د. علي وهبي
تكاد الكثير من الدراسات تعلن عن نفسها كفيلة فعالة في تقديم القراءة الملائمة والتحليل الناجع لرواية: (نحيب الأزقة) للكاتب والروائي عبد الإله حبيبي، كذلك تبادر المناهج النقدية ذات الخلفية والمرجعية الفلسفية لأجل الغرض ذاته، فالطبيعة السردية هاهنا تتطلب نقدا مركبا متكاملا، أو ما يسمى بالنقد التكاملي، الجامع من كل توجه نقدي بطرف.
لهذا وجب القول إني كقارئ استهواه العالم القصصي وأثاره فعل الكتابة السردية لدى قاص، ما فتئ يجدد عدته الحكائية، ويعدل أدواته السردية كمتمرس بعلم السرديات، عارف مدرك خباياه وأسراره، أعمد إلى تقديم ورقتي – هاته – مع ما قد يشوبها من قصور، ويتخللها من تجاوز، آملا في أن أساهم ولو بقسط يسير في إضاءة جوانب خفية مستترة، يحويها هذا المتن، محفزا الدارسين والنقاد ليعنوا بأدب الهامش، أدب الجرأة والبوح والإعتراف، بل والإنصاف في التعريف بشخصية الهامش من جانب واقعها، طبائعها، ميولاتها، أدوارها، وكذا رؤاها وإكراهاتها، لعل هذا الحيز من الوطن المناضل الأبي ينال ما يستحق من عناية واهتمام.
رواية ( نحيب الأزقة ) -1- هي العمل الثاني للروائي: عبد الإله حبيبي، بعد روايته الأولى : (بيوس طفل الحكمة والطقوس) مما اطلعت عليه بكثير من الإثارة والتأثر، فمند الوهلة الأولى ينتصب العنوان كلازمة من لوازم البناء، وخاصية من خصائص التأليف، فهو من العلامات، والمشيرات الدالة التي تعين في كشف دلالات النص ومرامي مؤلفه. وهو أيضا عتبة أساسية لولوج دواخله، وتناول عناصر كتابته بالدرس والتحليل.
إننا أمام مركب إضافي ينتج ولا شك أبلغ معنى متصل بموضوع القصة ككل، بفضل بنيته المجازية المؤسسة والهادفة، والمثيرة وهي منتجة وخالقة الصورة الشعرية الخاصة، ما يجعلنا أمام بلاغة تمتح من إنجازات النثر الفني القديم في: المقامة، الرسالة، السيرة، والمناظرات، بمثل ما كتب وألف بديع الزمان الهمداني، أبو حيان التوحيدي، الزمخشري، المويلحي والشدياق وغيرهم في الصياغة والأسلوب.
يحتل ” نحيب الأزقة ” موقع الابتداء، الذي ظل في حاجة إلى خبر مفرد أو جملة يكمل المعنى ويتمه، على حد قول الناظم: ” الخبر: الجزء المتم الفائدة //// كالله بر، والأيادي شاهدة “
وهو ما بقي مبهما مستترا في ثنايا المتن الحكائي متداخلا كل التداخل مع الخطاب السردي، في أثناء تنظيم مكونات وهياكل هذا النص، فإسناد فعل النحيب – في حفل إنزياحي مهيب – إلى مجال مكاني محدد ( الأزقة) ينبئ بالكثير، ويكاد يكسر أفق إنتظار القارئ، كما بناه ونظر له نقاد ” نظرية ” أو ” جمالية التلقي ” الألمان وبخاصة ( هانز روبرت ياوس )، و ( وولف كانك إيزر ).
هنا تبدو حنكة المبدع في إحكام سيطرته على القارئ، بالقدر الذي يوجه به كافة اهتماماته، ويتحكم في إيقاع تفاعله، ليخلق لديه أكبر قدر من الإثارة والتشويق، فبعد حصر دائرة المتابعة في التركيزعلى شخصية بيوس، وترقب وقائع محددة لمساره الحكائي في الرواية الأولى ” بيوس، طفل الحكمة والطقوس “، سينتظر المتتبع ويتخيل توجها مختلفا عمَّا ألفه من لدن السارد المتحكم في خيوط الحبكة والمنظم لعلاقاتها، خصوصا بالرواية مثار القراءة والتحليل، على أن ما رسمه هذا الكائن الورقي من ملامح بطل إشكالي بالمفهوم الذي نحته الناقد (جورح لوكاتش) ، وهو ينظر للرواية ك: ” ملحمة بورجوازية “، وطوره بعده رائد البنيوية التكوينية (لوسيان كولدمان) سرعان ما يتعمق ، ويعلن عن المزيد من الإشارات والعلامات المفضية إلى تأزيم وضع البطل باعتباره شابا طموحا، يصطدم بإكراهات الواقع، وطموحات النفس، وتطلعات الأنا الحالمة الرافضة لكل عرف وتقليد، والثائرة على الوضع والباحثة في علل تأزمه ومسبباتها، ” لن ينعم بيّوس بالسعادة التي ألف غشاوتها الناعمة وهو يدب كائنا مسالما على حواشي الماء المتدفق إكسيرا شافيا، رحيما، حاميا، محتضنا كل الأطفال الذين سئموا أجواء السلخ والجلد…لن يزوره نسيم الطمأنينة منذ أن ألقت به أسرته المهاجرة في بطن هذه الشاحنة….” (2).
