يحتل الروائي الجزائري بشير مفتي موقعاً متميزا في المشهد السردي العربي. وصلت روايته “دمية النار” العام 2012، للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية للرواية، شارك في تجربة الكتابة الجماعية في كتابي”القارئ المثالي” و”الجزائر معبر الضوء”، ناشر ويتولى مسئولية إدارة منشورات الاختلاف، صدر له حديثا روايته التاسعة “غرفة الذكريات”، وحول مفهومه لمصطلح الرواية قال:هل يمكن تعريف الرواية ذلك التعريف الجامع المانع كما يقول أهل المنطق صراحة لا أدري. بالنسبة لي الرواية روايات وليست رواية واحدة، أو شكلا روائيا واحدا. لأنك عندما تقرأ روايات كثيرة تفهم أنه لا علاقة للرواية بالحجم الطويل مثلا توجد روايات قصيرة فذة للغاية “المسخّ” لكافكا، أو “النفق” لساباتو وروايات طويلة فذة للغاية “الحرب والسلم” لتولستوي أو “الاخوة كرامازوف” لدوستويفسكي أو “البحث عن الزمن الضائع” لبروست. ولكن ربما الذي يوحد معظم الروايات على ما أظن هو أنها تحكي حكاية ولا تعني الحكاية قصة لها بداية وعقدة ونهاية فقط، بل حكاية حياة، أو ذات، أو جسد، أو فكرة، وهي حكاية لحظة مفتوحة على زمن قصير أو طويل وفيها يمكن أن تكتب كل شيء سيرة الآخرين، سيرتك الشخصية الحقيقية أو المتخيلة، سيرة المجتمع، سيرة الرموز. الرواية عالم مفتوح على التعدد ومن الصعب القول هي هذا وليس ذاك، هي هذه الصورة وليست تلك الصورة، هي هذا الشكل وليس ذلك الشكل، والروائي يجرب ويحاول بحثا عن شكله الروائي الخاص به، لحنه المميز الذي يجعله مختلفا عن غيره. وقد يجده وقد لا يجده، البعض لا يجده فيظل يكرر/يقتبس من غيره أو يحتذي كل مرة بنموذج ناجح. وهنالك من همه الأساسي أن يصل إلى تلك النوتة الموسيقية التي تميزه سواء من حيث الأسلوب أو الرؤية.
الرواية والشك
بما أن الرواية العربية اليوم تشهد تحولات كثيرة، الثورات العربية، التطور التقني الهائل، العدد الكبير من اللاجئين العرب، القارئ المتعجل، فكان سؤالي للروائي بشير مفتي هل الرواية متصالحة مع عالمنا المعاصر؟ فكان رده: “لا أتصور الرواية تتصالح مع عصرها الذي تعيش فيه، بل وخاصة مع عصرها ربما تتسامح مع الماضي قليلا لأنها ستحاول رغم كل شيء أن تنظر له من مسافة زمنية تجعل الروائي إلى حد ما موضوعيا أو على الأقل قارئ لمرحلة زمنية قراءة محددة وإن كان معظم الروائيين عندما يذهبون إلى التاريخ بغاية تصفية حسابهم مع ما يُسكت عنه، ويتم إهماله أو نسيانه، أما مع عصرها فهي في جدل مستمر، أو تناقض حاد أو صراع لا يهدأ، بل يظل متوترا غاية التوتر لأن المسافة قريبة، ولأن الروائي هو في صميم البحث عن قيمة أو معنى في زمن تنهار فيه أشياء/معاني/ قيّم كثيرة”، ويضيف: العصر العربي اليوم قلق ومتجهم الملامح، مخيف وعبوس، فيه عنف داخلي وخارجي، لأن القديم لم يستسلم بعد، والماضي لم يمضي، ولم يعلن الحاضر عن وجهه المشرق المنتظر منه، أما المستقبل فجد غامض.. فأعتقد أن الرواية العربية تعيش مرحلة الشك والتساؤلات في مقاربتها لهذا الواقع البركاني المتفجر بالمخاوف والأسئلة.
منذ سنوات قلت لم نعد نستطيع متابعة كل ما يكتب اليوم عربيا فلقد صار لكل قطر عربي عدد كبير من الروائيين المكرسين والمتميزين والكثير من الأصوات الجديدة التي تبحث لها عن مكانة في مشهد يتسع للجميع ولكنه لا يبرز بالقدر الكافي كل المواهب. أي صعب جدا تقييم الرواية العربية خاصة وأن كل روائي يشتغل على مواضيعه الخاصة التي تمسه هو بالدرجة الأولى أو ترتبط ببيئته الصغرى أكثر من الكبرى (العالم العربي).
