عبد القادر كعبان
تعتبر الشخصية من أهم العناصر السردية في أي عمل أدبي سواء كان رواية أو قصة أو مسرحية، فهي بمثابة النقطة الأساسية التي يرتكز عليها العمل السردي، فلا يمكننا تصور قصة بلا أحداث، ولا وجود لهذه الأحداث بدون شخصيات سواء أكانت رئيسية أم ثانوية.
كلنا يعلم أن أي كاتب سواء كان عالميا أم عربيا يهتم اهتماما كبيرا برسم شخصياته فيتعايش معها المتلقي ويبحر في العمل القصصي ككل، وهذا ما نجده في الشخصيات الحكائية عند المبدع الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز والمبدع المصري طارق إمام. كل منهما يصطفي شخصياته كي تمثل ما أراد تصويره أو ما أراد التعبير عنه من أحاسيس وأفكار.
من يقرأ الأدب القصصي المصري بشكل خاص سيجد جملة مبدعيه تنفرد بخصائص فنية في عملها السردي، كاستعمال اللغة المناسبة للشخوص أو التنويع في الأسلوب مثلا، ومن هؤلاء القاصين الشباب تجذبنا قصص طارق إمام الذي يجعل شخصياته حمالة أوجه في عمله القصصي بين الواقع والخيال ليذكرنا بقصص غارسيا ماركيز إجمالا.
نعلم جميعا أن لكل قاص طريقته في تقديم شخوصه القصصية إلى المتلقي، فهناك من يقدمها بصورة واضحة، وبأدق التفاصيل الصغيرة والكبيرة كما نلمس ذلك في أسلوب غارسيا ماركيز، على خلاف طارق إمام فنجدها تارة تقف أمام مرآة الوضوح وتارة تلبس جلباب الغموض ليفسح المجال للقارئ في فهمها، ونرجع هذا الاختلاف لسبب رئيسي: اختلاف المرجعيات الثقافية للأديبين ماركيز وإمام.
الطريقة التقريرية أم التي يسميها أهل الاختصاص بالطريقة المباشرة تبرز في قصص ماركيز ونذكر هنا على سبيل المثال قصة “طائرة الحسناء النائمة”، أين يستوقفنا للوهلة الأولى الوصف الدقيق لبطلتها وهي امرأة جميلة يعجب بها البطل من النظرة الأولى في المطار: (كانت حسناء، مرنة، ذات بشرة ناعمة بلون الخبز، والعينان حبتا لوز أخضر، شعرها ناعم وأسود وطويل على الظهر، وهالة عراقة، يمكن أن تكون أندونيسية أو من الأنديز. وكانت تلبس بذوق مرهف: سترة كتان أبيض اللون، وبلوزة حرير طبيعي مزركشة برسوم أزهار فاتحة جدا، وبنطال كتان خام، وحذاء مستو له لون أزهار البوغامبليا.) ص 26.
استطاع سارد “طائرة الحسناء النائمة” تقديم الشخصية، بكل أوصافها وأفعالها حتى أن القارئ نفسه لن يجد نوعا من العناء لفهم أحوالها: (لقد استقرت في مكانها وكأنها ستعيش فيه سنوات طويلة. كانت تضع كل شيء في مكانه بنظام، إلى أن صار المكان مرتبا كالبيت المثالي، حيث كل شيء في متناول اليد. وفيما هي تفعل ذلك، جاءنا الضابط المسئول عن الركاب بكأس شمبانيا للترحيب. تناولت كأسا لأقدمه إليها، لكنني ندمت فورا. فقط كانت تريد كأس ماء فقط.) ص 27.
طريقة طارق إمام مختلفة تمام فنجدها تارة تقريرية وتارة تصويرية أي غير مباشرة، لتترك أمامنا كقراء المجال لاستخلاص النتيجة والتعليق على كل خاصية تتعلق بشخصياته كما هو المثال في قصة “حكاية زوجة الصائغ التي تكره الذهب”، فالعنوان بعينه مستفز ويحمل لغزا، فكيف لامرأة أن تكره الذهب الذي تعشقه النساء؟، ومن خلال القراءة سنكتشف ذلك السر الغامض لحب زوج البطلة ارتداء الذهب على خلاف زوجته التي تكرهه: (حين اشتد خصامهما، صار كل منهما يعاقب الآخر بطريقته: هو يلبسها الذهب أثناء نومها، وهي –بالمقابل- تجرده من ذهبه أثناء نومه. إلى أن جاءت ليلة، وقفا فيها وجها لوجه، هو متبوعا بكلبه وهي بين جيش طيورها.) ص 93.