تتقدم القصة إذن وتعلن عن زمن الحكاية، الذي ” يرتبط بالضرورة بالترتيب الخطي والتوالي المنطقي لأحداث الحكاية.” (3) ما استغرق مدة أو فترة تواجد ومكوث البطل وأسرته بمدينة خنيفرة، بعد الوصول إليها نازحة من مدينة أو قرية مريرت، زمن يكاد يكون طويلا بوتيرة واحدة موحدة، تخص المعاناة والألم، من دخول هذا الفضاء إلى لحظة حصول(بيوس) على البكالوريا، وهو الأمر الذي أعلن عنه المتن ص: (82)، إذ حدد القاص ظرفا خاصا مثلته حقبة السبعينيات.
يظهر للقارئ وهو يتابع الأطوار والوقائع وقوفه أمام عبقرية كاتب فذ، صار بمقدوره تطويع النسيج القصصي بما يمكنه من تعليل الحالة، وتفسير السلوك، ليبرز بما لا يدع مجالا للشك تمكنه الواعي والمؤسس من أدوات تحليل الظاهرة الإجتماعية في ما يتصل بالموضوع والمنهج والمفاهيم، وكذا تشبعه بكل ما تحيل عليه، وتتطلبه هذه العملية من معرفة عميقة بثوابت المادية الجدلية وملابساتها، وإدراك مؤسس بقوانين الجدل وشروطه، وكأننا بصيغة من الصيغ أمام مقولات ترى في الأدب بنية ذهنية تعكس بنية إجتماعية، لا تني تمور بصور من الصراع الطبقي.
لا غرو في أن إبلاغ تيمة الحرمان مبلغها بدرجة تحيل على شدة الألم وتوغله بالذات الكلمى، حتى إذا استبدت ب” بيوس “، و حبيبي- المحلل – يستكين لما يسميه الناقد الفرنسي (جون بيلمان نويل ): ” التحويل الذاتي “، عندما تمتد مصاحبته لمريضه إلى خارج قاعة العلاج – (4) ، جعلت الإعتقاد يتوطد بكون الجو الرومانسي سيغلب وينتصر على ما سواه، وبالمنحى نفسه مما وفرته مؤلفات ( فكتورهوكو)، (مدام دوستال)، (شاتوبريان)، ( لامارتين)، (المنفلوطي)، (جبران)، (نعيمة )، (مطران)، ( الجاي) وو.
والحال أن هذا الظن سرعان ما تلاشى بفضل حنكة الكاتب وتمرسه، ليتجه رأسا نحو مساءلة الواقع المرير المعيش، وبحث تجليات مرارته، وإفرازات قساوته بالمدينة الأمازيغية الصامدة، من هنا يتخطى المبدع كذلك أصول الواقعية الطبيعية المتأثرة بمفهوم ” الإنعكاس “، كما أشر عليها( إميل زولا )، ومن سار في دربه، ليعانق أجواء واقعية رمزية، تمتح من إنجازات ( كوستاف فلوبير )، (هنري دي بلزاك)، ( نجيب محفوظ)، وو، فيدخلنا ما يعيشه، ويحياه الرمز: ” بيوس “، حين يقاوم، يناضل، يصارع ص: (179)، فهو الفتى الآتي من القرية القريبة مريرت – آنذاك – يقتحم أجواء النضال والتحدي و الدراسة والتعبئة والصراع والتعلم،،،والتأثر بالفقيه، وبالمسيحي، بالمناضل بالمقاوم، بالإشتراكي الشيوعي المدرس،،،. لتتشعب منابع بناء شخصيته، ويتأسس إدراكه، ويتفتق وعيه، فيسعى لامتلاك ” رؤيا للعالم بالمفهوم الكولدماني، ويصير القائد لأقرانه، والمؤطر لزملائه خلال فترة الدراسة الثانوية، والموجه في أسرته مع أخته وأمه، والمثقف العضوي في مجتمعه الخنيفري،، يحمل مشروعا مجتمعيا بديلا يبشر به ويدافع عنه بكل ما أوتي من قوة وحزم ص: ( 94 – 95 ) و(100 -101 -106 ..).
