السيرة البندارية (15)

موقع الكتابة الثقافي art 41
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد فرحات

سهرا طوال الليل على عادتهما في ليلة رؤية الشهر المبارك رمضان، فبعد إعلان الشهر، ترتدي المآذن، والقباب حلتها من الأنوار الملونة الزاهية، وترتد الجمالية، وفي القلب منها حي الحسين، إلى صباها وشبابها الريان، لترتفع الزينات بكل حارة، وتعلو الضحكات والتهاني، ويتقافز الصبيان والبنات بفوانيسهم ذات النوافذ والشموع، تعلو حناجرهم بأصواتهم الغضة، ينشدون أهازيجهم المرحة، وتخرج عربات الفول من مخادعها، ترسم أبخرته ذكرياتها بدفء رفقة المستوقدات القاهرية الساهرة، وتتسابق الدرجات ثلاثية العجلات بصناديقها الحاملة اللبن الزبادي، وحلوى رمضان الشهية من مهلبية، وأرز بلبن محلى بعسل النحل، وتتهادى السيدات والفتيات حاملات أقفاصهن صوب الأفران ملبيات نداء الخبز الشهي الساخن فالليلة أول سحور…

جلسا يشربان القرفة المخلوطة بالزنجبيل والحليب، يتنسمان أنفاس الليلة المباركة،  يرتشف الشيخ رشفة من مشروبه الساخن، ويرجع الكوب مسرعا إلى صفحته، متمتما بتسبيحات، ويلهج من الحين والحين بالصلاة على النبي، وولده محمود الصعيدي لاتفارق ابتسامة الوداعة المرحبة وجهه النحيل الوسيم الطيب، لايمر عابر أو قاصد للقهوة إلا وألقى السلام والتهاني على الشيخ أحمد الصعيدي، ليتزاحم المجاذيب والمنقطعون على الشيخ يجود عليهم بابتساماته، ونفحاته المباركة، وكما كان تزاحمهم بدون مقدمات، كان انصرافهم بدون مبشرات، هذا هو شأنهم معه يقدمون وينصرفون بغتة من غير نذير أو تمهيد…

لينتبه الشيخ لكوبه الذي فقد سخونته، ولما يفرغ إلا من أقل قليله، لينظر الابن إلى وجه أبيه ويضحك…

-ليست المرة الأولى، ولن تفرغ أبدا من كوبك قبل…

يقاطعه الشيخ ضاحكا مداعبا…

-وفي كل مرة يفرغ كوبك قبل كوبي…(ثم يكتسي وجه الشيخ بجديته)

– راضي يامحمود…؟!

-راضي يا أبي…ليس في قلبي غير الرضا، جنة الله في الأرض الرضا، آوى إليها آدم وزوجه حين هبطا، وكادت تفيض نفسيهما ندما وأسفا على ما فرطا، فأخرجهما من جنة وأدخلهما جنة…

***

– أخشى ياولدي أن أكون قد قصرت في حقك…

– وهل يحمل القدر إلا كل الخير، فليس لفعلك فعل، غير أنه،مجازا، ينسب لك…حتى الكسر المتتابع، والمرض في باطنهما الجبر والعافية، هي منح الله يا أبي…أسر لك بسر؟

يتهلل وجه الشيخ سعادة وراحة…

-نعم يا حبيبي…أي سر؟

-في لجج المرض، لم أشعر يوما بألم…وحينما كنت طفلا صغيرا كانوا دائما يأتون لمداعبتي ومؤانستي…

-من؟

-هم! ألا تعرفهم أهل القربى؟، كانوا يقولون” انشغل أبوك بمودتنا، فانشغلنا بك يا صغير الحبيب.”

كفكف دمعة أفلتت سريعا، وانحدرت على وجنته…

-بالله يامحمود؟

-هم أهل الكرم يا أبي.

-نعم، صدقت…

-والرضا يا أبي لايكون بغير المحبة، والمحبة للعدو والمنكر،قبل الصديق والمصدق، المحبة يا أبي هي السر الساري، ومدد الله الجاري، والقلوب أوعية السر، والسر المحبة…وكلما تذكرت أهل البلاء، أحاطوا بي، كل يشكو ويتوجع، ولا ينوء كاهلي  بما أحمل عنهم، ليزداد أنسي أنسا…

-وحينما اكتشفت ما حل بك يا ولدي، كانت مصيبتي بانتقال شيخي، فتكالبت الأحزان، وكلنا يحزن، فالحزن زكاة القلوب…نمت مثقلا، لا أدري كيف أغمض عيني، ولا أدري كيف وجدت تلك الورقة في يدي، هل كانت رؤيا أم يقظة، الله وحده يعلم، فتحتها فإذا قول الله مسطورا 《 سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ …》

وإذا بأمك تسلمني ما ادخرته مما فاض من الرزق وتقول لي” آن أوان الحج فحج…” …

ليقطع حديثهما أحد الأحباب حاملا أطباق الفول والسلاطة والمخلل، وسلطانيتين من الزبادي…

-أخذكما الحديث يامشايخ…السحور وجب…

لتملأ بسمة الوداعة وجه محمود، ويناوله الشيخ رغيفا قد امتلأ دِفْئًا كبسمته… 

***

كان سيدي محمود الصعيدي قد بلغ الشباب متوكأ على الابتلاء رفيقا، كان قد قضى معظم عمره أسير جبائر الجبس، وكلما جبر، كسر، كانت عظامه من نوع نادر، يطلق عليه العظم الزجاجي، هش، رقيق، فكان كلما لعب مع أقرانه الأطفال إبان طفولته، دفعه أحدهم على عادتهم في اللعب،فوقع فكسر، فيحمله سيدي أحمد الصعيدي لأقرب مشفى ليجبر، وبالرغم من تمزق قلب الشيخ شفقة، إلا أنه كان يعده بابا من أبواب رحمة ربه، ومعراجا يعرج به المقامات السامية، ونافذة خلالها يشاهد رحمات ربه.

كان دوما يرافقه لأعتاب آل البيت الطيبة، فعرف وسط الطرق ومشايخها وساليكيها ومجاذيبها، عرف درويشا تنضح السعادة من محياه، وكان رقيقا رقة عظامه، تداعبه النسائم مداعبتها الياسمين في أكمامها، فيفوح الطيب من جنباته، نحيل الجسد، مستقيم الأنف، عريض الجبين، سهل الوجنتين، لاتراه إلا ضاحكا أو مبتسما، كان قرة عين أبيه، بشرى ربه لأبيه، نفحة الأيام الماضية والمقبلة.

وفي نهاية الحضرات مذ استطاع السير، كان الشيخ يكلفه بتوزيع قطع الحلوى على المريدين.

يستيقظ بهدأة السحر، مستغرقا بأوراده، وصلواته، وركعاته، ودعاءه، للقاصي والداني…

وحين لا يفصله عن الفجر غير ساعة يوقظ الأسرة جميعها للذكر والصلاة، ويدخل على أبيه في خلوته يشاركه الذكر حتى آذان الفجر.

وحين بلغ مبلغ الرجال أصر على العمل والكدح، وحين حاول أبوه الشيخ منعه…قال:

-نصيبي من ميراث أبي آدم…

ليقع بالشغف به كل رفاقه العمال وأرباب العمل، كان اليوم الذي ينقطع فيه لسبب أو لآخر يوم حزن وكدر، ولايكاد اليوم ينتهي حتى يتجمع الرفاق جميعا لزيارته، فلم ينقطع وروده المشفى لسبب أو لآخر فكان مع رقة عظامه، كثير الاعتلال والمرض…

***

خرج من عمله وقد أنهكه الصوم بشدة في يوم من أيام رمضان الطويلة القائظة، ليؤذن المغرب بمنتصف الطريق أخيرا، وبين مئات آلاف الخطوات المتعجلة المسرعة نحو غايتها، تحول خطوه نحو محل للمرطبات ليشرب كوبا مثلجا من عصير القصب يروي به غلته، ويستعيد بعذوبته ريه المفتقد من أثر الصوم الطويل، والجهد المبذول طيلة النهار.

وما أن يصل البيت المتحلق حول مائدة الافطار منتظرا قدومه حتى تدهمه موجة حمى شديدة، يفقد على إثرها قواه وطاقته، ولعلم الشيخ بحالته الواهنة، يلقي مسرعا مابيده من طعام، لم يرد الشيخ ضياع ثانية، لتيقنه من مغبة الانتظار، وإهدار الوقت.

أراد السير معه للمشفى، ولكن محمود كان قد فقد كل طاقته، وقدرته على السير، خرج يبحث عن ما ينقله، ولكن الوقت وقت إفطار، ليخيم السكون على كل ما يحيط به…

بحث بنواظره عن سيارة لنقلهما فلم يجد …فندر الشيخ إن مَنَّ الله عليه بما ينقله أن يشتري سيارة، يقودها متجولا بأوقات السكون لإغاثة ملهوف، أو مكروب مثله انقطع به الطريق، واستبدت به الحاجة .

ليشق سكون الطريق أزيز محرك لسيارة تقترب، سيارة مألوفة خيل إليه أنه رآها من قبل، تقف حياله تقودها سيدة مألوفة أيضا، خيل إليه أنه قد رآها من قبل، يعتصر ذاكرته، فيذكرها، إنها السيدة التي أقلته مرته الأولى وقت نزوله القاهرة نحو النفيسة، لتتقدم فتخترق الحجب، والمقام، وتسكن حيث سكنت…

هي..هي..وقبل أن يتكلم أشارت إليه،أن أسرع، …

-فلتأت بمحمود …قد حان الوقت …

وقبل أن يعاون الشيخ، والأخوة أخيهم لحمله نحو السيارة، إذا بمحمود يحدثهم بصوت واهن…

-قد ارهقتكم طيلة حياتي، و اثقلت عليكم سامحوني…

-ليتك تثقل أعواما، ودهورا يامحمود وظهري لك مركبا، وعيني لك مرفأ…

علم الشيخ وعلموا أنها ليست ككل مرة مرت، وتتحرك السيارة تقودها السيدة، بجوارها الشيخ، ليستلق محمود على المقعد الخلفي، يشترك مع الأحياء فقط باختلاج أنفاسه تناضل من أجل بقاء لحين. 

***

تهيمن غلالات الضباب المنسكب على الكون، المتطاير، على المدى البعيد، يحجب بسطوته كل ما هو  كائن يدب برجليه على الأرض، أو يمتد بجذوره لأعماقها البعيدة، ينحدر حبات من لؤلؤ عذب، يغسل أوراق الشجر، أو يتجمد على واهي النبات وضعيفه، لتستنجد بأمها الشمس، لتصرع شعاعها الأول جحافله المغترة بلانهائيتها فيصرخ شَهِيدًا مُدرجًا في أنواره السائلة سناء وسناء، ترسل الشمس شُعَاعًا وأخر وثالث، على صهوة جياد ذهبية مجنحة، ليفر الضباب مُنحسرًا عن الكون ليضيء بنور ربه، فيمنح الدفء والحياة، لتنفض الأشجار ،متثائبة، ما تراكم عليها من قطرات، ويبتسم النبات المتجمد مُعانقًا ما أرسلته الشمس من ضياء، وتظهر من بعيد شواهد مدينة الموتى المحاطة بأشجار الصبار متفاوت الحجم والنوع، والياسمين، والورد، والفل المتسلق شواهد القبور مُواسيًا، وبجوار قبر يتحرك ،ببطيء، رَأْسٌ مُرْتَدًّا للخلف كرد فعل ليدها المُكَفْكِفة من آن لاخر دمعة عين منحدرة تسابق أخرى، تجلس متشحة بحدادها، هي مذ سكن ابنها محمود الصعيدي برزخه، ولا تنتقل من جواره إلا ساعة الغروب، وتبكر مع أول شعاع شمس، وكان الشيخ أحمد قد ذهب لمزاولة عمله بالقاهرة، ليقدم على أوقات متقاربة شمياطس، حيث وارى ثراها ولده الحبيب، وجدران دورها زوجته الحبيبة أم سليمان، وحزن الرجال يختلف عن حزن النساء ويفترق، فبينما يجثم على قلوب  الأمهات الثكالى لايفارقهن، يغزو قلوب الرجال كتائب إثر الأخرى، ينتصر فيظهر حِينًا فيحني الظهر ويمتزج بدم القلب، وعبرات الجفن، ويُهْزَم تارة فيتوارى كفيروس ماكر بين مشاغل حياة الرجال، وتفاصيلها الكثيرة، ولكنه يعلم أنه عائد لامحالة.

الأم الثكلى تشعر المرة بآلام مختلفة عما اعتادته،  كم وهن جسدها!، وكم ناء كاهلها بأحزان الثكل والفقد!، ومع قلة اعتنائها بصحتها، وندرة ما تطعمه من قوت، يُغْشَى عليها نازفة أمام قبر ولدها، ومع مرور الفلاحات مخترقات ،مدينة الموتى، بجرارهن قاصدة مياه ترعة الباجورية العذبة على تخوم القرية النائية، تصرخ إحداهن لرؤية أم سليمان ملقاة أمام القبر، ينساب النزف مُشْكِلًا جَدْوَلًا صَغِيرًا، تزداد بقعته رُوَيْدًا، رُوَيْدًا…

يُلْقِينَ جراراهن، ويتآزرن حاملات أم سليمان لدارها، ويسرع أحد أعمام الشيخ رَاكِبًا حماره نحو الشهداء، مُسْتَدْعِيًا من أطبائها، والذي يقرر بعد فحص أولي أنها بوادر حمى النفاس إثر إجهاض لحمل في شهوره الأولى،نسيت فيما نسيته علامات الحمل المعتادة، المألوفة لدى النساء، ويقرر ضرورة الإسراع بحملها للمشفى، لخطورة حالها.

وما أن يصل الشيخ أحمد الصعيدي منزله بالقاهرة، لينال قِسْطًا من الراحة بعد صباح من التجوال بسيارته “الرينو” التاكسي الجديد، ،ليعاجله جاره الوحيد الذي يملك هَاتِفًا،  مُخْبِرًا أن عمه قد هاتفه وأخبره بضرورة مجيئه على نحو عاجل القرية، وَلَمَّا يخبره عن السبب، ليحول الشيخ أحمد وجهته ويقود مُسْرِعًا نحو شمياطس.

تدهمه الأخبار الدامية، لاتترك له فسحة زمن للتفكير فيما حدث، وكيفية حدوثه، حامل وقد سقط حملها، وغيبوبة، وحمى نفاس، وفقد جديد، يقولون عن النفساء المحمومة أنها مَقْضِيٌّ عليها لامحالة…

تتسارع المشاهد أمام عينيه الغائمة، لايدري كيف يقود سيارته المسرعة، وكيف تسير الأيام على منوالها الذي لا يمل تسديد الضربة إثر اللكمة إثر الصفعة…

احتلت مشاهد الموت كل مساحات ذاكرته…هذا الصف الطويل من الأحباء الراحلين  الوالد الشاب سليمان، والشيخ الشاب السيد العيساوي، وقرة العين الراحلة في صباها محمود…هل تلحق بهم الرفيقة الحنون الطيبة؟! ..آه ألا تملين يا أيام من تسديد سهامك…؟!! 

ما أن تلوح بناية مشفى الشهداء، حتى تنهمر دموع الشيخ، يسرع من سيارته، مُتخطيًا بوابته الرئيسية حتى يسمع صُرَاخًا يعرف صوت صاحبته جَيِّدًا، إنه صوت ابنته أمل، يلهث عَدُوًّا نحو مصدر الصوت ليقوده نحو عنبر السيدات، تحاول الممرضات جذب أمل بَعِيدًا عن الجسد المسجى…وما أن ترى أمل أبيها حتى تصرخ صرخة استنجاد وشكوى وإعلام بالخبر الذي لا يعوزه إعلام…

 يجتمع للصرخة  كل نزلاء المشفى…ليحتضن الشيخ ابنته، تتوكأ عليه، وبخطو متردد، ويد مرتعشة يكشف الشيخ عن وجه أم سليمان…

لتتسارع الذكريات …خطبتها وزفافه …أين الحشية القطنية يا أحمد؟ ،…ياجدي؟!…استعارها أحد المرضى ياولدي.. تلوح ابتسامة الرضا وجهها الطيب…وقبل أن ينطق زوجها الشاب تنطق العروس الشابة” رضينا…،” القاهرة …أيام الشدة…وحينما يصرعه المرض تقوم هي بتوزيع اللبن …خذ يا أحمد قد ادخرت لك تكاليف الحج …

لينكب الشيخ على جسد زوجته الساكن هذا السكون الذي لا رجعة لحركته…مُقْبِلًا كل جزء يطوله…ينسكب دمعه الغزير على وجهها الضاحك المستبشر المطمئن…ويصرخ الشيخ…

-إلى أين يارفيقة العمر…ياكسرة الظهر بعدك ياحبيبة…يا نهاية الحياة بعدك …

يتزاحم أعمامه، وإخوانه، وأبناءه كل يقوم بما يجب القيام به في تلك الساعات الحزينة…

والشيخ في حال من الوجوم والذهول عن كل ما حوله…وحينما يفرغون من تجهيز الحبيبة والزوجة، والرفيقة، وأم ولده …حينما يظهر جسدها الطاهر الصابر مَلْفُوفًا في أكفانه البيضاء مَحْمُولًا ليستقر  بمركبه الفاغر فاه المنتظر المتأهب…

يشق بكاء الشيخ وصراخه وجوم وصمت الدنيا…لا يدري كيف تطاوعه قدماه على المسير مُودِعًا إياها نحو غايتها الأخيرة، ليتهادى مُسْتَنِدًا على كتفين يكادان يحملانه حملًا…

قال الشيخ لما فرغ من حكايته:-

” ولكل ولي شبه بحال أيام النبي، فيستلم ميراثه تارة مما قاسى من إنكار المقربين، وتارة من شظف العيش وضيقه، وتارة من فقد الأحبة من زوج وولد…”

***

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال