السندباد في زمن كورونا

هشام النخلي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هشام النخلي

    تمشى  السندباد البري وهويتذكر مغامرات السندباد البحري السبعة:  إفلاته من فك وحوش البحار، ومن مخالب الرخ الجارح، وفراره من العملاق ذي العين الواحدة، وعراكه مع قراصنة ذوي ندبات على وجوههم؛ ورقع سوداء على عيونهم المفقوءة؛ بالكاد يقفون على سيقانهم الخشبية؛ يضربون بمخاطف تفرغ البطون من أحشائها.

    دعاه السندباد البحري هذا المساء ليقص عليه رحلة ثامنة، لم يقصصها لأحد قط.

    تذكر أول يوم دخل فيه قصر السندباد البحري، كان  قصرا بديعا مغطى من الخارج باللبلاب المتسلق. استقبله الخادم ذلك اليوم، لابسا أبهى الثياب، وأجودها صنعة.

   ما إن دخل، حتى نظر إلى حديقة مفروشة ببساط أخضر عشبي، مطرز الجوانب بأجمل الأزهار الفواحة، والورود العطرة. تحيط بها أشجار عالية، تغرد فوقها البلابل والعنادل. وفي الأعلى ثلاث مشربيات جميلة. وسط الحديقة نافورة، من رخام أبيض، مياهها دافقة. وبجنباتها طيور طاووس ناطقة.

     سمع بالداخل أنغام موسيقى مطربة. تبع الخادم. كانت الأرضية مبلطة بالرخام السلطاني الأبيض، والسقف مطعم بالخشب المنقوش، ومطلي بالذهب الخالص. فمر من بين الستائر الحريرية الكثيرة ذات الألوان  المزركشة، تأسر العين، وتلين الرمش.

     رأى الجواري كأنهن أقمار، يرفلن في الديباج والقز، يعالجن العود والدف بأناملهن المشعة الرقيقة، يقهقهن بجلجلة، شفاههن كقطع خوخ شهية، توحي بالأكل لا بالقبل. يتكئن على وسائد بهيجة وطنافس مزخرفة، نظراتهن طعنات قاتلة، وابتسامتهن تسلب اللب، حتى ينسى الآدمي من هو.

     كانت إحداهن شقراء، تدعك قدمها المشعة حمرة بحجر خشن.

   وثانية سمراء، ترمي لب البطيخ الأحمر في جوفها.

   وثالثة صينية، تؤرجح مروحة مزركشة حول وجهها.

   ورابعة هندية، تمشط شعرها الحريري الأسود الطويل بهدوء.

  لو رآهن الاسكافي…

 لدق المسمار في يده.

لو رآهن خياط…

 لخاط أصابعه بعضها ببعض.

لو رآهن جزار…

 لبتر أصابع يده.

     رأى السندباد البري  عبيدا سود البشرة، مصلعي الرؤوس، منتفخي العضلات، لديهم أقراط في شحوم آذانهم، يقفون في علياء، جامدين مثل التماثيل. وأساور من ذهب حول أذرعهم  المفتولة، مخصيين منذ المولد، مهمتهم حماية حريم القصر السندبادي.

    في الحقيقة، كانت تلك المغامرات السبعة مليئة بالتشويق والأهوال وحسن الخلاص.

    ما إن وصل السندباد البري إلى  باب القصر حتى قال له الخادم:

ـ لقد استدعى الخليفة سيدي لأمر مهم، لهذا فلقد أوصاني بأن أخبرك بأنه سيستقبلك قبل أذان العشاء بلحظات، إن شاء الله.

فقال له سندباد البري:

ـ إن شاء الله.

     ثم ذهب إلى منزله، وصلى صلاة المغرب، وانتظر حتى قرب وقت صلاة العشاء، ذهب إلى القصر المهيب، فرحب به الخادم، وبعد مسيرة من الستائر، ومشاعل عظيمة تنير الدهاليز، وصل إلى غرفة السندباد، كانت الغرفة تعبق برائحة مزيج من  بخور زكية، من الصندل والند. وكان اثنان من العبيد  يمسكان في كلتا يديهما مروحة كبيرة من ريش النعام من وراء السندباد البحري، يهشان عليه الهواء البارد.

