السَّكينة

عبد الرحيم حدا
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحيم حدا

أمام المشنقة، قام بعملية حسابية بسيطة، متوسط عمري الآتي هو عشرون عاما، أربعون عاما مرت، لم أكن كما أريد، لم أصر كاتبا، ولا هائما في عشق امرأة، ماذا عساي أن أكون إذن؟ هذا الحبل المتدلي أمامي، يلخص حبل حياتي الذي لف عنقي، أما القادم من السنين فليس إلا المزيد من الألم، لِمَ لا أخلع ضرس الحياة هذه وأرتاح؟

تذكر فيلم عمر المختار الذي أبكاه، وهو يُشنق بحبل مفتول، وتلك النظرة التي خلدها أنطونيو كوين، وهو يحملق في الأفق، كان لأنطونيو- عمر أفقا، أما أنا فقد تركت كل الأفق في بدايتي.

شد الحبل وحاول أن يلفه دوائر كما هو حبل المشنقة الإيطالي،

ليست هذه هي المرأة التي يريد، بل ليس هو نفسه الكاتب الذي كان يحلم به. كل شيء صار وهما، خديعة، مصيدة، هل هذا أنتَ؟ تحمل كيس دقيق وسلة الغذاء كل يوم وتمضي كالبهيمة؟ – عفوا البهيمة لا تقوم بهذا أبدا- من أنتَ؟ هنا شد الحبل بقوة غاضبا، من هذه الحقيقة الناصعة. سطعت أمامه بعض الوجوه التي ستحزن لفراقه، أبناؤه، صديقه الوحيد، وقارئه الفريد، لكنه طرد هذه  الصور من ذهنه، مجرد عوائق تحول دون الفناء. لم يغير أي شيء في هذا العالم، على الأقل يغير نفسه بالانسحاب النهائي، من هذا العالم، يغير هذه الأوهام التي تحول دونه والمشنقة.

احمرت عيناه من فرط جبنه أمام كل شيء، أمام موهبته، عمله، وحتى أمام موته البسيط، الموت يعني للآخرين الأحياء، أما هو ففي لحظة ينتهي كل شيء، رقم جديد في السجلات توفي يومه في الشهر سنة كذا، أوهام العمر والزمن، الذي ليست إلا حركات متكررة للأرض بلا هدف.

الآن تحطمت كل مقاصده، وضع رجله اليمنى على الكرسي ووضع رأسه في شريط الحبل، تذكر قصيدته التي تحث على الأمل وسخر منها ومن كاتبها ومن كل مُصَدِّقيها.

“وهم افتريتُه، واقترفتُه، لا أريد أوهاما أخرى.”

 شد الشريط جيدا على رقبته، تمنى لوكان عنقه  أكثر هشاشة من قصبة تبن. هذا الدم المتدفق إلى الحنين سينقطع إلى الأبد وينتهي كل شيء، سينتهى كل شيء حين ينحبس الدم عن الدماغ. لا ذكريات تتمختر، ولا حنين يتمدد كخيط دخان، لا أمل يعاود الظهور كل صبح، كل شيء سيصير داكنا كالدم المحبوس في الجمجمة. هذه الأوهام كلها ستنتهي، الحيوان المنوي بلا أمل جاء وباليأس يعود أدراجه.

بدأت عيناه تدمعان وتجحظان، لازالت النخلتان ناصعتان في ذاكرته، أخذ حجرة بجانب بقايا براز مجهول، وأرسلها بقوة لعرش التمر فتهاوى الرطب، على أرض المقبرة، لن يحرس نخل المقابر أي مالك، ربما ملاك الموت أرحم الملّاكين، أخذ تمرة كانت حلاوتها مختلطة بملوحة الأرض، لكنها ذابت بسرعة في فمه، وبدأ يزدرد واحدة تلو الأخرى، لا حاجة لغسل التمر الذي سقط توا من حضن نخلته. أما تمر الأسواق فجدير به أن يُغسل ألف مرة.

كم هو وديع الإنسان في صمت الموت! والأقرباء يتباكون وينوحون حوله، هو محايد تماما، لو كان ذلك يعني له شيئا لاستيقظ ووبخهم على هذا النشاز في هدأة السكينة.

جارتي العجوز الإسبانية، التي كانت ممددة أمامي في سكينتها، كانت تبتسم، وتقول قبل موتها سأشتاق لرؤية الناس من النافذة، أما أهلها فقد تهافتوا لتوزيع غنيمتها بعد بكائهم المر. والقس شرب في قداسه دم عيسى حتى سكر.

لم تعد هنا، وحتى كلماتها قد مرت، ولن تشتاق لشيء بعد موتها أبدا. أما أنا فلا زلت أتذكر كلامها وضحكتها ورؤيتها لي من النافذة، ربما أنا الذي أشتاق أن تكلمني من النافذة لتقول لي : “سأشتاق لرؤية الناس من النافذة”.

 

 

 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب