلك يومًا كما أنه لم يمهلني ساعة. أما ينبغي أن تنتهي هذه الحياة الغامضة إلى ما يجب لها من الصّراحة والوضوح؟” (دعاء الكروان: ص 157)
وفي “الحب الضائع“(1943) يقدّم طه حسين عبر شخصية مادلين، صورة من العشق الحالم، فمادلين تعترف هكذا بعد أن أفضت لدفترها ببعض مشاعرها التي باتت تخالجها على غفلة منها “.. وأنا أحسّ شوقًا إلى شيء جديد ألمحه، ولا أتبيّنه، تحسُّه أعماق نفسي وضمير قلبي ولكنه لا يستبين لعقلي ولا يتجلّى لرأيي، فأنا حائرة دون أن أعرف مصدر هذه الحَيرة، هائمة دون أن أعرف موضوع هذا الهيام، مشوقة دون أن أتبيّن غاية هذا الشُّوق، وأنت تسلبني عن هذا كله، وتقوم في نفسي وقلبي مقام هذا كله، ولعلي أنبسط إلى أبعد من هذا فأجلس إليك في لبسة المتفضل، لا متحرجة ولا متأنِّقة، ولا متكلّفة شيئًا يتصل بالزي أو بترتيب الهندام.” (الحبّ الضائع، ص 14)
فتعترف بعد هذا البوح هكذا : “إني عاشقة قد تيّمها العشق، ولكني عاشقة لشخص مجهول لا أعرف من أمره شيئًا، هو الذي يفكر أبواي في أن يكون لي زوجًا” (الحب الضائع: ص 38)، لكنها بعد فترة ترى أن هذا الحب كان سبيلها في معرفة معنى السّعادة حتى إنها كما تقول “لا أتصور الحياة بدون هذا الحب، ولا أطيق لها احتمالاً” (الحب الضائع، ص 104)
كما أن هذا الحب يجعلها – أي مادلين – تغضُّ الطرف عن خيانة مكسيم لها فتقول: “… رجعت مع مكسيم، مستسلمة لحبه مذعنة لسلطانه، عائدة لطاعته متجافية عن خيانته، وإن كنت لم أنسها ولم أعف عنها في قررارة نفسي، ولكني اتخذت لها من قلبي زاوية أقررتها منها، وألقيت بيني وبينها ستارًا، واستجبت لدعاء الحب وألقيت نفسي في ناره المضطرمة، ووجدت الاحتراق بهذا الجحيم نعيمًا”.(ص 91)
وفي “ما وراء النهر” ( 1946 بدأ نشر فصولها) يقدم لنا طه حسين صورة مختلفة للعشق، فيصوّره بالشَّرَك، وصعوبة الانفلات من دائرته، فالعشق، تمّ بفعل تأثير الصّوت، وهو ما يلتقي بطرف مع بداية علاقته بسوزان التي سُحر بصوتها وهي تقرأ له، فالفتي نعيم (الثري) يقع عاشقًا للفتاة خديجة (الفقيرة)، وما يزيد من لوعة العاشق لها هو “لحْظُ الفتاة وصوتها” فراح يتعقبها في غدوها ورواحها من عملها مع قريناتها جانيات القطن، وعندما يستبدّ به العشق، يخلو إلى نفسه، ويكتب في دفتر يومياته: “أوشك أن أظن بنفسي الجنون؛ فإني لا أنطلق في الحقول ولا أتنزه في الحديقة ولا أخلو إلى نفسي في غرفتي إلا رأيت عينًا ساحرة فاترة تنظر إليّ في أناة وخفر، فتنفذ إلى أعماق نفسي وتلذع قلبي لذعًا أليمًا، وأنا لا أكاد أخلو إلى نفسي في غرفتي أو خارج غرفتي في القصر أو بعيدًا عن القصر إلا سمعت صوت هذه الفتاة يبلغ أذني حلوًا رقيقًا، ثم يصل إلى نفسي فيحدث فيها نشوة لا أشبهها بالطرب الذي تحدثه الموسيقى، وإنما أشببها بالنشوة التي تحدثها الخمر، لقد أستأثرت هذه الفتاة بنفسي، وما أرى أن الأمر سينتهي بينها وبيني كما تعودت الأمور أن تنتهي بيني وبين أترابها من حسان الريف” (ما وراء النهر: ص، 31- 32).
