السيرذاتية و تنوع الضمائر في الخوف يأكل الروح

السيرذاتية و تنوع الضمائر في الخوف يأكل الروح
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

إن  السيرذاتية أو استخدام الشكل السيري في السرد ، صار سمة من سمات الكتابة الجديدة ، كما أسلفنا عند الحديث عن " قميص وردي فارغ " لنورا أمين  فكثير من الكتاب حاولوا التجريب وإزاحة  الحدود بين الأنواع الأدبية، وإنتاج نص لا يمكن تصنيفه ، وقد أشرنا من قبل كيف سربت السيرة الذاتية رهانتها في الكتابة السردية لتنتج لنا نصا سرديا يمكن أن نطلق عليه سيرذاتية أو الشكل السيرذاتي في السرد .

وقد حاول مصطفي ذكري في روايته : ” الخوف يأكل الروح ” التي صدرت عام 1998 عن دار شرقيات أن يفيد من الشكل السيرذاتي وأن يُسرِّب للقارئ معلومات عن المؤلف ليُوهم القارئ بأنه سيرة ذاتية ، كما حاول أن يقيم تماهيا بين المؤلف الحقيقي للنص مصطفي ذكري وبين السارد الذي أسماه مصطفي أيضا كما سنرى ونحن نقوم بتحليل جماليات ” الخوف يأكل الروح ” .

إن  ثمة علاقة تماه ٍ بين السارد والمؤلف في نص ” الخوف يأكل الروح ” وهذا التماهي يجعلنا نرى السارد هو صوت المؤلف.

“الخوف يأكل الروح” مقسمة إلي ثلاثة أقسام، في كل قسم يروي السارد حكاية عن شخصية أو شخصياتٍ، لا تحضر في القسمين الآخرين. ولكن ما الذي يجمع تلك الأقسام الثلاثة ؟ ما العلاقة التي أقامها المؤلف ليجمع هذه السرديات في متن واحد ويطلق عليه رواية ؟

هذا ما يخطر ببال القارئ حينما يقرأ السرديات الثلاثة. إن الرابط الوحيد بين الأقسام الثلاثة هو السارد الذي أسماه لنا مصطفى ذكري ( مصطفى ) ، كما جعله مؤلفا لروايات عاطفية  من الدرجة الثانية ـ بحسب تعبيره ـ ، وهذه أولى التسريبات التي يوهم بها القارئ بالسيرذاتية ،فالسارد مصطفي يحضر بقوة في السرديات الثلاثة ، يحلل النص ويعلق على تصرفات الشخصيات ، ويضع لنا فرضيات ويهدمها :

“مصطفي .. مصطفي .. هكذا جاء صوته لجوجًا علي الهاتف” ( ذكري ـ 1998 ـ ص 12 ) .

ولا يكتفي  الكاتب بالتصريح باسم سارده الذي حاول أن يجعله متماهيا مع المؤلف ، بل يجعله كاتبًا للروايات : ” سألتني نانا عن أخبار العمل . كنت أقوم بكتابة روايات عاطفية من الدرجة الثانية ، وهي تلقى رواجًا بين القراء العاديين . قلت إنني بدأت في كتابة رواية ، وأخذت أقص عليها ما كتبته ” ( ذكري ـ 1998 ـ ص 16 ) .

كما ذكر اسم مصطفى ذكري كاملا تماديا في الإيهام بالسيرذاتية، وذلك  في القسم الثاني  علي لسان السارد نفسه في سياق كلامه عن “الرسائل” التي كتبها لصديقة التليفون:  ” تعليق على الخطاب الثاني عشر المفقود، ويضاف في هذا الخطاب لسان آخر إلى ألسنة الباب الخارجي لبيت مصطفي ذكري” ( ذكري ـ 1998 ـ ص42) 

ولا يكتفي بهذه التسريبات التي قصد بها الإيهام بالسيرة الذاتية ، بل في مقطع من مقاطع السردية الثانية يتحدث عن قصصه التي يكتبها ، ويذكر بوضوح  مجموعة مصطفى زكري القصصة ” تدريبات على الجملة الاعتراضية ” : ” ” على سبيل المثال لا الحصر، فأنا قد تحدثت في وقت مضي عن القبح بشكل مجرد، وكانت مناسبة الحديث هي إحدى القصص التي تحمل عـنوان”حديث الصورة” و كانت القصة ضمن كتاب صغـير بعـنوان ” تدريبات علي الجملة الاعتراضية”. كان حـديثي في ” حديث الصورة ” موجهًا بشكل مباشر إلى القارئ…….. لكن ما إن بدأت الكتابة حتي هاجمتني أسباب فنية بحتة ذات طابع تقني صرف” ( ذكري ـ 1998 ـ ص44) 

