حسني حسن
طال توقفه، كثيراً، أمام المقبرة التي قام بترميمها، مؤخراً، أحدهم. راح يحدِق، بوجومٍ ذاهل، في البوابة الحديدية، المقوسة من أعلى والمطلية بدهان أخضر سرخسي، وهو يفكر في ذلك “الغريب” القابع هناك، فيما وراء المزلاج الثقيل والقفل النحاسي الضخم. بكيفية ما، كان يعلم بارتحاله، ويحدس، بيقين، الخواءَ الضام للخواء. تساءل عما إذا كان عليه أن يتلو آيات الفاتحة، أو يصفِر بشفتيه لحناً جنائزياً شجياً وحزيناً!. في الأخير، وضع باقة الزهور الصغيرة، التي ظلت منسية بيده، على إفريز القبر، لتسندها وتحفظها من الوقوع أرضاً، الصبَارة العجوز التي طالما رأى أباه يسقيها بأكواز الماء المجلوب من حنفية البلدية العمومية القابعة على رأس زقاق المقابر. ابتسم بمكرٍ لا شر فيه، وخفق بالجناحين متعالياً، دائخاً، ومروَعاً باللا وجود، الكثيف الهش، للوجود.
في البلد البعيد، المحصور بين ظلمات بحر الظلمات، وبين الجبال المخفورة بالصنوبر والأرَز وغابات البلوط الفليني، كانت قد قالت له إنه لم يكن، أبداً، لن يكون، أبداً، لها ومعها. كانت كفها، الصغيرة بأناملها الدقيقة المسحوبة الأطراف، تنقبض وتنبسط، بعصبية مكبوحة، فوق الطاولة الأنيقة التي تؤثث جلستهما بذلك المقهى الرباطي، الملتبس بالهاجس الفرنسي المخيم على الهواء. شعر بالاختناق، فأزاح منفضة السجائر الغاصة بأعقاب “الجيتان”، الفرنسية الصنع، التي تفضلها. أجابها ببرود، وبصوت يأتي من عالم اللا صوت:
– لم أكن، أبداً، لن أكون، أبداً، لي ومعي!
في السادسة والنصف من صباح كل يوم، كان يدخل البيت، كالمتسلل، حاملاً أرغفة الخبز البلدي الطازجة، طبق الفول المدمس الساخن، وأقراص الطعمية المحشوة بالفلفل الأحمر الحار. وفيما تروح أمه تعد لهم ساندوتشات “الفينو” للمدرسة، يشرع الأب، الراجع من فرشته الثانية التي ينزلق بعيداً عنها باكراً، بإعداد صحني الفول والفلافل وأكواب الشاي الساخن، لهم جميعهم. لا يتذكر، مرة، أنه لمح ابتسامة، أو ظل لابتسامة، على شفتي أمه عبر كل تلك الصباحات التي لا عد لها؛ فقط يتذكر دندنتها، ذات مساء، مع “الست” بكلمات أغنية “فات الميعاد”، وقد توامضت دمعة متحجرة في عينيها:
– من يا أمي؟
انتبهت لسؤال الصغير، فأخذته إلى حضنها وقبلت رأسه، كالمعتذرة. زفرت أخيراً:
– الزمن.
أراحا ظهريهما على أحجار “قصبة الأوداية” لدقائق استسلما فيها للصمت. أخذ يحدِق في المحيط المتمدد حتى نهاية البصر؛ هل ثمة إمكانية للفكاك من شِباك الزمن؟ ألا يستطيع المحيط أن يُحيط بذلك الزمن ويحيله مِلحاً وزَبداً؟
– لستَ أولَ ولدٍ يخذله أبوه، ولن تكون الأخير، بطبيعة الحال.
– لا، ليس هذا ما يضنيني، لو تعلمين!
– إذاً؟
– أنْ نعلق في شِباك الزمن على هذا النحو المشين، ألا يكون لنا ثمة أمل في النسيان، وأن نكبر مثقَلين بصورٍ أليمة تكبر فوق كِبرنا، أو ليس مزرياً أن نتبدى، أبداً، بكل تلك الهشاشة وانعدام المعصومية؟
لعلها باتت تفكر بالحب جواباً، وحيداً، ممكناً فوق صهيد الأسئلة! لعلها ظلت تسأل عما إذا كان يدفعها، عن عمدٍ، إلى اليأس منه، يأساً منه! أو لعلها، ويا للسعادة المستحيلة، قد أدركت مخططه القاسي لتحريرها من وهم التوقعات؛ أجل، أجل، فليست الأفراح جزءاً من المخطط الأصلي للوجود، يا صديقتي.
عندما انحرف من شارع فؤاد إلى الزقاق، الضيق، المظَلل بالبنايات القديمة سميكة الحيطان، والأشجار القليلة شحيحة الخُضرة، قاصداً بيت الشاعر المبني على الطراز الإيطالي لأواخر القرن التاسع عشر، لمح المقهى الشعبي الصغير، الذي يفترش الرصيف، ويستظل بشجرة تين بنغالي فارهة. اتخذ لنفسه طاولة قصية، وأشار للنادل الشاب، الذي علت أسارير وجهه علامات الضجر من الحر والرطوبة وخيبة التوقعات وانحلال الآمال، طالباً فنجان قهوة زيادة. رفع رأسه باتجاه شرفة بيت “كفافيس” المطَوَقة بأسياخ الحديد و”الكريتال” المشغول بمهارة وصنعة. كانت الشرفة تستند إلى عمود ضخم على الطراز “الأيوني” استراحت فوقه أنثى الحمام التي ابتنت لها، ولصغارها، عُشاً مريحاً من القش، يحميه، من الأعلى، إفريز حجري عريض مزخرف بكائنات النبات والأشكال الهندسية. ضبط نفسه متأملاً في العناء المتصل الذي تكابده تلك الحمامة الأم في الرقاد على بيضها، ثم في احتضان فقسها، ثم في تغذية وحماية وتعليم صغارها الطيران، ثم في تكرار هذه الدورة كلها، مرة ومرة ومرات، حتى النهاية!
– هو الحب؛ تلك المسرة الصغيرة الغامضة، تلك اللذة السحرية، فائقة النعومة، التي لا يجدها المرء إلا في أحضان المحبوب، أو في امتداد الذُرية.
همس الشاعر الشيخ، وهو يغمز، بطرف عينه، غمزة بدت له بذيئة، داعرة، ومغوية.
– تريد أن تفتنني يا شاعر! اعترف.
– كدحٌ، كدحٌ، كدح! بل أريدك أن تتعلم كيف تُحيل، بين الحين والآخر، نعمةَ الشقاء إلى رعونة الدم، وأن تفكر في صفقة أخرى، غير تلك التي تظنها الوحيدة المتاحة: الألم لقاء المعرفة! فلتذهب المعرفة إلى “هاديس” أيها الشاب العجوز، وعوضاً عنها ليكن الدم.
كانت الحافلة السياحية، الفخمة، تُشرف على مساء باريس، الهابط بلطفٍ ونعومة، من أعلى تلة “مونمارتر”. أراح رأسه المكدود إلى مسند المقعد الوثير، قابضاً بيده، لا يزال، على غزليات “جلال الدين” في شيخه “شمس تبريز”.
– أعرف، أعرف، هذا عشقٌ صافٍ، لا عشقٌ صوفي!
أحس بطعم الغرابة، الكاوي، في روحه، وفوق لسانه. لماذا هي معقدة، على ذاك النحو المغوي، سُبل الحب؟! لو أن ثمة صانع قد صمم الروح على تلك الشاكلة، الملتَبَسة، عمداً، فلقد أسرف، يقيناً،إسرافاً شديداً، في النكاية والهزر.
من دون صوت، أحس بها تجلس إلى المقعد الشاغر في الحافلة إلى جواره. أخذت يدها، السمراء الحنطية، ذات الأصابع الطويلة المسحوبة كأصابع عازفي البيانو، تمسح دموعه الساخنة، التي انثالت على وجنتيه، بصمت. شعر بامتنان غامر لها، وتمنى لو أن الزمان يغادر زمانيته ويمضي بعيداً، مخلِفاً إياه، وتلك اللمسة فوق الأرضية، لتلك الأمسية الباريسية الضائعة، وحسب. قال لها بحسرة وغم:
– نسيتُ أن أضع شاهداً رخامياً باسمي على قبري.
– وماذا تُجدي الأسماء والشواهد؟
– تُجدي؛ نذهب نحن، وتبقى هي.
باغتته صورة أبيه على فراش مرضه الطويل. كان قد أبحر، عميقاً، في غيبوبته الأخيرة، لثلاث ليالٍ وثلاثة أيامٍ، قبل أن يقر قراره ويعزم على السفر. عقفت فمها، الصغير الشهي، ذات الابتسامة، المتهكِمة النصف، التي لم يتبق في ذاكرته منه سواها، وصدح الصوت:
– لعله لا يبقى إلا صبَارة عجوز، تُسقَى من حنفية البلدية العمومية المنتصبة على رأس زقاق المقبرة.