  في الحائط درع فضي، من تحته سيفان ثقيلان. وفي زوايا الغرفة شمعدانات ضخمة. وكان وسط الغرفة فسقية صغيرة، عليها أربع سباع من المرمر تلقي الماء من أفواهها. وفي السقف ثريا عظيمة ذات طبقات، معلقة من الذهب الخالص، تتدلى منها عناقيد من البلور.

    كان السندباد البحري يجلس على فراش وثير، يمتد تحته بساط من صنعة شيراز. كان جميل الصورة، ذووجه مليح، وقد رجيح. جبينه أزهر، وخده أحمر، وشعره أسود مسترسل على كتفيه.

     نادى المنادي لصلاة العشاء، فسقط الخشوع على قلب سندباد البحري، تحدث إشارة إلى ضيفه.  يمم وجهه شطر القبلة، تم أقام الصلاة، وصلى بسندباد البري الفرض، ثم  أتبعه بالشفع والوتر. ثم ختم بالدعاء المستجاب.

  وما أن انتهى حتى سلم على سندباد البري وقال له:

ـ أهلا عزيزي سندباد، مرحبا بك، اجلس.

   جلس السندباد البري بمقام الأكل، مربعا رجليه أمام طاولة من الفضة،  في الجهة المقابلة جلس السندباد البري، أشار بيده إلى الخادم، فانصرف.

   كانت الإشارة الثانية رمزا لأن يحضر الخادم العشاء لضيف السندباد البحري.

    قدم لهما الخادم الطست والإبريق، فخلع السندباد البحري خواتيم عليها فص من الجوهر الثمين، وتقدم خادم وفتح له علبة من عاج منقوش، وضع فيها تلك الخواتيم. فغسلا أيديهما ومسحاهما بفوط حرير مطرزة، ثم مدت على المائدة أطباق عملاقة:  فيها نعام محمر بالسمن، وفخد جمل مشوي، ومآكل أخرى فاخرة، وعجائب الفواكه من بلاد السند والهند.

ثم قال سندباد:

ـ اعلم يا نديمي سندباد، أن الحياة إرادة، وكل مغامرة كان لي فيها إفادة، انتهت رحلتي بسلام، وعدت إلى دار السلام، سالما غانما، كاسبا منصورا. فاسترجعت قصري هذا، فعشت في بحبوحة ورفاهية، وأقبل علي مرة أخرى الأصحاب والندماء، الذين تركوني في محنتي وشقائي، عادوا إلي بعدما علموا بأن الدينار قد جرى في يدي، واشتاقت نفسي إلى المغريات والملذات، ومع مرور الأيام نفذت أموالي ووساء حالي، وهجرني خلاني، وشمت في حسادي، فبعت أثاث القصر، ثم بعت القصر، فلم يبقى لي سوى صرة نقود بها ثلاثمائة دينار.

    بعدها بيومين، تجولت في سوق بغداد، كان كل صانع، يعرض بضاعته: النجار يعرض ما أبدعت يده من أثاث منقوش، وطاولات مطعمة بالذهب والجواهر النفيسة. وصانع الخزف يعرض سلعته من مزهريات، وأواني مرسوم عليها مختلف الأزهار والورود، والطواويس البديعة والغزلان الشاردة، واللبلاب المتعانق.أما صانع الأواني النحاسية، فكان يعرض أواني منقوش عليها الأسود والأفاعي. لكن كل ذلك من أعاجيب الصنع وجودة المهن لم يثر الناس في السوق، مثلما أثارهم شيخ بدين، تلف رأسه عمامة بيضاء عملاقة، مزينة بريشة بيضاء، وماسة خضراء براقة، منير الوجه، قصير القد، لديه لحية بيضاء طويلة. قال بأنه عانى الأهوال والمخاطر.وأنه أتى ببضائع، من عجائب الدنيا، لا تقدر بثمن:  قرد من رخام وبفمه مزمار،  إذا ما بكى الإنسان يعزف نغما حزينا. وإذا ضحك، يعزف نغما نشيطا. وبساط سحري أبيض كالثلج، يقال أنه نسج من شعر ساحرة حيزبون تدعى “زاردا ، وكيس متمنيات، وبضائع أخرى.

    كان الإقبال عليه عظيما، فباع كل ذلك في لمح البصر.

    تقدمت نحوه، طللت على ما بقي لديه، فقال لي:

ـ لقد بعت كل شيء، لم يعد لدي سوى هذه اللوحة، لم يرغبها أحد.

كانت لوحة بها دوائر ملونة متداخلة. فتساءلت فيما تصلح؟

فأجابني التاجر بأنها لوحة مسحورة، ما أن تقرب أصبعك، حتى تأخذ الدوائر في الدوران، وآنذاك يمكنك الدخول فيها والانتقال إلى زمن آخر.

ـ وهل جربتها أيها الشيخ؟

فقال لي:

ـ لا.

فتاقت روحي إلى مغامرة جديدة. فقلت له:

ـ كم ثمنها؟

ـ ألفي دينار.

انسحبت من أمامه مطأطأ الرأس، فنادى علي الشيخ:

ـ كم لديك من المال؟

فقلت له في برود:

ـ لدي ثلاثمائة دينار.

فقال لي الشيخ بحماسة :

ـ هاتها وخد اللوحة، حلال عليك يا ولدي.

  فأعطيته كيس النقود، وذهبت.

     ولما التويت مع الزقاق، اشتد بي فضول عارم، فلم أطق صبرا، فقربت أصبعي حتى أخذت الألوان تدور في شكل حلزوني سريع، أدخلت يدي، ثم أحسست بقوة هائلة تسحبني نحوأنفاق ملونة، ورياح عاصفة، وسماء صافية، وسحب بيضاء، وسوداء، أمطار غزيرة، وحرارة مفرطة، وبعده صقيع يجمد الدم في العروق، كأنني مررت عبر عدة فصول، ثم غفوت، عندما أفقت وجدت نفسي في مكان مجهول، وفوق رصيف غريب، ودنيا عجيبة. كنت أتأمل بلاط الطريق الأسود، وأضواء  تتراقص بالأحمر والأخضر فوق عمود حديدي، وقفت أتأمل العمران الشاهق، حدقت وقرأت بالعربية: دكان الحاج أحمد. الكترونيات الألفية الثالثة.  شوارما الباشا. كانت كل المحلات مغلقة. أصبت بدهشة عظيمة. الأزقة خالية. هل أنا في مدينة الأشباح؟ أين أنا بالضبط؟

      سمعت صوتا يدوي، ولم أعرف ما هي هذه العلبة الحديدية فوقها شعلة حمراء وزرقاء، ثم خرج رجلان يلبسان لباسا موحدا غريبا وقبعتين، ويضعان لثاما على وجهيهما، وفي جنب كل منهما هراوة مطاطية طويلة.

      فك أحدهما القيدين عن كلبين شرسين، أطلقت ساقاي للريح، والكلبان يطارداني، التويت مع الأزقة مثل جرد تائه، يبحث عن شق خلاص.

     فجأة وجدت نفسي أمام حائط، استسلمت لقدري وأرجعت الأمر لله من قبل ومن بعد.

     مضغ السندباد البحري قطعة من لحم النعام الناضج اللذيذ، فساد الصمت، بينما كان السندباد البري ينتظر أن ما يرضي شهوة سمعه أكثر من  شهوة بطنه.

تنبه إليه السندباد البحري، وقال له وقد بسط له يده:

ـ كل يا ضيفي العزيز.