كذلك أجاد ذكري توظيف تقنية توليد الحكايات ، وهي سمة أفاد فيها الكتاب الجدد من النص التراثي ” ألف ليلة وليلة ” ،فهو يقوم بتوليد الحكايات طوال الوقت ، ينقلنا من الحكاية المتن التي ينتبه لها القارئ ويركز في تفاصيلها وينتظر أن تكتمل، ليضعنا في حكاية هامشية يلتقطها من سياق السرد ، ويستطرد فيها، ويبتعد بالقارئ عن الحكاية المتن التي كان قد بدأها ، وتوليد الحكايات سمة وتقنية تستمر طوال الرواية .

في القسم الأول يسرد لنا قصة ( نانا وجورج )،جورج الفنان التشكيلي الكلاسيكي الذي يشبه زوجته، ويمتلك كلبًا يجمع بينه وبين صاحبه عرج خفيف في الساق اليمني لكليهما. هنا يشرع السارد في سرد أفكاره حول  تزامن العرج في الكلب وصاحبه، ثم يحكي قصة إصابة الكلب بالعاهة علي يد صاحبه: ”  من يرى الكلب وصاحبه في الصباح الباكر حيث يكون الشارع هادئاً – يفكر ويقول كيف تزامن العرج في الكلب وصاحبه؟ أليس الصواب أن الحب الشديد بينهما هو الذي جعل العاهة تفاحة غضة يقتسمها حبيبان. فقد تكون العاهة في ساق جورج من أثر حادث قديم، ولأن جورج يحب كلبه الدوبرمان كثيراً، فقد أقدم على فعل أحزنه كثيراً، وهو أنه صنع بنفسه عاهة كلبه الحبيب في ساقه اليمنى” ( ذكري ـ 1998 ـ ص 10 ) .

وأثناء ذهابه لنانا وجورج إثر استدعاء عاجل ، وهو يصعد سلم البيت يقابله فأر سمين قبيح المنظر ، يترك القارئ متلهفًا لمعرفة ما حدث للصديقين الملهوفين على زيارته ، والذي قدم إليهما من حلوان لجاردن سيتي بسرعة ، يترك كل ذلك ويستغرق صفحة ونصف يصف لنا شكل الفأر الذي قابله على سلم جورج.

 ويفعل ذات الشيء في القسم الثاني فيستغرق أربعة صفحات كاملة، ليصف لنا سعدية الكائن الخرافي البرتقالي الأزرق مثل برتقالة، رغم أن قصة سعدية لم تكن هي الحكاية الرئيسية التي سعى السارد لكتابتها، ولكنه شغف الكاتب بتوليد الحكايات : ”  وجدت فأرًا سمينًا بليدًا منتخفا بصورة مرعبة،يحاول هبوط الدرجات من منتصفها.كان حريا به أن يهبط الدرجات عند أقصي جوانبها لأنه يعترض طريقي.نعم كان كبير الحجم لكن هـذا ليس سلوك فأر. كان لونه يضرب إلي الرمادي القاتم المشوب بلون ترابي أغـبر وكالح. وكانت حركته بطيئة جدًا، بل كانت حركة بائسة كريهة. كانت درجات السلم عالية علي وزنه الثقيل، لذا كان عند كل درجة يتوقف قليلا، ويحاذر الهبوط الذي يأتي في النهاية ارتطامًا ووقوعًا علي فمه.حركته تفتقر بشكل مريع معني الرشاقة” (ذكري ـ 1998 ـ ص 13 ).