الغريب أن هذا الحب في ظل الفوارق الاجتماعية بين الطرفين – التي تبدو حجر عثرة دون إكماله – لم يكن حُبًّا من طرف واحدٍ، فالفتاة البائسة “المطمئنة إلى بؤسها ويأسها” هي الأخرى “مولهة بحب هذا الفتى” وأي فتى هذا؟ الفتى “المترف الغني القوي المفور“. العشق بين الفتى المفور، والفتاة البائسة، سيكون هو الآخر خروجًا أو كسرًا للتابوهات التي ترى في هذه العلاقة من الصعوبة بمكان أن تتم أو تتحقق، كما صورت الأدبيات العربية، وقدمت لنا انكسارات قلوب المحبين، بسبب هذه الفوارق الطبقية، طه حسين يجعل من الحب أنموذجًا للتحول والتبديل على نحو ما رأينا في صورة آمنة (دعاء الكروان)، ومادلين (الحب الضائع)، هنا – في ما وراء النهر – يثور العاشقان على تقاليد المجتمع، فالحب – في نظر الفتى – ” لا يحتقر شيئًا كما يحتقر الرفعة والضعة، ولا يسخر من شي كما يسخر من تفاوت المراتب والطبقات”، ويتحدى الجميع، لكن تنتصر التقاليد والأنساق المهيمنة التي رأها (والأدق حاربها) طه حسين من قبل الآفة بل العاهة الحقيقية التي تصيب المجتمع والمعوّقة لنهضته وتقدّمه، ويتدخل الأخ الموتور، لينتصف لهذه القيم والأنساق بأن يقتل أخته ويسلم نفسه إلى الشرطة.
لكن ما يهمّ أن الفتى كان مخلصًا في عشقه، سعى إلى التحدي، بل تحمّل طرد والده له من القصر، في سبيل أن يجتمع بمعشوقته؛ فالحب – في نظره هو الأبقى- والحب يساوي بين الجميع العبد والسيد، ويجعل السيد عبدًا أيضًا، وهو نفس المعنى الذي عبّر عنه المهندس الشّاب – في دعاء الكروان – وهو يسعى لإقناع آمنة بالزواج منه فيقول لها:”فإنك تظنين أني أعبث، وتقدرين ما بينك وبيني من الفرق الاجتماعي متى تزوج السيد الغني المترف من خادمه الشقيّة الفقيرة البائسة! أليس هذا هو ما تقدرين؟ فاريحي نفسك إذن من كل هذه الخواطر، فقد رأيت منذ موقفنا ذاك في المدينة أني لست سيدًا كغيري من السادة، وقد رأيت أنا منذ عرفتك أنكِ لست خادمًا كغيرك من الخدم.(….)
ثم أطرقَ صامتًا فأطال الإطراق والصمت، ولبثتُ ماثلة ذاهلة لا أقول شيئًا، وأكاد لا أعي شيئًا، ولكنه رفع رأسه، وقال في صوت هادئ حزين: أتقبلينَ؟ قلتُ في صوت ليس أقل من صوته هدوءًا ولا حزنًا: فإن سيدي يعلم أن ليس إلى هذا من سبيل. قال: تفكرين في أبوي! فإني قد فكرتُ فيهما قبلك وقد حزمت أمري، وما أشك في أنهما لن يمتنعا علي، ولو قد فعلا لعرفت كيف أمتنع عليهما، ولكنهما لن يفعلا، فهل تقبلين؟ قلتُ: ليس إلى ذلك من سبيل. قال: فمن حقي عليك أن أفهم هذا الامتناع، إنك لتعلمين أن فراقًا بيننا مستحيل، وإني لأعلم كما تعلمين أن ليس لقلبينا رضا إلا في الزواج. قلت : فقد قضى علي قلبينا ألا يرضيا. قال: ومَن ذا الذي قضي عليهما هذا العذاب المتصل؟ وهممت أن أجيب ولكن صوتي يحتبس، ودمعي ينطق، وإني لأراني أهم بالانصراف، وإني لأراه قد نهض من مجلسه متثاقلاً وسعى إليّ متباطئًا حتى ردني في هدوء ودعة، ثم عاد إلى مجلسه وقال: أترين إليّ كيف أملك نفسي ! ألا تفكرين في تلك الثورة الجامحة التي شقيت بها وقتًا طويلاً” (دعاء الكروان،ص ص، 158،159).
