محمد فرحات
إلا أن الشيخ هتف《كن…وكن …》 فإذا بالباب يطرق طرقات متسارعة متقاربة …《افتح يا بكرى…》 …
فإذا هما الشيخ محمود أبو جمالة صاحب مقرأة البلدة، ومحفظ صبيانها، والشيخ محمد بسيوني خادم ضريح ومسجد سيدي حمزة، وإذا بهما يسارعان في مصافحة الشيخ البنداري، وتقبيل يده، والشيخ ينادي كُلًّا باسمه، لم يعد العجب ومشتقاته من مفردات تَرِدُّ بخاطر البكري، فقد شهد في داره الليلة الْكَثِيرَ جِدًّا، لم يعد غير التسليم يحيط به من كل جوانب فؤاده.
كان وَرَدُ كُلٍ من الإخوة مُخْتَلِفًا عن الآخر، وكأن الشَّيْخَ كان يُلَقَّنُ مَنْ غَيَّبٍ ما، فأما البكري العمدة حلمي فكان ورده الصلاة على خير البرية وآله، أما العيساوي فكان ورده التسبيح، والتهليل، ولزوم الخلوة لحين، والسيد أصبح شغله وورده العلم، وطلبه حتى بلوغ ذروته، وعن أبي جمالة فكان ورده القرآن ولا ورد له غيره، ولم يتعد ورد الشيخ محمد بسيوني غير التفاني في خدمة ضريح سيدي حمزة، ومسجده هناك في أقصى شرق البلدة حيث حوض سيدي حمزة.
خرجوا جميعا لصلاة الفجر الذي أوشك أن يُسْفِر، كانت وجهتهم الجامع الكبير بغرب البلد، فتجمعت طُيُورٌ خُضْر لَم يرها النَّاسُ من قبل على أفرع الأشجار المحيطة بالجامع، التبست رؤيتها بخضرة الحقول الممتدة على مدى البصر، لتغزو أَفْوَاجٌ من طيور أبي قردان هذا الخضار الممتد بأجنحتها البيضاء الزاهية، متوافدة بأعداد لا تكاد تحصيها العيون مجتمعة، لتقف أعلى المئذنة، وتسيل كالزبد الأبيض أمْوَاجًا متلاحقة على سطح الجامع. وغيامات بنية تأتي من الشرق، تَسَابَقُ شُرُوقَ النَّجْمِ المُلتهبِ حَرَارَةً، ليهب دفئه مُصَالِحًا النسائم المنكمشة من برودة لَيْلٍ شَتَوِيٍ صِرِّ، تبين بعد قليل فحص أنها يماماتٌ تسارع حتى لا تفوتها تكبيرة إحرام الصبح، توقظ الجميع هاتفةً 《وحدوا ربكم…》، ليستيقظ كل نائم ونائمة يتسابقون وكأنهم على موعد…لتصافحَ الثعابينُ مَخَالِبَ الصَّقُورِ، وترافقُ الْفِئْرَانُ القططَ ، وَالذِّئَابُ الْغَنَمَ ، والداجنُ الثَّعَالِبَ، يَلْهَجُ الْجَمِيعُ بِذِكْرٍ حميميٍ خَاصٍ، تَوَحُّدِهَا أَنْفَاسُ الْوَجْدِ وَالشَّوْقِ .
لتقام الصلاة ويؤم البنداري الجموع من البشر، وطيور خضر، وأبي قردان، ويمام، وثعابين وصقور، وفئران وقطط، وذئاب وأغنام، ودواجن وثعالب، كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ. وسُمِّي هذا اليوم بيوم الفتح البنداري، إلا أن الشمس قد أبت الغروب، واستمر هذا اليوم شهر ونيف، لا تغرب عنه الشمس، ولا تأفل الأنوار. فاحتار الناس هل يسمونه يَوْمًا أَمْ شَهْرًا؛ فقال الشيخ《 هو يَوْمٌ بِشَهْرٍ، وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ.》 .
***
وجدت نفسي مَدْفُوعًا، لا حيلة لي، لا استطيع مَنْعًا يحول دون تَدَاخُلٍ في الأحداث مع فهمي التام الذي يشبه الحدس، أنني مجرد ضيف غير مصرح له بالحديث، أو التعليق على ما يجري أمام نواظري. فمنذ دخولي عالم الأسوار العالية، فقدت قدرتي على الكلام، إلا أن الشيخ محمود البنداري، هذا الولي الطارئ على تلك القرية البعيدة المنسية، والتي تحولت لمسرح أحداث غريبة منذ ولوجها بقدميه، قد رحم غربتي، فنظر إلى مُبْتَسِمًا رَحِيمًا، وأخرج من جيب جبته كِتَابًا قَدِيمًا، أصفر الورقات، عنوانه المنظومة البندارية، وإذا بسيدي محمد البسيوني يأخذني من يدي، ويجلسني تحت جميزة عتيقة، تحتضن فروعها العملاقة قبة ضريح سيدي حمزة كأنها يد زائر تتبرك بلمس ضريح مبارك، فتحت المنظومة وشرعت في القراءة .
