الرصيف: كوزموبوليتان العالم

mohammed Al fakharany
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد الفخرانى

أحد أكثر أماكن العالم كوزموبوليتان.

كَمْ أَنْقَذَ حيوات، وكم أَسْعَدَ حيوات، لكنها ليست مُهمّته الأصلية.

ليس أكثر من خطوة ترتفع عن الشارع، خطوة إلى عالَمٍ له عالَمه وينفتح على كل عالَم.

مساحة للتسكُّع والفُرْجة والمُواعَدَة والتماهي مع الكلّ والتوحُّد مع النَّفْس والمَشَاع والخصوصية ومَلْعب وسوق ومطعم وسينما ومقهى ومكتبة وكشك ورد وشخصيات غرائبية ولحظات مدهشة ومكان للإنقاذ والنوم والسهر والتعارف والمفاجأة والصُّدْفة.

لن يتحارب أحد ليقول “هذا الرصيف لي”، هو حُرٌّ من الجميع وفي الوقت نفسه مع الجميع، مع كل شخص بمفرده، وليس ملكًا لأحد.

يمكنهم أن يطردوك من كل مكان، ينزعوا منك كل شيء، لكن ليس الرصيف، سنجد لنا مكانًا على الرصيف، أحد أكثر الأماكن صُحبة وصداقة، ولا يخذلنا أبدًا.

صباح باكر ومقهى مغسول قبل دقائق ومقعد على الرصيف وفنجان قهوة.

تمشي على الرصيف وسط الجميع، لكن هناك حفلة بداخلك تخصُّك، يمكن أن تكون حفلة فرحٍ أو حزن، أو حفلة التخلُّص من كل الحفلات، هذا المكان غير الواسع، الرصيف، لا يضيق أبدًا، ويمكنه أن يصنع ممرّات داخلية لكل شخص، حتى عندما تصطدم كتفك بالمارة ستبقى داخل رصيفك الخاص، مع عالمك الداخلي وحريتك وألوانك وإيقاعك وأجنحتك وهدوئك وضجيجك وزحامك وبَراحك.

كل هذا التَنَوُّع في الوجوه على الرصيف، وجوهٌ تَمُرُّ متجاورة، وبهذا القُرْب يمكنك أن تلمس يدًا عابرة دون قَصْد، تشمّ رائحة المارّة دون قصد، أو تعرف لون أعينهم، ويعرفون لون عينيك، يمكن أن تتماسّ أرواحكم للحظة أو تكاد، و”تكاد” هذه تكون أحيانًا أكثر عمقًا وتأثيرًا من التماسّ نفسه.

كم مرَّة ترى شخصًا يقفز إلى الرصيف فيشعر بالأمان، فقط لأنه وضَعَ قدمه على الرصيف، كأنما تمّ إنقاذه، ليست إلّا خطوة، وليس بيتًا أو مكانًا مغلقًا، إنما، يا للعجب، قفَزَ إلى.. ربما أكثر مكان متاح  في العالم، أكثر مكان مكشوف، مع ذلك هو نفسه مكان إنقاذ وحماية وأمان، لكنها ليست مُهمّته الأصليّة.

أحدنا، ودون أن يلاحظ قد يظلُّ لسنوات يمشي في كل مرَّة على الرصيف نفسه من شارعٍ ما، ولا يُجرِّب الرصيف المقابل، هل فكَّرْتَ كم مرَّة ناداك الرصيف المُقابِل لتُجَرِّبه؟

على الرصيف من السهل أن نتبادل الكلام والطعام والابتسام وحتى الصراخ، يبدو الجميع وكأنهم يعرفون لغة بعضهم بعضًا مع أنهم من أماكن مختلفة حول العالم، وهذه التعاملات العابرة أثناء مرورٍ عابر كأنها صداقات استثنائية، على الرصيف تشعر وكأنك رأيت كل هؤلاء العابرين قبل اللحظة، كأنهم أصدقاء قُدامَى أو من حياة أخرى، أو أصدقاء جُدُد من هذه الحياة، لم لا؟ هنا على الرصيف، العالم كله فى حالة صداقة معك، أنت في صداقة معه.

الرصيف يتكلم كل لغات العالم.

جَرِّبها مرَّة ولن تنساها: “تقعد على حافة الرصيف وقدميك في الشارع”، عندها ترى العالم من نقطة “الانسياب”، تراه بسيطًا وسهلًا ومُنْسابًا، تقعد على حافة الرصيف وقدميك في بحر الشارع فينساب شريط العالم أمام عينيك دون أن تخدشه أو يخدشك، تبتسم له بهذه الخفّة، كل شيء خفيف ومُنْساب.

في القَعْدَة على حافة الرصيف ليس هناك وجَع أو فَرح، فقط راحة الفراغ من كل شيء، راحة الانسياب، روحك بالها مرتاح، تشعر بتنهيدةِ روحك وخِفَّتها، تُغمض عينيك، وتُغمض روحك عينيها، أنتما معًا في مكان أبعد حتى من راحة البال.

أن تُصادِف طائرًا يلتقط حبوبًا من الرصيف، تأتيك ضحكة حلوة من مقهى قريب أو ممرّ جانبي، ريشة تحوم في الهواء، وجه مانيكان خلف ﭭاترينة، فَرْشَة كتب، رائحة لطيفة من مكانٍ ما، أن تهبط على رأسك ورقة شجر، أو حَبّة نَبْق، أو زهرة جهنميّة، أو قصة حُرّة.

ليل ومقعد على الرصيف وفنجان قهوة وأغنية قديمة من راديو المقهى.

الرصيف أسلوبٌ خاص كي نضيع ونتوه، ذلك الضياع والتوهان الجميل، يمكننا به أيضًا أن نصل لو أردنا، معه ننساب داخلنا وفي العالم، يمكننا به أن نعثر على أنفسنا، أو نُبعثرنا.

يظَلُّ حاضرًا لأجل العابرين والساهرين والمُتشرّدين والمشّاءين والمتسكّعين والمُنْسابين، ولأجل نفسه يظَلُّ الرصيف حاضرًا.

مَهْما كان حجم الرصيف، يمكنه أن يستوعب أيّ عدد من المارة دون حاجة منه لاستعمال ألاعيب أو خداع، لأنّ من طبيعته الاستيعاب، تُصادِف أشخاصًا يحتمون بالرصيف من شيء ما، أو فقط يتجمّعون فيه، أو يتسكّعون، فيمتلئ بهم، ثم تأتي مجموعة أخرى فيجدون لهم مكانًا، ويمتلئ بهم، وتأتي مجموعة أخرى فيستوعبهم من جديد، وهكذا.. الرصيف لديه مُتَّسَع دومًا، يستوعب، ينفتح أكثر وأكثر، لا يُغلِق، ولا يُغلَق، لكنها ليست مُهمّته الأصلية.

أتوقَّع أن أحد المتسكِّعين الكبار هو أول مَن فكَّرَ في ابتكار الرصيف، أتوقَّع أيضًا أنّ الرصيف موجودٌ من البداية دون حاجةٍ لابتكارٍ من أحد، الممرّات داخل الغابات والصحارى أو في المساحات المفتوحة بلا خريطة أو علامة، والممرّات تحت الأرض، والتي تصعد الجبال، كلها رصيف بطريقة ما.

الرصيف شريط حُرّ، مستقل بذاته، يتسكَّع في العالم بانسيابية، من دون شروط مثلما يليق بمتسكِّع حقيقي.

التسكُّع، المُهمّة الأصلية للرصيف، وكلمة “المُهمّة” هنا تعني الشيء الأكثر أهمية، حُبًّا وشغفًا.

مقالات من نفس القسم