إطراد تمثيلات الحبّ وثورات المحبين، وتمردهم برفضهم للطبقيّة والفوارق الاجتماعيّة، في الأدب القصصيّ لطه حسين (القصة والرواية) يأتي كتأكيد على أن مشروعه الإصلاحيّ والتنويريّ، متصلٌ ببعضه اتّصالاً وثيقًا، فلا ينفصلُ في جانبه الاجتماعيّ عن جَانبه الفكريّ، فالإصلاح الاجتماعيّ هو النوّاة لأي إصلاح فكّري أو سياسي، وهو ما أكّد عليه طه حسين مرارًا وتكرارًا بدعوته إلى “الحريّة الحرّة“؛ فالثورة (ورديفها التمرد) التي تجسّدت في مشروعه الفكري (أبو العلاء المعري (1919)، ابن خلدون (1925)، الشعر الجاهلي (1926)، المتنبي (1937)، مستقبل الثقافة في مصر (1938))، تتواشج وتتصل بما أثاره من دعوات لثورات اجتماعيّة وإصلاحيّة في (خطبة الشيخ (1915 بدأ نشرها في جريدة السفور) الأيام (1929)، دعاء الكروان (1934)، الحبّ الضائع (1943)، شجرة البؤس (1944)، ما وراء النهر (1946)، المعذبون في الأرض (1950)) سعى في جميعها إلى تحرّر الفرد من أيّ سُلطة أبويّة؛ دينيّة (الفكر الدينيّ وهيمنة الشيوخ)، وسياسيّة (السُّلطة الحاكمة وتبرُّمها من الحرياّت والديموقراطيّة، وسعيها لتكريس الاستبداد والسُّلْطَويّة)، واجتماعيّة (التابو الاجتماعي). ولهذا يجعل من قضايا إصلاح المجتمع همّه الأوّل، ومن ثمّ فلا يتوانى في مساندة كلّ رغبة حقيقية للتمرد على هذه السُّلطويّة، بما في ذلك رغبة المحبين التحرّر من رِقّ التقاليد والأنساق المهيمنة،
لكن الراوي في “ما وراء النهر” يتدخل واصفًا هذه العلاقة بين الفتى والفتاة، وإن كان يستأذن من القرّاء بأن يعفوه، من أن يصوّر لهم “ما كان بين نعيم وخديجة من قرب وبُعد، ومن دنوّ ونأي” ويبرر طلبه بأن الذي يهمّه من هذه العلاقة التي “ينسج الحب خيوطها بين المحبين في أناة ومهل، ثم في اندفاع وعجل، ثم يأخذهم فيها كما تُؤخذ الطير فيما يُنصب لها من الشراك” (الرواية، ص 32)، الذي يهمه، بل ويعني القراء كما تصوّر الرّاوي / المشارك، هو المأزق أو الشَّرَك الذي سقط فيه المحبّان، وكأنّه يريد أنْ يُصوّر لنا وقع الحب وتأثيره فيقول: “إن الذي يعنيه – وكذلك القصة والقرّاء – هو “أن هذين الفتييْن قد وقعا في شَرَكٍ من أشراك الحبّ، فاضطربا فيه قليلاً أو كثيرًا يحاولان أن يخلصا منه وأن يعودا إلى الأمن والحرية وفراغ البال”، لكن هل يتحقق لهما هذا، فمع الأسف لا؛ لأن “إفلات العاشقين من أشراك الحب ليس أقل عسرًا من إفلات الطير من أشراكها حين تقع فيها”(ما وراء النهر، ص 32)
- الأعمى والقارئة
بداية علاقة طه حسين بالسيدة سوزان، تعود إلى 12 مايو 1915 في مونبليية الفرنسية التي كان طه يدرس في جامعتها. لم يكن ما حدث في هذا اليوم مقررًا، فسوزان لم تكن من قبل أن تحدثت مع أعمى، لكن القدر كان قال كلمته على لسان الأعمى الآخر في الغرفة، الأستاذ الإيطالي الذي كان يدرِّسه اللغة اللاتينية، فقد قال له على سبيل الاستشراف: “سيدي هذه الفتاة ستكون زوجتك”.