إن النقد الموضوعاتي مؤسسا له بفلسفة باشلار، آخذا مستفيدا من تصورات الناقد الفرنسي (جون بيير رشار)، ليفيدنا في هذا المقام لإثارة بعض ما يحبل به النص من تيمات وموضوعات، ظلت تمتح من مجموع الإرث الحضاري، والأنتروبولوجي، والسياسي للمدينة، ومن المخزون الثقافي والاجتماعي لأهل هذا المكان، إذ تمثل في الرواية ك ” فضاء جمالي مهمته تجسيد رؤى الكاتب وشخصياته، ومن خلال بنية المكان يمكن الاعتماد على خطاب التعرية والإدانة لكل مواصفات الأوضاع السياسية والثقافية والاقتصادية ” (5) كالعادات واللباس ص: ( 110)، وطقوس الشعودة وإخراج الجن من جسم تيتريت ص: (68)، والحضرة والموسيقى الأهازيج تماوايت والغناء الشعبي ص: (185)، الأسطورة ص: (145)، الثقافة الجنسية (144) الخيانة الزوجية ص: ( 144).
إلى جانب كل ذلك وغيره نلفي التضحية بكل صورها ومعانيها منبثقة من وجدان وطبع، بل وتربية الكثيرين، ومنهم أب البطل، والذين آلوا على أنفسهم درء كل منفعة تأتيهم ملغومة، موسومة بوسام التقدير الكاذب المزيف، في مقابل الانتهازية كمنهج اتبع سبله من انتهزوا الفرص وتسلقوا الهرم الاجتماعي، ليسوغوا لأنفسهم التربع على المناصب والتهام المغانم، ويدوموا في النعيم، نعيم السلطة، والجاه والمكانة ص: ( 127- 128..)
في حين تقف تيمة الجسد توضح كيفية التعامل مع الأنثى، أوالمرأة عموما، لتؤثث فضاء عديد مقاطع المتن ومتوالياته السردية، ومن تم لا يستقر التناول على قاعدة ولا يأخذ بمبدإ قار ثابت في آن، فهناك التقدير للمرأة الأمازيغية ولدورها في المقاومة وتحرير مناطق شاسعة من أرض الوطن دون تجاوز موقع الأم، التي ما فتئت تبذل كل ما أمكنها الحال والمقام في سبيل تربية الإبن بيوس والأخت تتريت، في مقابل الصبر والتجاوز والصفح عما ألحقه بها الزوج من أذى ومكروه، بعمد أو بغيره ص: ( 11- 12..) وهناك أيضا الاستغلال الجنسي، وبالمنطق الأيروسي في التعاطي مع الحوزية، نعيمة، مسعودة ص: (112) (131-132-133-134..)، كما الوفاء والتعلق الطاهر بعبوش ص: (126 – 127- 128… )، والحب العذري لشخص شادية ص: ( 181- 200 -201- 208- 209…).
لم يقف المؤلف عند استحضار التيمات الرئيسة لبناء نصه هذا، بل ناجزأخرى، وأقتحم عوالم مغايرة، وأضاف إليها الفلسفة، أو التفلسف كممارسة وعلم وفن وتقنية، تروم التأمل وتحليل قضايا، وقراءة ظواهر في كل أبعادها وملابساتها، وبحث الأجوبة عما يعيشه الفرد والمواطن، ومنه إلى الإنسان عامة، من إشكالات وجودية، إنسانية، فكرية، واقعية، وأزمات دينية، إجتماعية، أخلاقية بفضل تعلق بيوس بهذا المبحث والحقل المعرفي وانصرافه إلى تعميق مداركه في هذا الباب وانخراطه في دراسته بدء من المرحلة الثانوية ، ورغبته في مواصلة البحث والتنقيب في هذا العلم من خلال إختياره دراسته بتعليمه الجامعي المقبل، ما يتيح له التعمق في ما يوفر من إمكانيات التدبر والتمحيص، فيمتلك بالتالي ما يلزم من أدوات الحجاج والبرهنة والإستدلال في بناء الأفكار وتشكيل الأوعاء المختلفة، وترسيخ القيم وتعمق النظريات وتفسيرها بما تتطلبه من فهم وإدراك مؤسس ص: ( 180 -181 201 -202…).
من جهة أخرى يكاد القاص في هذه التجربة الفريدة يحملنا على خبايا عميقة من الصراع الدرامي، والذي يشكل أهم تقنية من تقنيات أبي الفنون ( المسرح )، إذ كرع يشغل أدواته الخاصة ويفعل تمظهراتها الضرورية خدمة لمظهر الحرمان، وموضوع الاستغلال كصورة، ظلت المدينة ( خنيفرة ) تشكو تسلطها، بحيث تعيش تحت وطأتها الطبقات الشعبية البسيطة المقهورة والمهزومة والمهمشة في آن.
لقد وفر شغف حبيبي بمؤلفات كبار الكتاب والمفكرين، قديمهم وحديثهم، ومنهم فلاسفة اليونان، ومنهم أرسطو في قوله ب ” التطهير “، الذي تنشد تحقيقه التراجيديا في نفوس المتتبعين والمتفرجين، بعد أن تحدث في نفوسهم ما يكفي من عاطفتي: الشفقة والخوف، إمكانيات لتناول هذا الفن من زاوية ما بثه فعل التشخيص والتمثيل في دواخل الفتاة تتريث، حتى تخلصت من نوباتها المتكررة وشفيت من مرضها النفسي الذي ظل مستعصيا حتى على الفقهاء ولزمن طويل ص: (232).
كذلك أحدث لديه التعلق القوي بفن الرواية العالمية فرصة كبيرة لقراءة كتابات أكبر الروائيين بالعالم وأشهرهم، كدويستوفسكي، فلوبير، موباسان، بروست، ماركيز،ووو، جعلته يتمثل معطياتها وهو بصدد إنجاز مشروعه السردي، ولعل تأثره ببصمات كتاب الرواية الجديدة في هذا الصدد بفرنسا خصوصا، أمثال: جون بويون، ألن روب كريي، ناتالي ساروت، دفعت به إلى أن يحيد عن المنطق الحكائي التقليدي المتوارث، بالفصل: ” تيثريت تبعث على خشبة المسرح “، فينحو منحى أهله ليمزج جنس الرواية بفن المسرح ” مسرواية ” .
هذا ما نستشعره ونحن نقرأ صفحات هذا الفصل، وحيث تنجلي نصوص مسرحية: كنص ( قبر الحضارة السمراء ) لكاتبه ومؤلفه: الأستاذ عبد المجيد مدرس مادة الاجتماعيات بثانوية: أبي القاسم الزياني. وما حوته هذه الأشكال الفنية من مواويل، يقول ( قنديل ) الشخصية المسرحية: ” المسرح ما فيه عيب، ما فيه عيب ولا لومة، المسرح والدرب طويل، والدرب طويل أحلومة ” ص: ( 205).
بعد هذه الإشارات البسيطة، والملاحظات المتواضعة، نؤكد على أن ما تطرقنا إليه في هذه المحاولة، لا يعدو كونه قراءة حادت بدرجة أو بأخرى عن قوانين المنهج النقدي ذي الخلفية الفلسفية عموما، مما هو معروف ومتداول لدى النقاد والدارسين ( المنهج النفسي، التاريخي، الإجتماعي، البنيوي، البنيوي التكويني، ووو )، وجنحت نحو إثارة الانتباه إلى طبيعة نص لا يني يحيل على رهانات شتى مختلفة، مؤتلفة، ظلت تسعى إلى تقديم فهم، وتصحيح تمثلات، تخص واقع خنيفرة إبان السبعينيات، لتتأتى بادرة تفسير تجلياته لدى كل الفئات الإجتماعية محليا ووطنيا.
لعل الذاكرة تحفظ الحدث وتحافظ على وقائعه، وتستدعي صوره وآثاره، في الوجدان كما المخيلة، بما يفيد الناشئة في بناء الذات الواعي بعمق هويتها، وتجدر أصالتها، وتثبيت إنتمائها إلى وطن تفاعل مع مواطنيه، وتفاعلوا معه، سلبا وإيحابا.
هكذا تشهد ( نحيب الأزقة ) على عبقرية قاص، صار بمقدوره تطويع النسيج القصصي، بما يمكنه من تعليل الحالة، وتوضيح السلوك، وتسويغ الموقف. فهو مدرس الفلسفة، ومؤطرها التربوي.
—————
1: عبد الإله حبيبي: نحيب الأزقة – مطبعة النجاح الجديدة – البيضاء. الطبعة الأولى: (2016)
2: عبد الإله حبيبي: نحيب الأزقة – ( م . س ) – ص: ( 7- 8 ).
3: مرسل فالح العجمي: الواقع والمتخيل أبحاث في السرد تنظيرا وتطبيقا- مجلة: نوافد المعرفة. /عالم المعرفة- ع: 418. نونبر 2014- ص:( 38).
4: جون بيلمان نويل: التحليل النفسي والأدب – ترجمة د حسن المودن- دار كنوز المعرفة – الأردن – ط (1)- ( 2018) – ص: (13).
5: محمد عبد الرحمان يونس: الجنس – الإيديولوجيا – الفضاء الروائي في الرواية اليمنية المعاصرة- مقاربات- العدد:17- المجلد:09 – 2014- ص:(28).
* قاص وناقد من المغرب