يوظف الكاتب فكرة تنوع الضمائر واختلافها عبر السرد ،لدرجة أنه قد يستخدم ضميرين مختلفين ، الأول الراوي العليم الذي يعرف ويحلل ، وفي ذات المقطع ينتقل إلى ضمير المتكلم أو صوت السارد : ”

” كـثرت نساء الرجل القبيح بعـدد لا نهائي ومع الكثرة أتقـن الرجل تفاصيـل دقيقة عن المرأة القبيحـة التي قطـع علاقته بها إلى الأبد منـذ أن قالت له أنت رجل. تلك الشجاعة التي جعلته مثـل دون جـوان. إنه كلبٌ وفيٌّ، حمل في عقـله وقلبه فضل المرأة القبيحة التي دفعتـه إلي عالم النساء. قالت إن لك يـدًا غليظة ثقيلة حين مسكتُ يدها، لم أقصد أن أكون ثقيلا غليظا وأنا أمسك معصمها” ( ذكري ـ 1998 ـ ص43(

ثم نأتي للمبحث الثاني وهو كيف قدم لنا مصطفى ذكري صورة المثقف في ” الخوف يأكل الروح “، يقدم لنا  الكاتب نموذجين للمثقف في هذه الرواية ، النموذج الأول هو السارد ذاته الذي يحاكي صورة المؤلف الحقيقية  عن طريق اللعب بتقنية السيرذاتية ، وهذا السارد هو كاتب للروايات ، لديه براعة في تحليل الظواهر والأشياء ، مثقف وملم بجوانب المعرفة في الفن والأدب والفلسفة ، لكنه مثقف منكفئ على الذات ، معني بالتفاصيل الصغيرة ، والجدل العقلي الذي يصل لحد السفسطة في الكلام ، فهو مثقف غير عابئ بشئ إلا باستعراض المهارات العقلية وإنتاج الدلالات المنطقية بين أشياء لا تبدو مهمة ، هذه التفاصيل تكشف عن وجود ذات سارد منغمسة في وجودها الفردي وزمنها الخاص، ذات تهتم بالأشياء الهامشية والصغيرة، ومقابل ذلك لم تعد فيه الجماعة ولا قضايا الوطن الكبرى السياسية والاجتماعية والتاريخية محط اهتمامها، ومن ثم تصبح طريقة التوليد والحرص علي التفاصيل طريقة  تفكير، و رؤية للعالم:

” ثمة أشياء  تقبل المرح وأشياء أخرى لا تقبله ، الأشياء التي تقبل المرح تقال عادة للتضليل عن أشياء أخرى لا تقبله ،قد تكون الأشياء القابلة للمرح هي نفسها الأشياء غير القابلة له ، لكنها عندما تقال بشكل مجرد غير محدد ـ تصبح مراوغة عائمة والحاصل في النهاية أن الذي يسمعها أو يعرفها لا يستطيع أخذها على من قالها بشكل يخرج عن طبيعة قولها ،فأنا على سبيل المثال لا الحصر ،فأنا قد تحدثت في وقت مضى عن القبح بشكل مجرد ، وكانت مناسبة الحديث هي إحدى القصص التي تحمل عنوان ” حديث الصورة “.( ذكري ـ 1998 ـ ص 44 ) .

 نرى هنا أن السارد أو الصوت الآخر للمؤلف  الذي هو بالضرورة مثقف ، نراه مغرمًا بكل هذه التفاصيل والاستنتاجات التي قد نراها تافهة وغير مفيدة ، وهذا يحيلنا إلى رأي ميلان كونديرا عن سلطة  التفاهة في كتابه النقدي ” الستارة ” الذي يرى أنه ” في المسرح لا يمكن لفعل عظيم أن يولد إلا من فعل عظيم آخر. وحدها الرواية أفلحت في اكتشاف سلطة التفاهة الفسيحة الغامضة ” ( كونديرا ـ 2006 ـ ص 20 ) .

إن  مثقف مصطفى ذكري  مهموم بالقارئ الافتراضي ، مهموم بمناقشته في فرضيات تزيده تمسكا بتفاصيل لها سلطة التفاهة بحسب ميلان كونديرا كما أوضحنا سابقا: ” تتوقف الإجابة على نوع العلاقة من حيث ؛هل هي علاقة حقيقية بها درجة من درجات المعقولية ،معقولية لا تثير في عقل القارئ الدهشة بقدر ما تثير الحقيقة المأمولة التي كان يمكن له أن يقولها أو يدركها ، لكنه زهد فيها لعدم مخالطتها الدهشة ، وكأن الدهشة تتولد عن الشئ الحقيقي أقل درجة من إثارة الشئ غير الحقيقي ،أم هي علاقة استعارية أدبية تقوم على  وجه الشبه بين المشبه والمشبه به ، هذا التشبيه يُثير ويُدهش عقل القارئ مع العلم أن هذا القارئ الذي ينتفض غيظا من الأديب الذي اقتنص التشبيه قبله ـ لم يفكر يوما قبل قراءة وجه الشبه بين البحر والصحراء ….. ” ( ذكري ـ 1998 ـ ص 56 ) .    