 مزق السندباد البري قطعة لحم ناضجة، وقال وهويلوكها في فمه:

ـ ماذا حدث بعد أن وجدت نفسك أمام الحائط؟

ـ فجأة سحبتني يد مجهولة، إلى الأعلى، فقفزت إلى الجانب الآخر من الحائط.عندما حضر الشخصين الغريبين، كان الكلبان ينبحان بشدة، فتشا في جنبات الحائط، ثم انسحبا. أما أنا  فبالكاد استرجعت أنفاسي، التفت إلى من سحبني، كان شابا، يضع لثاما أزرق على وجهه، قال لي:

ـ هل أنت مجنون، كنت ستعتقل لأنك خرقت حضر التجول، بالإضافة أنك لا تضع الكمامة.

      حدقت في الشاب جيدا، كان يلبس قميصا قطنيا أبيض غريب، وسروالا أزرق ملتصق على أطرافه، وحذاءا منتفخا، ابتسم الشاب وقال لي:

ـ من أين حصلت على هذه الألبسة الفضفاضة؟ هل كنت في حفلة تنكرية؟ ما اسمك؟

فقلت له:

ـ اسمي السندباد.

ـ بطل الألف ليلة وليلة؟

فقلت له  مستغربا:

ـ هل تعرفني؟

ـ ضحك الشاب وقال لي:

ـ ومن لا يعرف السندباد، راكب الشدائد والصعاب، وقاهر الغيلان؟

ثم خلع القناع عن وجهه، وقال لي:

ـ وأنا اسمي حسن.

كان شابا أبيض الوجه، ناعم الخد، كثيف الشعر، ذولحية خفيفة. ثم أعاد القناع إلى وجه.

فسألته باستغراب أكبر:

ـ في أي سنة نحن الآن يا حسن، وأي بلاد هاته؟ أين اختفى الناس؟

ـ نحن في سنة ألفين وعشرون ميلادية.

ـ أقصد الهجرية.

ـ سنة ألف أربعمائة وواحد وأربعون، أنت الآن في غرب بغداد.

أصبت بدوار خفيف.

ـ يالله… أيعقل هذا!

فجأة ناولي قناعا أزرق، وقال لي:

ـ ضع هذا القناع الطبي على وجهك ليحميك من الفيروس.

فقلت له مستفسرا:

ـ ما هذا الذي ذكرت اسمه؟

ـ إنه وباء يسمونه كورونا، انتشر في العالم بأسره، يتسبب بمرض الإنسان والحيوان، ويسبب حالات عدوى تصيب الجهاز التنفسي، وتتراوح حدتها من النزلات البرد إلى حالات تنفسية حادة تبتدأ بالحمى والإرهاق والسعال الجاف، إلى صعوبة في التنفس، ثم  الوفاة. ولمعلوماتك فهذا الوباء ينتقل عن طريق الرذاذ الصغير الذي يتناثر من الأنف أوالفم أثناء الكلام مثلا، أوعندما يسعل الشخص المصاب به، أوعندما يعطس ويتساقط هذا الرذاذ على الأشياء والأسطح المحيطة بالشخص، فتنتقل إلى أشخاص آخرين.

  لهذا يجب الابتعاد عن الشخص المريض بمسافة تزيد عن متر واحد. ويلزم تنظيف اليدين بالماء والصابون أوفركهما بمطهر كحولي. ولهذا السبب أعطيتك هذه الكمامة. أما عن سبب اختفاء الناس، فإنهم يمكثون في منازلهم، لكي لا تتفشى العدوى بينهم.

ـ وكيف سيقتاتون؟

ـ يتبضع فرد واحد من الأسرة مرخص له  بأقرب بقال أوسوق، ثم يعود إلى منزله. أما من أوقف عن العمل، سيستفيد من إعانة مالية.

ـ وكيف ظهر هذا الوباء؟

 ظهر أول الأمر في منطقة  تدعى ووهان بالصين، ويعتقد بأن سببه أكل  الصينيين للكلاب والقطط والخفافيش والعقارب، والصراصير.

فاستغربت وقلت له:

ـ لكن الصين بعيدة عن بغداد؟

فأجابني:

ـ لقد أصبحت اليوم العلاقات التجارية بين الصين والعالم متينة، في ظل العولمة ووفرة وسائل الاتصال.

فسألته مندهشا:

ـ وما العولمة؟

فقال لي حسن مزمجرا:

ـ فإما أنك كنت في غيبوبة منذ ولادتك وأفقت منها اليوم وغادرت المستشفى، أوأنك كنت في سجن أبوغريب.

فسألته باندهاش أكبر:

ـ ما هوهذا السجن؟

فصرخ حسن في وجهي:

ـ أووووووه. من ذا الذي لا يعرفه؟!

فقلت له مهدئا:

ـ أرجوك، لقد أصبت بضعف في ذاكرتي، اعذرني من فضلك.

ـ وهل هناك من دواء لهذا الوباء؟

ـ لا. وكما سبق وقلت لك، المكوث بالبيت هوأفضل علاج.

قال لي حسن ذلك، ثم همس، وهويسترق النظر من زاوية حائط:

ـ  أصمت

وأضاف:

ـ انظر هناك، أترى ذلك الجندي، إنه يساند أفراد الشرطة، في تطبيق الحجر الصحي. إنهم يقبضون على كل شخص خرق الحجر الصحي، أوظهرت عليه أعراض المرض، يضعونه في سيارة الإسعاف تلك، ليخضع للتحليلات الطبية، والعزل الصحي إن تأكد إصابته بالوباء.

   فجأة سمعنا صخبا في السماء، رأيت آلتين تطيران في الفضاء، فصحت:

ـ إنهما جرادتين عظيمتين، ستقومان بابتلاعنا.

فأطبق حسن على فمي وقال لي مراقبا:

ـ أصمت. إنهما طائرتا هيلوكبتر.

   ثم أمسك يدي والتوينا مع زقاق، ثم دخلنا منزلا نصفه مهدم، وقال لي بعد أن جلسنا:

ـ أقطن بهذا المنزل، والداي توفيا منذ سنوات،  فرض الحجر الصحي في العالم كله بعد تفشي هذا الوباء، إنه ينتشر كالنار في الهشيم.

    جلست على فراش غريب الشكل، ثم رمى لي قارورة ماء رخوة، لم أعلم فتحها، ففتحها حسن وناولها لي. فشربت من فمها الضيق، كان ماءها باردا. ثم جلس حسن وحكى لي عما فعله الأعاجم بالعراق.

      كان هناك إطار أسود مثبت على الحائط. أمسك حسن علبة في حجم صابونة، وأنا ألاحظ ما يفعل، فجأة أطل رجل يتحدث بالعربية من الإطار، تأملته بشغف، ثم أطللت وراء الإطار، فقلت لحسن:

ـ هل هذا الإطار سحري؟

سكت حسن وقال لي:

ـ لا تقل لي أنك لا تعرف تلفاز “اتش دي”؟!!

   ثم صمتنا وأخدنا ننصت إلى تقرير قناة تسمى الجزيرة،  حول وباء كورونا: الإصابات والوفيات بالآلاف، وكيف غصت المستشفيات بالمرضى، إنه داء ليس له دواء.

 فقلت:

ـ  لطفك با رب العالمين.

    فجأة سمعنا دقا عنيفا على الباب، فتح حسن الباب، فاندفع الجنود، وبأياديهم عصي سوداء، وجهوها إلينا.

ـ ارفعا أيديكما، لقد ترصدتكما الهيلوكبتر وأنتم تدخلون هنا، ما الذي دفعكما لخرق حظر التجول.

فقال حسن:

ـ لقد خرجت لأشتري ما أقتات، هذا كل ما في الأمر.

   ثم توجهوا بعصيهم نحوي، وهم يتأملون سروالي الفضفاض، وعمامتي الملتفة. وقال  لي أحدهم:

ـ بطاقة هويتك.

فقلت له:

ـ لا أعرف عما تتحدث.

فقال قائدهم:

ـ صفدوا أيديهما، ورحلوهما نحوقسم الشرطة، ليتم استنطاقهما، ربما لديهما معلومات عن مكان وهوية من يهاجموننا.

عصبوا أعيننا بشريط أسود، فصرخ حسن:

ـ نحن لم نفعل شيئا.

   مرت عشرة دقائق، فجأة دوى انفجار في السيارة التي تقلنا. فانقلبت، وفقد كل من فيها وعيه، وسمعنا تكبيرات متقطعة، وأناس مقنعين بالكوفيات. أمسك حسن عنقه، وأصبت في رأسي، وحدث تبادل للنار، فقتل البعض، وأصيب البعض الآخر. اشتد ضرب النار علينا من السماء، فنجوت بنفسي، وكان ذلك آخر عهدي بحسن.  ثم فررت حتى صادفت في طريقي صومعة نصف مهدمة،  فخلعت نعلي، ودخلت إلى بيت الله ملتجئا، وفجأة سمعت صوتا مدويا عبر بوق ضخم من السماء:

ـ لديك عشر ثوان للخروج…

     نظرت داخل المسجد، أتربة وغبار وأحجار متهدمة، كانت كلمة الله أكبر كانت عريضة منقوشة على رخام أبيض فوق المحراب. صليت ركعتين تحية للمسجد، ثم رفعت يدي إلى الله تعالى مبتهلا:

ـ لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين. اللهم أغث عبدك المطيع لأمرك، يا مغيث.

    خرجت من المسجد، كان الجنود يمسكون تلك العصي التي يخرج منها النار، واعتقدت أنها نهاية كل مغامراتي، فجأة نظرت إلى إطار فسيفساء في أحد الحيطان المجاورة، فرأيت دوائر الألوان تتفاعل، فارتميت في وسطها، دون تردد.   

   ضرب السندباد البحري  كفا على كف، فأتت صبية نحوه، تتمايل في مشيتها مثل قضيب الخيزران، تحمل صينية  بها  قدح وكوبين من النحاس، كان وجهها بلوريا، كالبدر إشراقا، وكالغزالة بهاء. صبت عصيرا  لسيدها وولي نعمتها، وما أن انتهى من ارتشاف العصير، حتى قال له السندباد البري:

ـ بالصحة والعافية يا سيدي.

 وأشار لخادمته بأن تصب العصير لضيفه. فقالت بصوت رخيم مغناج، وهي تخبئ كفها المخضب بنقوش الحناء:

ـ أنا طوع بنانك يا سيدي.

    فاقتربت من سندباد البري، وانحنت، وليتها لم تفعل: كانت ممشوقة القوام، مستديرة الوجه، فمها كأنه خاتم سليمان، عيناها واسعتان، التقت بعينيه الصغيرتين، اهتز رمشها الكثيف، فارتجفت الجفون. اختلطت رائحتها الزكية بالتحديق بفسحة سفرجلتي صدرها. بقي السندباد البري مشدوها، قلبه يتسارع وأنفاسه تتردد لاهثة، لم يدري هل هوممسك بالكوب، أم بمعصم يدها المتقدة بياضا؟ فأفاقه السندباد البحري من سباته:

ـ أشرب، وسأواصل الحديث.

  شرب سندباد البري العصير دفعة واحدة، فما ذاق أحلى منه في حياته، وقال وهويرمي سهام إعجابه إلى أذن الجارية:

ـ يا سلام، شراب لذيذ، كأنه الكوثر!

 ماءت له الجارية  كقطة:

ـ إنه عصير العنب والرمان، منسم بماء الورد ومحلى بالتين الجاف والعسل، يا سيدي.