لو كانت تعلم سوزان وقتها أن ما نطق به الأستاذ سيكون هو القدر نفسه، لما أجابته عندما طلب منها الزواج في ردٍّ فظٍ بأنها لا تحبّه. كانت سوزان في بداية الأمر قارئة لطه حسين، وقد تعرف عليها وهي تقرأ راسين فأحبّ نغمات صوتها وعشق طريقة إلقائها وتعلّق قلبه بهذا الطائر الأجنبي الذى حطّ في أعشاش قلبه الحزينة متذكّرًا قول بشار بن برد “… والأذن تَعْشَقُ قبل العين أحيانًا”.
ومن شدة تأثير هذا اليوم في حياته يصفه طه حسين هكذا: «كأنه تلك الشمس التى أقبلت فى ذلك اليوم من أيام الربيع فجلت عن المدينة ما كان قد أطبق عليها من ذلك السحاب الذى كان بعضه يركب بعضًا والذى كان يعصف ويقصف حتى ملأ المدينة أو كاد يملؤها إشفاقًا وروعًا وإذا المدينة تصبح كلها إشراقا ونورًا”. جاء ردّ سوزان على إعلان طه حسين حبه بصراحة: “اغفري لي، لا بدّ من أن أقول لك ذلك، إنى أحبك”؛ مخيبًا وقاسيًّا، فقالت له: “ولكني لا أُحبُّكَ”، وقال بحزن: “إنني أعرف ذلك جيدًا، وأعرف جيدًا كذلك أنه مستحيل”. وما بين إعلان الحب والإعراض تولدت علاقة طه بسوزان التي تعدّ واحدة من قصص الحب التي أكدت أن الحب يشق طريقه وسط العقبات.
العلاقة المستحيلة التي كان يعيها طه حسين جيدًا خاصّة أنه كان واعيًا لشروط الابتعاث التي وقّع عليها عندما أوفدته الجامعة مبعوثًا على حسابها للدراسة في باريس؛ إذْ حوت شرطًا ضمن شروط أُخرى قيَّدت بها الجامعة طُلابها، يحول دون اتمام الزواج، ومن ثمّ كان عليه أن يحلَّ نفسه مِن العهد الذي قطعه على نفسه، وبالفعل أرسل لهم ما يفيد زواجه بهذه القارئة التي كانت تساعده، وعندما جاءه قبول الجامعة أراد أن يثبت للجامعة أنه طالب جدّ ونشاط وإنتاج لا صاحب لعب وكسل واشتغال بنفسه عما يجب عليه من الدرس والتحصيل، فأجلّ في سبيل ذلك الزواج واكتفى بالخطوبة حتى الانتهاء من الليسانس الذي جاء من أجله.
كانت الفوارق بين الاثنين واضحة، والأعجب أن طه حسين نفسه كان يعيها جيدًا، وهو ما جعل طلب الزواج الذي عرضه طه عليها – حسبما وصف – مُستحيلاً؛ فهو مسلم وهي مسيحية -وكان هذا فارقًا كبيرًا، فطه أولا وأخيرًا خريج الأزهر- وأيضًا هو مصري عربي الثقافة والانتماء الحضاري، وهي فرنسية الثقافة والانتماء الحضاري. وإلى جانب هذه الفوارق كانت ثمة عقبة، هي الأخرى كادت أن تحول دون اتمام هذا الزواج، فعندما عرضت سوزان على أسرتها أمر زواجها من هذا الطالب الذي كانت تصحبه إلى جامعته كل يوم، وكانت تقرأ له: قالوا لها: “كيف؟! من أجنبي؟! وأعمى؟! وفوق ذلك كله مسلم؟! لا شك أنكِ جُنِنْتِ تمامًا؟! وأسئلتهم كانت تحمل – في مضمونها – رفضًا صريحًا لا مقنّعًا.