من يتتبع السارد في “حكاية زوجة الصائغ التي تكره الذهب” سيفهم تكنيك إمام الذي استخدمه لأجل أن يجعله قرائه مشاركين له في تتبع تلك التحولات من البداية إلى النهاية لإدراك نوعية تلك الشخصيات وتصنيفها: (الآن، أمام ذلك البيت القديم الذي لم يقطنه أحد، كلب لا يكف عن النباح بصوت أنثوي بينما تتمزق أحشاؤه.. وطيور تتقيأ وجبة الذهب الثقيلة.. تصرخ بصوت رجل.) ص 93.
أما عن الطريقة المباشرة في سرد طارق إمام تستوقفنا شخصيته الحكائية في “حكاية امرأة ديسمبر”، تلك المرأة التي تجوب شوارع المدينة في موسم الشتاء لتخلص شوارع سكانها من بقايا العام وكأنها مجنونة: (لا أحد كان بوسعه مقاومة المرأة التي صارت تنتظرها مدينة الحوائط من العام للعام، كعلامة مميزة منحها القدر لها.) ص 98.
تعد الشخصيات القصصية من صنع خيال الكاتب، يبتكرها من أجل أداء دور معين أو إيصال رسالة إلى المتلقي حتى يتخيلها وهو يقرأ القصة كأنها شخصية مركبة من دم ولحم. هذا يدفعنا لنقول أن الشخصيات الحكائية عند غارسيا ماركيز وطارق إمام خلقت استنادا لشخصيات من الواقع، بمعنى أن الشخصية الحكائية تمثيل لشخصية حقيقية كما نقرأ ذلك في عدة نماذج قصصية لكلا الأديبين، ففي قصة ماركيز الموسومة “بائعة الأحلام” نقف أمام بطلتها التي وجدت جثة هامدة في تلك السيارة التي ارتطمت بواجهة فندق ريفيرا هافانا بعدما ضربته الأمواج، والتي رفعت تلك السيارات التي كانت تسير على جادة الكورنيش. خاتم الأفعى الذي كانت تلبسه في سبابتها اليمنى كان وراء سر حيرة البطل الذي كان يشك أنه يعرف جيدا تلك المرأة التي ماتت في تلك الحادثة، لكنه لم يستطع تذكر اسمها الحقيقي: (ولكن لا، لم تكن نمساوية. فقد ولدت في كولومبيا، وسافرت إلى النمسا في فترة ما بين الحربين حين كانت ما تزال طفلة تقريبا، كي تدرس الموسيقى والغناء. وكان عمرها يوم عرفتها نحو ثلاثين سنة من الحياة السيئة، فهي لم تكن جميلة في يوم من الأيام، وقد بدأت تشيخ قبل أوانها. ولكنها كانت بالمقابل كائنا إنسانيا أخاذا. وأحد أكثر الكائنات رهبة أيضا.) ص 29.
بالنسبة لطارق إمام فقد استطاع أن يقدم لنا هو الآخر شخصيات حكائية من رحم الواقع، كما نقرأ ذلك في قصته التي تحمل عنوان “حكاية المرأة التي تغني” لنجد أنفسنا أمام بطلتها التي يراها الجميع قبيحة على خلاف صوتها الجميل، ولا تجد لها سوى الغناء ملاذا للهروب من وحدتها. كانت بغنائها الجميل تحاول أن تثبت لكل من أدار لها ظهره أنها قوية بصوتها لا بجمال شكلها وسحر أنوثتها. استطاعت حنجرتها الدافئة أن تعيد لها كبريائها وكرامتها المفقودة مع كل أغنية جديدة تطلقها على آذان كل من يعرفها من أهل المدينة، وبدأت من تلك اللحظة تعرف المعجزة طريقا إلى وجهها الذي بدأ يفقد قبحه شيئا فشيئا: (لم يكن اندياح صوتها يتوقف، فحتى أثناء نومها كانت الأغنيات تنطلق بحرية، مدفوعة بقوة ذاتية، من حنجرتها المستيقظة على الدوام لتتجول بين جدران المدينة التي دوخها النغم.) ص 74.
في الختام، يمكننا القول أن الشخصية الحكائية أكسبت قصص غارسيا ماركيز وطارق إمام أهمية أكبر فغدت فنا له طابعه السحري الخاص على غيره عادته، فجعلتنا كقراء نقف أمام شخصيات مقنعة وكأنها وليدة الواقع لا تخلو من الإقناع لأنها جاءت متطورة الأبعاد، وتلك الأبعاد تتمثل في الدوافع والحوافز التي تدفعها للقيام بعمل ما يختصر تلك الحكايات.
……………………..
المصدر
(1) طارق إمام: قصص مدينة الحوائط اللانهائية ، الدار المصرية اللبنانية،2018.
(2) غابرييل غارسيا ماركيز: اثنتا عشرة قصة مهاجرة، دار أمريكا الجنوبية، بوينوس آيرس، 1992 (باللغة الاسبانية).
….
* كاتب وناقد جزائري