كانت البداية سيدي أحمد البدوي القطب العظيم، والوتد الشهير بين رفاقه الأقطاب الثلاثة، جاء بوصية من سيدي أبي عبد الله الحسين لمصر، حيث مكث على بابه شُهُورًا قبل أن يدخل الروضة المباركة، شُيِّدَ عَمُودٌ شَهِيرٌ بالمسجد بذات البقعة التي وقف بها سُمِّي عمود البدوي. فانتقل إلى طندتا طنطا حيث أقام أَيَّامًا وشُهُورًا طويلة فوق سطوح جامع على يمين ضريحه وجامعه المشهور الآن بطنطا، وكان يُسَمَّى المسجد الْعُمَرِيّ نسبة للخليفة الثاني الذي وقع دخول العرب في عهده، ولما تجمع حوله القفاصون سُمِّي جَامِعُ البُوصة، ولما مكث فيه وَلِيٌّ يُدْعَيَ البهي، وَدُفِن فيه سمي جامع البهي، وكان للبدوي من التأثير العظيم على مجريات سير الأحداث في مصر، والعالم الإسلامي في تلك الفترة العصيبة، فكان وَسِيطًا مَقْبُولًا بين المصريين وحكامهم، وحلقة وصل بين السماء والأرض.
ولما شاع صيته تجمع حوله رجال كالجبال رسوخًا، كان منهم الشيخ عطية البنداري من أكابر وعظماء الشرقية، وهو جد الشيخ محمود البنداري الأكبر، ومنه نال البركات والمدد، ولُقِبَ تلامذة البدوي الأول بالسطوحيين، فكان عطية السطوحي البنداري من أوائل من أخذ العهد على يد سيده البدوي، حتى أن عطية لقب شيخه البدوي بأبي الفرحات، وهو لقب لا تسمعه إلا في أوساط البندارية الأحمدية حيث قال في منظومته:-
إِلَهيِ تَوَسَّلْنَا إِلَيْكَ بِسَيِّدِي
أَبِي الفَرَحَاتِ القُطْبِ كَعْبَةِ مِصْرِنَا
هُوَ المُرْتَجَى بَابُ المُطَهَّرِ أَحْمَدٍ
مُجِيرُ الأُسَارَى مِنْ مُكَابَدَةِ العَنَا
وكان سيدي عطية نعم المريد ونعم الشيخ، لا تنسى مواكب التاريخ هذه القافلة العظيمة الخارجة من بوابات الشرقية موطن أبعديات وعزب السادة البندارية، محملة بالخير كله، قاصدة طنطا حيث مقر الأستاذ، قدس الله سره، حتى انتقل السيد البدوي إلى جوار ربه، فتعاهد تلامذته الأوائل، بعد توديعه، على اللقاء كل عام بعد موسم حصاد القمح، فكان احتفالهم أول مولد يُقَام بأرض مصر، فلما عظم الشوق تعاهدوا ثانية على لقاء سنوي ثَانٍ على أن يُعْقَد في شهر رجب الفرد فكانت الرجبية.
وهكذا ظل سيدي عطية في تَوَادٍ وَمَحَبَّةٍ لم تنقطع، وتلقي وصحبة مع سيده البدوي لم تنفصم ببرزخية السيد، وفي ليلة زاره البدوي على رأس موكب من الأرواح وقد رفعوا الرايات الحمراء مبشرين سيدي عطية بالقطبانية، فوجد، في صباح تلك الليلة، أَبْيَاتًا قد زيدت في المنظومة أولها :-
بِمَوْئِلِنا البِنْدَارِي خَيْرِ عَطِيَّةٍ
فَنَوَّلْتَهُ مِنْكَ المَكَارِمَ وَالمُنَا
هُوَ المُفْرَدُ الغَوْثُ الذِي مَلَأَ الوَرَى
بِأَسْرَارِهِ مِنْ حَضْرَةِ القُرْبِ وَالفَنَا
وَلِيٌّ أَجَلُّ الأَوْلِيَاءِ مَكَارِمًا
سَقَاهُ إِلَهُ العَرْشِ رَاحًا فَدَنْدَنَا
إلا أن الشيخ عطية القطب البنداري شعر بأن الدنيا ما عادت له بوطن، ولا مستقر، فلم يعد يبارح خلوته إلا للقاء المولد والرجبية الأحمديين…