الصورة الثانية التي قدمها للمثقف ، هي صورة الفنان التشكيلي جورج الذي بدأ به القسم الأول ، وإن حاول إيهام القارئ أن جورج هو نانا أو أن نانا قتلت جورج وتتمثله ، وتتماهى في صورته ، إلا أنه يهمنا في النهاية أن نعرف كيف رسم صورة الفنان لديه ، والفنان تَجلِّي من تجليات المثقف .

مثقف ذكري ، الفنان التشكيلي مثقف مهووس ، مصاب بخلل نفسي ، يشغل نفسه بكيفية التماهي مع كلبه وزوجته حتى في الإصابة بالعرج ، يتمثل الفن والسينما ويؤثر فيه ، يؤثر في رؤيته للأشياء. حاول جورج  أن يصيب كلبه توني بالعرج والعجز ،ولعب لعبة تسببت في فصل طبيب بيطري من مهنته :”  وكان البيطري الأول على شيء من الثقافة، فكتب تعليقاً، وبعثه إلى الصحيفة اليسارية. وكان مفاد التعليق أن هناك مخرجاً اسمه كلود ليلوش. هذا المخرج أخرج فيلماً قديماً بعنوان رجل وامرأة. وهنالك مشهد مشهور في الفيلم لجسر خشبي يضرب في البحر إلى حين، وعلى هذا الجسر نرى من بعيد كلباً وصاحبه وهما يظلعان في مشيتهما، ويغمزان نفس الغمزة، ويتقدمان على الجسر إلى نهايته المفتوحة على البحر، ولا نعلم بغيتهما. بعد هذا الاستشهاد، قص البيطري الأول قصة الجبيرة، واتهم جورج بالوحشية والجنون، وعدوى الواقع بالفن، ليبرئ ساحة زميله، لكن مع الأسف أخذ التعليق مأخذ الطرافة، ولم يتحرك أحد” ( ذكري ـ 1998 ـ ص 10 ) .

فنان مصطفى ذكري مشغول بالتعامل مع الأدبيات العالمية ، لكن في محاكاة ساخرة لها ، مشغول بسرفانتس وشخصيته الشهيرة دون كيخوتة ، في محاكاة ساخرة يحاول أن يرسم لوحة لدون كيخوتة ، يتناص بالعكس مع النص الأدبي ، يفكر أن يغير من أحداث الرواية حتى تأتي لوحته مميزة ، هذا الفنان صورة مثالية للمثقف الذي يتخلَّى عن أدواره وقضاياه وينغمس في الهم الفردي ، بحجة أنه يعيش الفن للفن : ” كانت حيرة جورج أمام رواية دون كيخوتة شديدة. إنه يريد أن يستلهم اللوحة من مغامرات دون ظلالها العديدة على الجدران، وتتجول في أنحاء البيت الكبير المكون من طابقين يتصلان بسلم خشبي عريق يزئ تحت خطوات الزوجين الحائرة. كانت الفكرة الشريرة التي داعبت رأس نانا هي، لماذا لا ينال جورج من دون كيخوتة بطريقة تقليدية. سأل جورج كيف؟ فقالت له لماذا لا تقوم بتصوير مشهد تعميد دون كيخوتة فارساً نبيلاً. صرخ جورج، وقال إنه مشهد قاس جداً، ولم يفكر أحد من قبل في معالجته، إنه إهانة دون كيخوتة الكبرى التي يصمت الجميع أمامها، فقالت له، وهذا هو السبب الوجيه المحفز على تصوير هذا المشهد الرائع. دون كيخوتة فارس الخيبات والآمال يعمّد في ساحة الكنيسة بالضرب على قفاه مرات متتالية – لعطل ما أصاب جرن المعمودية، ومن الذي يقوم بتعميده؟ إنه القس اللئيم الساخر من سذاجته” ( زكري ـ 1998 ـ ص 11 )

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جزء من كتاب صورة المثقف في الرواية الجديدة

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم