في واحد من أكثر عروضه الكوميدية إبهاراً قدم الفنان الأميركي (لويس. سي. كي) فقرة عن المواعدة، تهكم خلالها على تلك اللحظة التي تقرر فيها المرأة بداخلها السماح للرجل بمضاجعتها، بينما لا تكون لديه فكرة عن هذا القرار .. فقط يواصل محاولاته المضحكة لإثارة إعجابها، مظهراً حالة من الفوضى غير المتماسكة من انعدام الشخصية (مثل حروف ملاحظات طلب الفدية المقصوصة من مجلات عدة) يخلط خلالها بين أنواع مختلفة من الرجال، يتبادل تقمصهم (بعض ثوان لكل واحد، كقضيب أعمى في الفراغ، يدفع في اتجاهات لامتناهية، ويأمل في إيجاد شيء ثمين بمكان ما) .. يخبرنا (جي دي موباسان) في قصة (ندم) أن هذه اللحظة ليست مجرد تجربة من ضمن تجارب الحياة، أو ذكرى قد تتشابه مع ذكريات أخرى، بل من الممكن أن تكون الكابوس الأعمق الذي يجعل من العمر بأكمله ـ مهما كانت خبراته الأخرى ـ ليس أكثر من خيبة ثقيلة.
يكتشف الأب (سافال) بعد إتمام عامه الثاني والستين أنه أضاع فرصة مضاجعة حبيبته السيدة (ساندرز) في شبابهما أثناء نزهة في إحدى الغابات الصغيرة نتيجة الخوف من رد فعلها ـ رغم كل علامات القبول التي أبدتها له ـ خاصة أنها زوجة صديقه الذي كان مستغرقاً في النوم فوق العشب أثناء ذلك الوقت .. السيدة (ساندرز) تخبر (سافال) بعد أن ذهب إليها كي يضع حداً للشك الذي عذبه طوال حياته بأنها كانت تعرف أنه يحبها، وأنها كانت ستعطيه ما يشاء لو طلب منها ذلك أثناء النزهة القديمة في الغابة .. أدرك (سافال) أنه كان قريباً من السعادة، ولم يُمسك بها .. ذهب في هذه الليلة إلى نفس المكان الذي أضاع فيه تلك الفرصة ليبكي.
أفكر الآن روايتي (الفشل في النوم مع السيدة نون) الصادرة عن دار (الحضارة) 2014:
(فجأة يا دكتور، قبل أن أنام في تلك الليلة، وبينما كنت في ذروة اختناقي من التفكير، واسترجاع ما حدث؛ جاء في ذهني هاجس طيّر عقلي، ودمّر آخر ما تبقى لدي من أعصاب، وسوّد الدنيا في عينيّ أكثر مما كانت سوداء .. فكرت في أن مجيئها لي اليوم بهذا المكياج، وبهذا الميني جيب كان يعني أنها كانت مستعدة لاحتمال أن يحدث شيء بيننا .. بالضبط كما أقول لك يا دكتور .. كانت جاهزة لخوض تجربة أن ننام معاً .. طبعاً حضرتك ممكن تقول بأن هذا ليس شرطاً، وأنه احتمال صعب، إلى آخر كل ذلك الكلام .. سأقول لك أنني أوافقك، ولكنه يظل قائماً .. هل تستطيع يا دكتور أن تعطيني دليلاً دامغاً لا يقبل الشك، أو مبرراً قوياً جداً لا يمكن مجادلته أنها جاءت، ولم يكن في رأسها نهائياً أن مقابلتنا من الممكن أن تنتهي بممارسة الجنس؟ .. أظن أنك لا تملك هذا الدليل، أو المبرر يا دكتور .. حضرتك ممكن تسألني أيضاً ببساطة ما الذي بيننا يجعلها تُفكر في أمر كهذا، بل وتأتي مستعدة لإمكانية حدوثه .. أستطيع الرد عليك، وأسألك: ما الذي بيننا يمنع ذلك أصلاً؟ .. كل كلامنا على الماسنجر، والحوارات التي تبادلناها كانت عادية جداً، ومثلما قلت لحضرتك أن التحدث عبر الانترنت أعطاني فرصة إخفاء طبيعتي المهزوزة، الخجولة، والمرتبكة بقدر كبير للغاية .. منحني الشات حماية ـ لأنها لا تراني، ولا تسمعني ـ من اكتشاف ضعفي الهائل، وتوتري العظيم .. هذا يعني أن صورتي عندها لم تكن من السوء للدرجة التي تستبعد أن يصبح نومنا معاً شيئاً وارداً .. ثانياً يا دكتور ما الذي يجعلها تهتم، وتحرص على الاتصال بي، وطلب مقابلتي حينما نزلت الأجازة لو كان انطباعها عني ليس جيداً؟ .. أظن أنك لست في حاجة لتعرف أنه لو كان في داخلها انطباع ضدي، أو على الأقل ليست لديها الرغبة في ذلك اللقاء لقضت أجازتها، ورجعت، وكان من الممكن ـ ولن يكون صعباً عليها ـ أن تخبرني فيما بعد أنها كانت مشغولة جداً، أو أنها واجهت أموراً طارئة منعتها من الاتصال بي .. لن تعوزها الحجج، والأعذار يا دكتور، أو حتى لم تكن ستهتم من الأساس بتقديمها، أو التفكير في ضرورتها .. ما حدث هو العكس .. اتصلت بي، وطلبت لقائي، وجاءت بمفردها ـ لاحظ هذا جيداً ـ وكانت متأنقة، وتضع كامل مكياجها، وترتدي الميني جيب .. المظهر الذي لم يسبق لي أبداً أن رأيتها به سواء في المرات القليلة السابقة، أو حتى في صورها المنشورة على الانترنت .. ليس هذا فحسب يا دكتور .. تريد الدليل الأقوى الذي لا يحتمل الشك، أو التأويل، ويؤكد صحة الدلائل السابقة؟ .. جملة (هي الناس بتبصلي كده ليه، هو أنا ماشية عريانة) .. لم يكن معناها الاستغراب، ولا كان القصد منها أن تُشعر نفسها بأنها جميلة، ومثيرة مثلما قلت لنفسي وقتها .. لا يا دكتور .. كانت تريد أن تُشعرني أنا أنها جميلة، ومثيرة بلغة صريحة، وواضحة .. لغة تبرز فيها كلمة (عريانة) دون أي ساتر .. كانت تلفت نظري لها، ولما هو مكشوف من جسمها بعدما لم تجد مني استجابة، بل تجاهل غشيم لا نظير له .. رغم كل شيء، لم يكن عندها مانع حتى اللحظة الأخيرة، ونحن نخرج من (الكافيه)، وقبل أن أُوقف لها التاكسي من أن نذهب إلى السرير .. تخيّل .. ولا كأني هنا .. كأنني مسافر داخل بلاهتي، ولا أشعر بشيء سواها .. ضع كل ما قلته بجوار بعضه، ثم أخبرني ماذا يعني يا دكتور .. أنا لا أقول أنها قادمة خصيصاً كي أركبها، أو أنها كانت ترتعش من الهياج، وتتمنى أن آخذها فوقه، ولو أنه يظل احتمالاً .. أنا فقط أقول أنها على الأقل كانت مهيأة للتجاوب مع أي شيء يمكن أن يحدث، ويؤدي لأن ننام معاً .. ثم لابد أن تأخذ في بالك أيضاً أن هذا عادي بالنسبة لها، وليس فيه مشكلة لو حدث .. شاعرة، مثقفة، متفتحة، تعيش في الخارج، والجنس بالنسبة لها ليس أمراً غريباً، أو مخيفاً، أو غير أخلاقي .. بالعكس .. ضرورة، واختبار، وكشف، وهذيان، ومراقبة، واحتياج، وعلاج .. كل الدوافع الجميلة، الممتعة، التي بلا شروط .. ثم بصراحة وجهها كان يقول هذا يا دكتور .. ملامحها كانت مرتخية ـ في البداية، قبل أن يجعّدها الزهق بمرور الوقت ـ وابتسامتها كانت سائبة، وعيناها كانتا ناعستين، كأنها تحلم، أو كأنها تمرر لك بدهاء الطمأنينة التي تلزمك من رد فعلها لو قررت اتخاذ خطوة جريئة .. خطوة جريئة مني أنا يا دكتور؟!!! .. عرفت الآن ماذا ضيّعت من يدي؟ .. عرفت الآن الروعة الاستثنائية، التي لا تتكرر، والتي تفضّلت بهمّة، وثبات بتحطيمها، ونسفها؟).
لماذا هي ليست مجرد تجربة حينما تخفق يمكن أن تنضم على نحو تلقائي إلى مخزون الهزائم العادية؟ .. هل لأن هذه الرغبة تحديدأ يتم اعتبارها ـ خاصة طوال وقت عدم إشباعها ـ الأساس الجوهري للحياة، الذي تتضاءل بجواره أي أمنيات أخرى، بل ولأنها حينما تتحقق قد يكون لديها القدرة على معالجة الجروح التي لا تنتمي ـ ظاهرياً ـ إليها، أو تجعلها ـ حينما تفشل ـ عاهات أشد مرارة؟ .. لماذا هي ليست مجرد ذكرى قد تتشابه مع ذكريات أخرى؟ .. هل لأن آلامها ـ خاصة مع الوعي باستحالة أن يعطي الزمن احتمالاً لتعويضها ـ تجعلك توقن وأنت على عتبة الموت أنك لم تدخل العالم أصلاً، وبالتالي لم تكن حياتك أكثر من حمولة بائسة من الحرمان؟ .. لننتبه جيداُ إلى قطرات السكر السائل التي كانت تتساقط من أصابع يدي السيدة (ساندرز) وهي تخبر (سافال) بالحقيقة .. لقد فات الأوان أن يلحق بهذا السكر المهدر.
إن ما يبدو عجيباً بشكل مضحك أن عدم رغبة الإنسان في الحصول على تأكيد بأنه أضاع فرصة ثمينة لن تعوّض كتلك قد يجعل من اللقاء بين (سافال) و(ساندرز) حدثاً جيداً لو تم بطريقة عكسية .. لنتخيل مثلاً لو أنها أخبرته ـ على الأقل ـ بأنها لم تكن تحبه، وأنها لم تكن لتسمح له بأن يستمتع بها في تلك النزهة القديمة في الغابة؛ ما الذي كان سيشعر به (سافال)؟ .. ربما كانت ستبقى آلامه كما هي، مستقرة على حالتها قبل هذا اللقاء، دون تطور، بل يمكن أيضاً أن تكون معرفته بعدم حبها له سبباً في منحه نوعاً من التصالح المستسلم مع هذه الآلام .. تعطيه رؤية محكمة اليأس، ومتفهمة إلى الماضي، باعتباره قدراً لم يسمح له بامتلاك ما يمكن خسارته من الأساس .. ربما كان بمقدور (سافال) أن يعثر على شيء من العزاء في تلك الليلة بدلاً من الذهاب للبكاء إلى نفس المكان الذي شهد هزيمته .. ربما كان العزاء حينئذ أكثر رحمة من الندم .. ربما.
ندم
جي دي موباسان
إنـّه يومٌ خريفيٌّ حزين.
حينما نهض سافال من نومه كانت السماء تمطر، وأوراق الأشجار تتساقط كأنها مطراً آخر أكثر غزارة، وأكثر رتابة،
إنـّه يومٌ خريفيٌّ حزين. وسافال، الذي يطلقون عليه في نانت:الأب سافال ليس مرحاً هذا الصباح. وحالما نهض، شرع يتنقل من المدفأة إلى النافذة، ومن النافذة إلى المدفأة
تكتظ الحياة بالأيام الكئيبة. بالنسبة لسافال، من الآن وصاعدا، لن تحتوي الحياة إلا على أيامٍ كئيبة. إذ أنه قد أنهى عامه الثاني والستين، ولا يزال وحيدا, عانسا، دونما أحد من حوله. كم هو محزن أن تموت هكذا وحيداً، بعيداً عن أي إنسان يمكن أن يشعر نحوك بالامتنان!
شرع يفكر في حياته الخاوية. تعود به الذاكرة إلى ماضيه البعيد، إلى طفولته، في المنزل مع أهله، ثم المدرسة والنزهات، وفترة دراسة الحقوق في باريس. ثم مرض أبيه ووفاته.
بعد ذلك، عاد سافل ليعيش مع أمه. عاش الاثنان معاً: الرجل الشاب، والمرأة العجوز في هدوء دونما حاجة لشيء أو شخص آخر. لكن أمه أيضاً ماتت. فمكث هو وحيداً.
كم هي حزينة الحياة! قريباً سيموت بدوره سيفنى هو أيضاً! وسينتهي كل شيء. لن يبقى هناك سافل على سطح الأرض. شيءٌ مرعب! أناس آخرون سيولدون وسيعيشون وسيحبون بعضهم بعضاً. سيضحكون. نعم سيمرحون، بينما هو لن يكون هنا. أليس غريباً أن نستطيع الضحك والمرح، أن نكون سعداء مع إيماننا الراسخ بالموت؟.. لو كان محتملاً فقط هذا الموت. حينها سيكون بمقدورنا أن نأمل .. لكن لا. إنه محتوم محتوم، كقدوم الليل بعد النهار.
لو كانت فقط حياته مليئة؟ لو كان حقق شيئاً ما؟ لو قام ببعض المغامرات؟ لو حصل على بعض المتع والنجاحات؟ فتات مما لذ وطاب. لكن لا، لا شيء. لم يفعل شيئاً لا شيء غير النهوض والأكل والنوم في المواعيد نفسها. هكذا. حتى بلغ الثانية والستين.. حتى أنه لم يتزوج مثل بقية الرجال. لماذا؟ نعم لماذا؟ لم يتزوج كان يمكنه ذلك. فقد كان يملك ثروة لا باس بها . أهي الفرصة التي لم تسنح؟ ربما لكن نحن الذين نخلق الفرص. لقد كان مهملاً. غير مكترث بشيء. هذه الحقيقة. اللامبالاة كانت مرضه الأخطر. نقطة ضعفه. عيبه. كم من الناس يخسرون حياتهم بسبب عدم اكتراثهم من الصعب على بعض الناس أن ينهضوا، أن يتحركوا، أن يتكلموا. من الصعب عليهم أن يبحثوا حتى عن أصغر الأمور .
لم يحبه أحد. أو هكذا تهيأ له. لم تنم امرأة فوق صدره في لحظة حب عميق. لم يعرف متعه القلق في لحظات الانتظار، ولا قشعريرة اليد المضغوطة، ولا نشوة الوجد المنتصر. أي سعادة سامية تغمر قلبك عندما تلتقي الشفاه للمرة الأولى وتتشابك أربعة سواعد لتصنع مخلوقاً واحداً مغموراً بالسعادة.
كان سافل جالساً وقد وضع قدميه بالقرب من النار ملتحفاً بثوب النوم؛ لقد خسر حياته. نعم أكيد خسرها تماما. ومع ذلك فقد أحبّ حبّا ظل محبوسا مكتوما. أحب بألم وبعدم اكتراث. كما كان يفعل دائما. لقد حبّ صديقته السيدة ساندرز زوجه صاحبه ساندرز. أواه! لو كان عرفها عندما كانت لا تزال فتاة كان بالتأكد سيتزوجها لكنه تعرف عليها بعد فوات الأوان، بعد أن تزوجت. ومع ذلك فقد حبها دون كلل منذ اليوم الأول. لازال يذكر انفعاله الشديد في كل مرة كان يلتقي بها, وحزنه عندما يفارقها، والليالي التي لم يستطع خلالها النوم لأنه كان يفكر فيها. عندما يستيقظ في الصباح كان ولهه يتناقص دائما لماذا؟ الآن بلغت الثامنة والخمسين. كم كانت جميلة ولطيفة في ذلك العهد كان شعرها الأشقر مجعدا. كانت تحب الضحك. ومع أن ساندرز لم يكن الزوج المناسب لها فقد أصبحت سعيدة ..
آه لو كانت تلك المرأة قد أحبته؟ ومن يدري؟ لماذا لم تكن لتحبه بما أنه كان يحبها؟ ألم تخمن شيئاً؟ ألم تر شيئاً؟ ألم تدرك شيئاً أبداً؟ ماذا يمكن أن تظن لو أنه صارحها؟ ماذا يمكن ردها؟
ظلّ سافل يتساءل عن عددٍ من الأحداث المماثلة في حياته الماضية.. وتوقفت ذاكرته عند السهرات الطويلة التي كان يضيفها في بيت صديقة ساندرز عندما كانت زوجته لا تزال شاب وجذابة. يتذكر أشياء قالتها له، صوتها، ابتسامتها الصامتة الرقيقة والمليئة بالإيحاءات. ويتذكر النزهات التي كان الثلاثة يقومون بها معاً على ضفاف نهر السين، وتناول طعام الغداء فوق العشب في عطلة الأحد، إذ أن ساندرز كان موظفاً في إدارة المأمور…
وفجأة عادت إلى ذاكرته وبوضوح نزهة قام بها مع السيد ساندرز وزوجته في إحدى الغابات الصغيرة الواقعة عند ضفة النهر. كانوا قد رحلوا في الصباح حاملين مؤنهم في صدر صغيرة. كان ذلك اليوم الربيعي مشرقاً. يوم من الأيام التي تجعلنا نشعر بالنشوة: كل شيء يفوح بالعطر. كل شيء يبدو سعيدا، الطيور أكثر مرحا ورفرفة أجنحتها أسرع.
في ذلك اليوم، أكل سافال والسيد والسيدة ساندرز فوق العشب. في ظل شجرة صفصاف، بالقرب من بركة ماء غمرتها الشمس بأشعتها. وكان الهواء دافئاً مفعماً بأريج الندى الذي يجعل المرء يشعر بالثمالة عند استنشاقه. كم كان الجو صحواً ذلك اليوم
بعد الغداء، تمدد ساندرز فوق العشب. ونام “أفضل نوم في حياتي!” قال لهما عندما أيقظاه قبيل الغروب. أما سافال فقد أمسك بذراع السيدة ساندرز وسارا معاً بمحاذاة النهر. وكانت هي تستند به وتضحك قائلة: “إني أشعر بالثمالة، يا صديقي، أني منتشية”. وكان هو ينظر إليها بهلع شديد، فقد امتقع وجهه من شدة خوفه أن تشعر السيدة ساندرز بالحرج من جرأة نظراته إليها. كان يخشى أيضا أن تتبين السيدة ساندرز رعشة يديه، وتكتشف حقيقة مشاعره.
فجأة سألته السيدة ساندرز وقد وضعت فوق رأسها تاجا من العشب وأزهار الزنبق المائية قائلة: “هل تحبني هكذا؟”. وعندما رأته لم يرد عليها لأنه لم يجد شيئاً يقوله لها، أخذت تضحك باستياء، ثم قالت بعنف: “إذن، فلنتحدث على الأقل أيها الأبله!” حينئذ كاد أن يبكي دون أن يجد كلمة واحدة يقولها.
عادت كل هذه الإحداث إلى ذاكرته الآن، بكل تفاصيلها الدقيقة كأنها وقعت اليوم. لماذا قالت لهك إذن فلنتحدث على الأقل أيها الأبله! وتذكر كيف كانت تستند إليه برقة وحنان؟ وفي لحظة مرورها تحت إحدى الأشجار المنحنية حس بأذانها تلامس وجنته، فتراجع هو بسرعة خشية أن تظن أنه قد تعمد هذا الاحتكاك. وعندما قال لها: ألم يحن الوقت للعودة بعد؟ رمقته بنظرة غريبة. لم يدرك ذلك حينذاك. وهاهو الآن يتذكر كل شيء. “كما تشاء يا عزيزي أن كنت متعباً فلنعد”. قالتها ببرود. ورد عليها: ليس بسبب التعب، لكن ربما يكون ساندرز قد استيقظ. فقالت وهي تهز أكتافها: “أوه إذا كانت تخشى أن يستيقظ زوجي فهذا شيء آخر! فلنعد”.
في طريق العودة ظلت صامتة، ولم تتكئ على ذراعه. لماذا لم يحاول من قبل أن يجد جوابا لهذا السؤال. أما الآن فيبدو أنه قد وجد شيئاً لم يكتشفه من قبل:
-هل….؟ شعر سافل بالدم يتدفق في شرايينه وأحمر وجهه، فنهض منفعلاً كما لو أنه عاد حقا ثلاثين عاماً إلى الوراء، وكأنه يسمع ساندرز تقول له: أحبك
هل كان هذا ممكناً؟… أخذ الشك يتسلل إلى كيانه، وما أنفك يعذبه. هل يمكن أنه لم ير شيئاً؟ لم يخمن؟ أوه لو هذا كان صحيحاً! لو أنه اقترب من السعادة دون أن يمسك بها! وقال لنفسه: أريد أن أعرف. لن أستطيع أن أعيش مع هذا الشك. أريد أن أعرف. وهرع يضع ملابسه وهو يفكر: عمري اثنتان وستون سنة وعمرها ثمان وخمسون سنة يمكنني أن أسالها عن هذا الأمر دون خجل وحرج.
ويقع منزل ساندرز في الطرف الأخر من الشارع أمام بيته تقريباً. و عندما طرق الباب فتحت له خادمة صغيرة مندهشة لمجيئه مبكراً. قائلة له:
– أنت؟ في هذه الساعة؟ هل وقع حادث يا سيد سافال؟
– لا بابنتي. رد عليها وأضاف: اذهبي واخبري سيدتك أنني أريد مقابلتها حالاً.
– وفي الحقيقية سيدتي في المطبخ تحضر مؤنه الشتاء من مربي الخوخ. وهي لم تلبس بعد لعلك تفهم ذلك.
– نعم لكن قولي لها أني جئت لأمر مهم جداً.
بعد أن غابت الخادمة شرع سافل يذرع قاعة الاستقبال بخطوات واسعة مضطربة. لن يشعر بالخجل هذه المرة. سيطرح عليها السؤال كما لو كان سيطلب منها وصفة طعام. لا داعي للخجل ما دام عمره قد تجاوز الثانية والستين. انفتح الباب وبرزت السيدة ساندرز. أنها الآن امرأة بدينة وعريضة ومدورة وجنتاها مكورتان وضحكتها رنانة تمشي ويداها بعيدتان عن جسمها، فقد كانتا ملطختين بمعجون السكر.
سألته بقلق: “ماذا جرى لك يا صديقي أنت لست مريضاً؟”
– لا يا عزيزتي. ورد قائلاً ، لكني أود أن أسالك عن أمر مهم جداً بالنسبة لي، فهو يعذبني ويثقل خاطري هل تعديني بأن تجيبيني بصراحة؟
– أني دائما صريحة. ردت مبتسمة.
– لقد أحببتك منذ أول يوم رأيتك فيه. ألم يساورك شك في ذلك؟
ردت عليه وهي تضحك وفي صوتها شيء من نبرة الماضي: أيها الأبله، لقد أدركت ذلك منذ اليوم الأول.
بدأ سافل يرتعش، وقال هامساً:
– كنت تعرفين إذن؟ وسكت
فسألته: أذن ماذا؟
– إذن؟ ماذا كنت تعتقدين؟ ماذا كنت ستقولين؟
ضحكت مرة أخرى وبصوت مرتفع بينما كانت قطرات السكر السائل تتساقط من أصابع يديها فوق الأرضية الخشبية. ثم قالت؟
-أنا؟ لكنك لم تطلب شيئاً مني؟ ولم يكن من اللائق أن أصارحك بشيء.
عندئذ تقدم سافل نحوها خطوة وقال:
قولي لي؟ اخبريني؟ أتذكرين ذلك اليوم عندما نام ساندرز فوق العشب بعد أن تناولنا الغذاء … وذهبنا نحن الاثنان حتى المنعطف هناك.
وانتظر. كانت هي قد توقفت عن الضحك وأخذت تنظر في عينيه وقالت: “
– بالتأكد أتذكر كل هذا.
فاستطرد بانفعال: “… حسنا! ذلك اليوم، لو كنت لو كنت جرئيا ماذا كنت ستفعلين؟”
ابتسمت السيدة ساندرز وقد بدت كامرأة سعيدة لم تندم أبدا على شيء. وردّت بصوت صاف يكشف عن الصراحة وقدر من السخرية:
– كنت سأعطيك ما تشاء يا صديقي
ثم أعطت سافال ظهرها وذهبت إلى مرباها. أما سافال فقد خرج إلى الشارع مرعوباً كما لو أنه قد شاهد كارثة طبيعية. وسار مهرولاً تحت المطر في خط مستقيم باتجاه النهر دون أن يفكر أين هو ذاهب. وعندما وصل إلى الضفة اتجه إلى اليمين بمحاذاة النهر مشى طويلاً كما لو أنه مدفوع بغريزة ما في ما في داخله. كانت ثيابه تسبح في المياه التي تنهمر من على قبعته المشوهة اللينة كأنها من على سطح أحد البيوت.
وأستمر سافال يسير إلى الأمام حتى لقي نفسه في المكان نفسه الذي تناولوا فيه طعام الغذاء في ذلك اليوم البعيد. لقد قلبت ذاكره كيانه وأخذت تعذبه أكثر وأكثر. وعندئذ جلس تحت الأشجار العارية. وبكى.