   حرك السندباد البحري أنامل يده فانصرفت. وكانت آذان السندباد البري وجوارحه تريد أيضا ارتشاف نهاية المغامرة. نظر إلى راويه الذي واصل حكيه الممتع:

 ـ عندما دخلت في الإطار أول مرة في بغداد اختفيت وبقي الإطار مرمي في الأرض في الزقاق. وجده أحد الصعاليك  فباعه لأحد التجار بثمن بخس. وفي دكان هذا التاجر وجدت نفسي عندما خرجت للمرة الثانية وسط زبائن السلع المستعملة متحلقين حولي. اندهش البائع من وجودي بغتة كما لوكنت جنيا. فر الجميع. استجمعت قوتي وخرجت من دكانه.

      قمت بالتجوال في شوارع بغداد، فسمعت منادي الخليفة يدق الطبل، ويلقي ما هومكتوب بماء الذهب في رق غزال، وعليه ختم الخليفة هارون الرشيد:

ـ يا أهل بغداد، بأمر من الخليفة هارون الرشيد، أدام الله عزه ونصره، بعدما تأكد خبر انتشار الطاعون ليلة البارحة، وأصيب عدد كبير من الناس، من الواجب بقائكم في منازلكم، لا تغادروها إلا للضرورة، يرحمكم الله. وعلى الحاضر أن يعلم الغائب.

    انتهى الأكل، وقدم الخادم الأول الطست والإبريق إلى السندباد البحري، وكذلك فعل الخادم الثاني مع السندباد البري.

   وما أن انتهى حتى وضع الخادم  طبقي بقلاوة باللوز المجروش، قضم السندباد البري قضمة قاسمة وقال:

ـ وماذا حدث بعد ذلك يا سيدي؟

فقال له السندباد البحري، وهويزيل قطعة لحم علقت بفلج سنه بواسطة عود رفيع، ويمسح فمه بطرف الفوطة:

ـ هتفت  في الناس المتحلقين حول منادي الخليفة:  إنها كورونا الملعونة. عليكم بالكمامات. وغسل اليدين بالماء والصابون. والمكوث بالمنازل. والعطس في قطعة ثوب مرة واحدة ورميها. والابتعاد مسافة خطوتين عن كل إنسان، وعزل المرضى في أماكن خاصة.

     أشار بكفه، فأتاه الخادم بالنرجيلة، فأخذ يدخنها بنفس قوي حتى قرقر ماء في جوفها، وزفر يقول:

     ـ حسبوني مجنونا، فعرضوني على الخليفة، فوضحت أمام خاصته من رجال دولته وحكماء ديوانه، مرض    كورونا أكثر فأكثر، واشترطت على نفسي إن لم أنجح في القضاء عليه، أن أضع رقبتي تحت تصرف الخليفة.

      انبهر الخليفة مما سمع، واقتنع بأقوالي، وصاح صياح الفرح، وقال:

ـ فلنبدأ على بركة الله في القضاء على الوباء.

    وبعد شهر اختفى المرض، وقضينا على الوباء، فتلقاني أهل بغداد بالترحاب والإكرام، وقدموا لي المزيد من الاعتبار والاحترام. وأجزل لي الخليفة العطاء، وأنعم علي بأثواب فاخرة من ثيابه الخاصة، وغمرني بالأموال. وكافئني بأعظم الأشياء وأثمنها.

     وصاح الديك معلنا بزوغ الفجر، ففرك السندباد البحري أسنانه بعود السواك، ورمى لنديمه كيسا منتفخا بالنقود، فتلقاه بالشكر والمديح. ودعا له بطول العمر، وبموفور الصحة والعافية، وبدوام النعمة.

     وبقي السندباد البري صديقا وفيا، وخلا عزيزا، ونديما خاصا لسندباد البحري، إلى أن أدركهما هادم اللذات، ومفرق الجماعات، فسبحان ذي الملك والملكوت، ذي العزة والجبروت، الحي الذي لا يموت.

 

مقالات من نفس القسم