في رواياته هناك عدد كبير من الأسئلة وشخصيات لا تتوقف عن اسئلتها، هناك شخصيات انهزامية ولكنها مقاومة للواقع. فعلق الروائي بشير مفتي بالقول: “في معظم رواياتي استعملت شخصية الكاتب الذي يجد نفسه في موقع الشاهد من جهة والمتهم من طرف المجتمع/ السلطة من جهة أخرى وهذا لا يعني أنه بريء من الانهزامية لكن بما أنه كاتب فهو حتما يطرح اسئلة مزعجة ويواجه تابوهات كثيرة الدين/ الجنس/ السياسة وكأنه في حرب مع الجميع إذ أنه يشكك في المؤسسة الرسمية وخطاباتها اليقينية وببساطة هو يدرك أنه في معركة خاسرة مسبقا لكن هذا دوره أن يفتح الطريق للآخرين نحو ما يراه طريقا مختلفا. أما الشخصيات الأخرى فهي متنوعة ومتعددة وتحمل معها حكايتها وجراحها وأحلامها أي ببساطة لا يمكن تنميط الجميع في الانهزامية هنالك من يذهب إلى أقصى أحلامه وينتصر وهنالك من يسقط في منتصف الطريق وهنالك من يظل يبحث دون أن يصل إلى مبتغاه.
بشخصية رضا شاوش في رواية “دمية النار” ثمة بعد فلسفي، هل أصبحت الرواية اليوم تأملات في الفلسفة والفن والعقائد أكثر منها سردية روائية؟ فقال الروائي بشير مفتي: “الرواية كما أخبرتك سابقا هي حكاية وماذا يحدث في تلك الحكاية أشياء كثيرة لا يمكن تحديدها أو تصنيفها لكن صحيح رواية “دمية النار” تتناول مسألة فلسفية هي ما الذي يدفعنا إلى أن نختار هذا الطريق ونحن نعرف أنه طريق سيء؟ هل هي البيئة التي نعيش فيها “والد رضا شاوش السجان هل كان له دور في ذلك؟” هل نستطيع أن نقاوم حتميات الواقع الذي نعيش فيه؟ ولكن كل الأسئلة تطرح ضمنيا وليس بشكل مباشر فالقارئ هو الذي سيسأل لماذا اختار رضا شاوش هذا الطريق المظلم حتى صار مجرما وسيئا ومشاركا في جريمة اغتيال بلده؟ هل هي قصة حبه الفاشلة مع “رندة مسعودي” ولكن هل الفشل في الحب يدفعنا إلى أن نتحول؟ ما أعجبني حقا ان اقنع القراء أن هذه الشخصية حقيقية وموجودة في الواقع مع أنني تخيلتها ولم استلهمها من شخصية قريبة أو بعيدة. وهذا يعني أنني أوصلت الفكرة أو جسدتها روائيا لأن أهمية الرواية أن تخلق هذا اللبس في القارئ بين الحقيقي والخيالي بين الحلم والواقع”.
في رواية “أشباح المدينة المقتولة” طرحت موضوعة العشرية السوداء المؤلمة في تاريخ الجزائر كيف استطاع بشير مفتي الإمساك بالقارئ طوال الرواية ليتفاجأ في النهاية بصدمة موت الشخصيات؟ فكان رده: “لقد سردت الرواية من خلال مجموعة من الشخصيات التي سيجمعها الموت في آخر المطاف موت تراجيدي في انفجار ارهابي وقع في واحد من أهم شوارع العاصمة. عندما وقع ذلك الحادث الارهابي كنت طالبا في الجامعة وكنت قريبا من المكان وسمعت دويّ الانفجار وشاهدت صور الانفجار والجثث على شاشة التلفزيون لقد أثر فيّ هذا الحادث كثيرا وكان بداية العمليات الارهابية ضد المواطنين في ذلك الوقت. لم أتصور أنني سأكتب عنه يوما ولكن عاد فجأة منذ سنتين وبدأت قصته تنكتب في ذهني وأنا أتخيل حكايات من قتلوا في ذلك الحادث”، وأضاف: سردت الحكايات المختلفة من خلال تعدد الرواة، وحتى حكاية الارهابي الذي فجر نفسه. أغلب من قرأ الرواية قال لي أنها تصلح لتكون فيلما سينمائيا، في الحقيقة لم أفكر في هذا ولكن اعتمدت كثيرا على التقنية السينمائية ووضعت شخصية مخرج عاد من الدراسة في أوروبا لينجز بعض الأفلام عن بلده فيصطدم بالواقع البيروقراطي وتنتهي حياته في ذلك اليوم.
فراق مؤلم
عزيز مالك في رواية “غرفة الذكريات” يبحث عن وطن في الظلام. ما هي ملامح الوطن الذي يشتهي بشير مفتي؟
ـ “غرفة الذكريات هي حكاية مجموعة من الكتاب/الشعراء الذين كانوا يلتقون قبل انفجار أحداث العنف في الجزائر عام 1990 تسرد نقاشاتهم، قلقهم، مخاوفهم، قصص حبهم، جنونهم، وإحساسهم التراجيدي بالواقع الذي يعيشون فيه. انها حكاية جيل ضحي به في فترة السواد العظيم. يربطها سرد شخص أنقذه الحظ فقط من القتل وبقي يقتات على تلك الذكريات وهو يسردها من الحاضر متوجعا ولكن متأملا ومتسائلا كيف حدث ذلك؟ ولماذا حدث؟ لا أدري ما هو الوطن المشتهى ربما هو وطني الوحيد الذي أعشقه وهو الكتابة لكن في الواقع الوطن صارت الفكرة تتضبب وتغيب وتؤلم أكثر”.
رواية “غرفة الذكريات” تقدم مرحلة من تاريخ الجزائر المعاصر. هل بشير مفتي يؤرخ للجيل الذي فقد أحلامه في دروب الجزائر المظلمة؟ فقال: “صراحة لا أعلم لماذا أستمر في الكتابة عن هذه المرحلة التي طويت صفحتها عند أغلب الكتاب الروائيين الجزائريين بسرعة بعد ما سمي “المُصالحة الوطنية” والتي اوقفت سيلان الدم وأعلنت انتهاء مرحلة الحرب الأهلية رغم أن العنف استمر بأشكال وصور مختلفة ورغم أننا نعاني من مخلفاتها خاصة وأنها حرب انتهت بلا رابح أو خاسر، يعني لم تفتح تحقيقات ولم يحاسب فيها أي طرف، ولم نعرف بالضبط ماذا حدث تماما؟ ومن عليه تحمل مسؤولية كل تلك الدماء التي سالت. وكل تلك الحيّوات التي ضاعت وتألمت وفقدت بهجة الحياة ربما إلى الابد”، ويضيف: أعتقد أنني أقوم بعملية تطهير أو شيء من هذا القبيل أحاول عبرها أن أتحدث عن ذلك الجرح بكل شفافية وصدق وأحاول رغم ذلك أن يكون هذا الحديث روائيا أي لا أتنازل عن الشرط الروائي الفني الجمالي وأعتقد أن “التراجيديا” تمنح الكاتب فرصة كي يغامر في البحث عن معنى ما حتى في قلب “الشر الإنساني”. وصلت إلى فكرة أنني عندما أكتب عن مرحلة العنف فكأنما أفكر في مسألة “الشر” لماذا الخير حلما نتمناه وليس واقعا نعيشه؟
وعن الطقوس التي يمارسها بشير مفتي أثناء الكتابة قال: “شخصيا أكتب في كل مكان لا يزعجني ذلك، ومرات اضع موسيقى كلاسيكية، ومرات لا أضع شيئا يمكنني أن أجلس على طاولة في مقهى وأكمل روايتي أو في غرفة بيتي أو في أي مكان. لا اهتم بمن حولي عندما أكتب فأنا أندغم بشكل كلي في عملي الروائي. لا أدري كم أدخن من سيجارة. البعض يقول لي هذا خطير على صحتك. أرد: اعرف. لكن لا أدري متى سأتوقف. اشرب القهوة كثيرا. وأحتاج أثناء فترة الكتابة أن أخرج وأتجول لوحدي أتكلم مع نفسي كالمجنون أقصد أتكلم مع شخصياتي وأنا احسها قريبة جدا مني حتى تصبح كأنها صداقات عميقة لهذا أحيانا أحزن على فراقها أقول هذا مؤلم لكن بما أن البشر محكوم عليهم بالموت فلا مفر من ذلك في الرواية.