- نافذة على العالم
على الرغم من كافة العقبات التي اعترف بها الطرفان، إلا أن الزواج تمّ فى التاسع من أغسطس1917، بعد أن وفَّى طه بالنذر الذي قطعه على نفسه وحصل على الشهادة. لم يحقق الزواج الطمأنينة التي كان يبتغيها طه فقط، بل كانت الزوجة بمثابة النافذة التي فَتَحَتْ له آفاق العلم وأيضًا الثقافة الفرنسيّة، فقد قضى السنة الأولى في باريس على حد تعبيره “سجينًا أو كالسجين، لم يذكر قط أن خرج من باريس إلى ضاحية من ضواحيها في أيام الرّاحة التي كان رفاقه ينفقون فيها أيام الآحاد، ولم يذكر أنه اختلف إلى قهوة من قهوات الحي اللاتيني التي كان رفاقه الجادون يلمّون بها بين حين وحين … وكان يسمع أنباء المسارح ومعاهد الموسيقى واللهو، وكانت نفسه ربما نازعته إلى بعض هذه المسارح ليسمع هذه القصة أو تلك. ولكنه كان يردّ نفسه إلى القناعة والرضا. وكيف السبيل إلى غير ذلك وهو لا يستطيع أن يدعو غيره إلى مرافقته، ولا يريد أن يكلّف غيره من الناس عناء مرافقته من جهة وتحمّل ما تقتضيه هذه المرافقة من النفقات من جهة أخرى”، وإذا بكل هذا يتغير مع قدومها، فقد اصطحبته إلى مراكزها الثقافية ونواديها ومراكز فنونها، وهو من قبل قضى العام لم يعرف شيئًا غير الذهاب إلى الجامعة. كانت سوزان بالنسبة لطه طاقة القدر والجحيم في آن واحد. فقد حدث الزواج لأن ما بينهما كما قال طه لها ذات مرة: “يفوق الحبّ“.
- العشق والجحيم
مثلما كان هذا الزواج بمثابة النافذة التي أطل منها طه حسين على كافة الفنون والمعارف في فرنسا، كان حدّه الثاني الأكثر ألمًا؛ إذ فتح باب الجحيم على طه، فقد اتخذ أعداء طه، والمتربصون به من هذا الزواج وسيلتهم للهجوم على الرجل وإثبات ما عشّش في أذهانهم من أباطيل مغرضة ضدّ الرجل، بل وذهبوا بعيدًا إلى اتهامه بالكفر والارتداد عن الإسلام والتحوّل إلى المسيحية، فكان لاعتراف سوزان أنها عندما كانت مترددة في أمر الزواج من طه، جاءها الدعم من عم لها كان قسّا، فكما تحكي سوزان أنه جاء ليتعرف بطه وخرج معه للتنزه، ثم بعد أن قضى معه ساعتين قال لها عند العودة: “بوسعك أن تنفِّذي ما عزمتِ عليه … لا تخافي بصحبة هذا الرجل يستطيع المرء أن يُحلِّق بالحوار ما استطاع إلى ذلك سبيلا، إنه سيتجاوزك باستمرار”، وجاء ردّ طه هكذا: «لقد كان عمك القس أحبّ رجل إلى نفسي».
ومن هنا اصطاد حُرَّاس الدين العبارات ليوقعوا بالرجل، فذهبوا إلى أن الحب معناه الهوى في المذهب. كما اتخذوا من تشجيع عمّ سوزان القس لها بالزواج من طه الطالب الضرير، ما يفيد «أنه السبيل لزرع عميل مستتر ينفذ أهدافهم الصليبية في مصر، قلب العالم العربي والإسلامى».
في كتاب الدكتور محمد عمارة “طه حسين من الانبهار إلى الانتصار للإسلام” والذي صدر في اكتوبر 2014، كملحق لمجلة الأزهر، يظهر العميد بمظهر الخائف المرتعش الخانع أمام زوجته، حتي أنه في إحدى زياراته للمغرب همس لمرافقه الدكتور عبد الهادي التازي الذي عينه له الملك محمد الخامس، أنه يريد أن يذهب إلى مسجد القرويين ليصلى ركعتين لكنه طلب منه كتمان أمر هذه الزيارة وخبر هذه الصلاة عن زوجته سوزان بريسو. بل يذهب مذهبًا آخر إلى تَنَصُر الابن مؤنس طه حسين في المهجر.
الناقد أنور الجندي الذي كرّس معظم كتاباته لمهاجمة فكر طه حسين، واعتباره عميلًا للغرب روّج الفكر الغربي في الجامعة المصرية، وكان سببًا في دخول هؤلاء المستعربين للجامعة، لم يترك فرصة صدور مذكرات زوجة طه حسين، التي كانت تُنشر في مجلة أكتوبر، حتى جدّد هجومه القديم من جديد على طه، ولكن متخذًا مما تكتبه الزوجة دليلاً على الإدانة، وانتهى إلى أن طه حسين ارتدّ عن الإسلام، والدليل عنده، ما استشفه من الجو الكنائسي المليء بالتراتيل والمزامير والقداس الذي أضفته السيدة سوزان على حياتهما الاجتماعية، وهذا الاحتفال المتصل بأعياد العنصرة وعيد القيامة وكيف كان طه حسين يستمتع بهذه الأحفال، وهؤلاء الكردينالات والقسس والآباء الذين يملأون هذه الحياة. وأيضًا ذلك الاهتمام بأجراس الكنائس حين سمي (كلود) الذي هو مؤنس ديوانه باسمها.
ومن ثم ليس من قبيل المصادفة أن يأتي ويسأل أحد الشيوخ المعمّمين طه حسين: «لماذا تزوجت فرنسية؟ لو كنتُ حرّا لاشترعتُ قانونًا ينفى كل مصرى يتزوج من أجنبيّة». وبسخرية لاذعة يرد عليه طه حسين قائلا: «أرجو يا سيدي… اشتراع هذا القانون، فإنى أستعجل ألا أستمع إلى مثل هذا الكلام!» ويستأنف الشيخ المعمم الكلام قائلا: «لكنى بعد كل شيء يا دكتور طه.. أودّ أن أفهم الأسباب الحقيقية التى حملتك على الزواج من أجنبية فأنت مصرى طيب، ووطنى طيب عظيم الذكاء فكيف أقدمت على مثل هذا العمل؟» فيجيب طه حسين قائلا: «قابلت فتاة وأحببتها فتزوجتها، ولو لم أفعل ذلك لبقيت عزباء أو لتزوجت نفاقا – بما أننى أحب امرأة أخرى – امرأة مصرية، وكنت سأجعل منها امرأة تعسة!».
- رسائل الورد
تظهر الرسائل المتبادلة بين طه حسين وزوجته سوزان أثناء رحلاته دون رفقتها، أو رحلاتها إلى فرنسا مع أبنائهم دونه، جانبًا مهمًّا في شخصية العميد، فطه حسين الذي دائمًا كان يوصف بالشيخ طه، كان يمتلك مشاعر متقدة، وعواطف ملتهبة، وإخلاص نادر في الحب، فالرسائل المتبادلة تكشف صورة للشيخ العاشق، فجميع الرسائل تقطر غزلاً ورقة، رغم أن كثيرًا من هذه الرّسائل كتبها وهو في مرحلة عمرية كبيرة، لكن العشق وأحواله الذي جعل طه يقول لها: «بدونكِ أشعرُ أني أعمى حقًا. أما وأنا معكِ، فإني أتوصل إلى الشعور بكل شيء، وأنّي أمتزج بكل الأشياء التي تحيط بي».«بدونك أشعر فعلاً بأني ضرير، لأني معك قادرٌ على استشعار كل شيء وعلى الاختلاط بالأشياء التي تحيط بي»
وتقديرًا لدورها ومكانته عنده، أهدى لها كتابه “قصص تمثيلية” بالعبارة الآتية:” إلى زوجي التي جعل الله لي منها نورًا بعد ظلمة، وأنسًا بعد وحشة، ونعمة بعد بؤس، أرفع هذا الكتاب”. وكتب – مرة أخري – يقول: «كان لطفى بك – يقصد لطفي السيد – يقول إن طه لا يستطيع أن يعمل بعيداً عن زوجته ذلك لأن قلبه لا يكون معه، أى نعم ولا كذلك عقله”، أما هي فكانت رسائلها هكذا: «حملتُ إلى منزل ابنتى بالمعادى رسائلكَ التى أريد أن أقرأها بهدوء كلما استطعت إلى ذلك سبيلاً. وقد انزلقت إحداها هذا الصباح من الرزمة ووقعت أرضاً وكانت تحمل تاريخ ديسمبر 1925 وقرأت: ابقي، لا تذهبي، سواء خرجت أو لم أخرج، أحملكِ فيّ، أحبكِ. ابقي، ابقي، أحبكِ. لن أقول لكِ وداعًا، فأنا أملككِ، وسأملكك دومًا، ابقي، ابقي يا حبّي«.
لم تكن هذه العواطف المشبوبة بالحب والامتنان، مقتصرة على ما بثّه في رسائله لزوجته سوزان وفقط، فبعض من هذه العواطف المشبوبة بالحبّ خصّ به تلميذته الأسيرة الدكتورة سهير القلماوي، التي اختصها بمنزلة خاصّة، فكان دائمًا يظهر ودّه لها، وهو ما ظهر عبر الرسائل التي احتفظ بها طه حسين لنفسه، وكانت سهير القلماوي واحدة من ثلاث شخصيات نسائية هي : أمينة السعيد ومي زيادة وسهير القلماوي. فيقول في رسالة لها: “والله يشهد أني لأذكرك كل يوم غير مرة. وما أظن أنك تذكرينني كما أذكرك. وهذا طبيعي. فإن لك من حياتك الجادة الخصبة في باريس، ما يشغلك حتى عني.” وقد بادلته سهير القلماوي حبًّا بحب، فدومًا تعتبره الأب الروحي لها، بل تشير في كل مناسبة إلى دوره الكبير، في تغيير مسارها بعدما رفض عميد كلية العلوم الإنجليزي قبولها في كلية الطب، وهدد بالاستقالة، فكان الملاذ والنجاة من مصير أختها بأن تتزوج بشخص لا تراه إلا بعد كتابة العقد، فقبلها طالبة في قسم اللغة العربية بكلية الآداب فأحال “يأسها أملاً”
وهذه العلاقة الفريدة التي تعكس محبة كبيرة للأستاذ لتلميذته، يؤكدها الدكتور صبري حافظ في ذكرياته عن طه حسين التي صدرت مسلسلة في مجلة الدوحة القطرية أعداد يناير – أبريل 2020، بعنوان “طه حسين عن قرب: ذكريات شخصية“، فيصف أثناء تسجيله لمحضر جلسة اجتماع لجنة جوائز الدولة بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، والعلوم الاجتماعية (المجلس الأعلى للثقافة الآن) التي كان يرأسها الدكتور طه حسين، وكانت تنعقد – بسبب اعتلال صحته – في بيته (رامتان) بحضور أعضاء اللجنة، فيقول الدكتور صبري حافظ واصفًا توافد أعضاء اللجنة إلى بيت العميد، وكيفية استقباله لهم بودّ واحترام، وعندما جاءت الدكتورة سهير القلماوي – وكانت عضوة إلى جانب الدكتور مهدي علام، والدكتور عوض محمد عوض، والدكتور سليمان حزين – جرى هكذا استقبالها “وأعقبته (يقصد الدكتور مهدي علام) الدكتورة سهير القلماوي التي نادته باللقب نفسه (يا معالي الباشا)، وقبّلتْ هي الأخرى يده، واستبقى الدكتور طه يدها بيده، وهو يتحسّسها بودّ، فقد كانت ابنته، بأكثر من معيار” (صبري حافظ: طه حسين من قريب، ذكريات شخصية، مجلة الدوحة عدد يناير 2020، ص 67)
****
بسبب المشاكل المادية الحادّة التى أخذت تتراكم على العائلة الصغيرة خصوصًا بعد أن أصبح لهما طفلان؛ بنت تدعى أمينة وولد يُدعى مؤنس، اضطرت السيدة سوزان إلى العودة إلى فرنسا. وعلى مدى الأشهر التى ظلت فيها هناك، كانت تتبادل الرسائل يوميًا مع زوجها البعيد. وكان كل واحد منهما يتحدث إلى الآخر بدقة عن تفاصيل حياته اليومية. وفى واحدة من رسائله، كتب طه حسين يقول لزوجته: “هل أعمل؟ ولكن كيف أعمل بدون صوتك الذى يشجعنى وينصحني، بدون حضورك الذى يقويني؟ ولمن أستطيع أن أبوح بما فى نفسى بحرية؟”
وفى نفس الرسالة يضيف قائلا: «لقد أستيقظتُ على ظلمة لا تُطاق، وكان لا بد أن أكتبَ لكِ لكى تتبدّد هذه الظلمة. أترين كيف أنكِ ضيائى حاضرة كُنتِ أم غائبة؟» وفى رسالة أخرى، يكتب لها قائلا: «كان أفلاطون يفكر أننا إذ نتحاب فإننا لا نفعل سوى أن نعيد صنع ما أفسده عارض ما. عندما تنفصل نفسان عن بعضيهما، تبحث كل منهما عن الأخرى، وعندما يتواجدان ويتعارفان، فإنهما لا يعودان كائنين وإنما كائن واحد. إننى أؤمن بذلك تماما».
وفى إحدى رحلاتها إلى فرنسا كتب لها يقول «اعذرى فرنسيتى، اعذرى أفكارى، فأنا لا أفكر وإنما انا أحب، ما أصعب قول ذلك، لن يعرف الإنسان نفسه على الإطلاق، وسيبقى دوماً فى أنفسنا شىء ما نستشعره دون أن نفهمه.»
وأيضاً يقول «أمنعك من أن تكونى حزينة وآمرك بالابتسام، لا تقولى شيئًا، الآن تعالى إلى ذراعى أحبّك حتى نهاية الحساب». ومرة أخرى «أحبك وأنتظرك ولا أحيا إلا على هذا الانتظار«. تقول سوزان إن رسائله التسعين إليها كانت كلها اعترافاً وعطاءً، وتقول «هذا القدر من الحب الذى كان على أن أحمله وحدى، عبئاً رائعاً، ما أكثر ما خفت ألا أتمكن من القيام بمتطلباته بجدارة».
وفى رسالة من هذه الرسائل التسعين يقول «أنا قليل الإفضاء بمشاعرى، بل أننى صموت، بل أننى على وعى بذلك تمامًا، لكن لم أكن أعتقد على الإطلاق بقدرتى على مثل هذا الحب. وستبقى دومًا فى أعماق نفوسنا زاوية كانت وستبقى دومًا وحشية، ولن تقاسمها إلا بين اثنين. كائنين فقط أو أنها لن تنقسم على الإطلاق. هذه الزاوية المتوحشة هى أفضل ما فينا».
في إحدى عبارات العشق المبكّرة قال الدكتور طه موجِّهًا خطابه لها “بدونكِ أشعرُ أنني أعمى حقًّا. أمّا وأنا معك، فإني أتوصّلُ إلى الشعور بالأشياء التي تحيطُ بي.”، وبعدما مات ردّتْ عليه سوزان قائلة: “ذراعي لن تُمْسكَ بذراعك مُجدّدًا، وَيداي تبدوان لي الآن بلا فائدة!” في تعبير عن حالة الفقد التي عاشتها بعده.