الرسالة الضائعة

عبد الرحمن أقريش
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش
الزمان، ما بين 1224م/1230م.
المكان، بلدة (سافونا) الإيطالية.

بلدة (سافونا) هي أصلي وموطني، هنا تنفست نسمة الحياة وأطلقت صرختي الأولى، بلدة جميلة وهادئة تنغرس جدورها بين أحضان الجبال، وتنفتح أطرافها على سواحل (الريفييرا) غير بعيد عن الحدود مع فرنسا…

الطبيعة والمناخ والهدوء وأطياف طفولة هنية وسعيدة، هي بعض من أشياء تشدني إلى هذه البلدة الحالمة.
منذ البداية قررت أن يكون الأمر سرا أحتفظ به لنفسي، فأنا لم انخرط في سلك الكنيسة بسبب التقوى أو لورع ديني، كنت بالأحرى مدفوعا بالفضول والطموح والرغبة في النجاح والترقي الاجتماعي، ثم إنني شاب في مقتبل العمر والشباب والتقوى نادرا ما يلتقيان.

كنت طالبا أهيء بحثا لنيل الإجازة في علم اللاهوت المسيحي، اشتغلت لسنوات على شرح (رسالة الثالوث المقدس) ل(بويتيموس)، وهي رسالة ذات نفحة نقدية يريد صاحبها أن يظهر انحراف (دوناتيوس) وتهافت رسالته المليئة بالضلال والتجديف والهرطقات.
كانت نظرات زملائي في الدراسة متشككة وغير مريحة، ففي نظرهم لست مسيحيا مثاليا، لم يكن هذا الأمر يزعجني فهو صحيح بشكل ما، فأنا لم أكن ورعا ولا متزمتا على طريقة الرهبان والكهنة، ولكنني بالمقابل لم أكن متهتكا ولا منفلتا، كنت مسيحيا بطريقتي، ببساطة كنت نسخة من ذاتي، كنت أنا فقط، لا أشبههم ولا يشبهونني.

في الواقع لم أكن مستعدا للتخلي عن حياتي الدنيوية، ولم أخف أبدا إعجابي بهؤلاء المسلمين الذين يعرفون كيف يجمعون بين الإيمان الديني والولع بالعلم، والعناية بالحريم وقضم كعكة الحياة!!
أحببت كتبهم التي نورت بصري وبصيرتي، واكتشفت فيها مفاتيح حكمة عميقة يمتزج فيها الدين والدنيا والخطايا بالألم والأمل وفكرة الغفران.
اشتغلت لسنوات تحت إشراف أستاذي المبجل (ألبتروس الأكبر) الذي كان يخصني بكثير من الحرص والعطف والمشاعر الأبوية، وكنت أقضي معظم الوقت في مكتبة دير (مون كاسان) وهو عبارة عن قلعة معزولة تقع في أعلى نقطة على الجبال المبثوثة في الريف الإيطالي.

كانت مكتبة كبيرة وزاخرة تكاد تكون خرافية، تضم رفوفها روح الرحيق المختوم للمعرفة البشرية، منذ (أفلاطون) و(أرسطو)، ومنذ فاضت العقول عن العقل الأول، مرورا بحكماء الشرق في الهند والصين والفرس، وصولا إلى آباء الكنيسة الكبار، وأخص بالذكر هنا (القديس أوغسطين) الكبير، وانتهاء برموز الفكر الفلسفي في الإسلام، أمثال المعلم الثاني (أبو نصر الفارابي)، وذلك الرجل الاستثنائي الذي قلما يجود الزمان بمثله، وأقصد طبعا الشارح الأكبر لأعمال (أرسطو) الفيلسوف والقاضي والفقيه (أبو الوليد ابن رشد) الأندلسي.

تمر الأيام…
قطعت شوطا كبيرا في عملي الأكاديمي، كنت ممتنا وشاكرا لفضل الله وتوفيقه وغمرتني سعادة عارمة.

ثم ذات يوم حدث أمر عجيب.

وقعت بالصدفة على ما يفترض أنه الرسالة الفلسفية المفقودة للإمام (أبو حامد الغزالي)، وهو أحد أعمدة العقل الديني والفلسفي في الإسلام.

كان مريدوه وتلامذته المتعصبون لفكره يسمونه (حجة الإسلام) في إشارة منهم إلى علمه الواسع ومكانته الروحية المتميزة.
كانت رسالة (المضنون به على غير أهله) مكتوبة بالحرف العربي في نسخة نادرة وعجيبة، تضم شروحا وحواشي وتعاليق باللاتينية والفارسية، افترضت أنها ربما كانت لبعض آباء الكنيسة، الذين وقعت الرسالة بين أيديهم، والذين لديهم ولع وإلمام بتراث العرب والفرس.

كان الأمر واضحا، فهمت منذ البداية أن الرسالة كنز حقيقي، أمضيت أياما وليالي أقرأ وأعيد القراءة، أتأمل وأستكشف المخطوط، كانت الرسالة مليئة بالتفاصيل والإحالات التي تكشف عن تبحر واطلاع لا يضاهى لعلوم المسلمين واهتماماتهم الفكرية في ذلك الزمن، من لغة، وأدب، وفقه، وفلسفة، وعلم الكلام وهو خطاب يمتزج فيه الدين بالفلسفة بشكل عجيب (يقابله في ثقافتنا مصطلح الثيولوجيا).

اعتزلت الناس لشهور واتخذت المكتبة محرابا، كل يوم هو فتح جديد، أشعر وكأن الرجل يخاطبني فأغرق في تفاصيل الرسالة وأكتشفها بالتدريج، اكتشفت أن وراء هدوء العبارة وطمأنينة اللغة يختفي قلق الفكرة، فقد كانت الروح القلقة والمترددة للغزالي واضحة في رسالته فهو القائل (من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والحيرة).


بعد مدة من البحث والتحري قررت أن أستثمر الرسالة في إنجاز بحثي، أخبرت أستاذي المبجل بأمرها وشجعني على ذلك بعد أن نبهني إلى ضرورة التأكيد على المشترك الكوني في الأديان السماوية، وخطوط التماس والحدود حيث تلتقي وتفترق الفلسفة باللاهوت والأساطير وعقائد البشر…
ولكي أشرك القارئ في متعة القراءة والاكتشاف، كتبت توطئة تركيبة لرسالة (الغزالي)، أردتها تقديما وتنويرا للقارئ غير المطلع، مستلهما في حدود المستطاع لغة (الغزالي) وأسلوبه الذي لا يضاهى.

وهذه بعض خطوطها العريضة.
(تسألني أيها الأخ الكريم عن كيمياء السعادة، فاعلم حفظك الله، أن العلم شجرة، والعمل ثمرتها، فلو قرأت العلم مائة سنة، وجمعت ألف ألف كتاب، لا تكون مستعدا ولا مستحقا لرحمة الله تعالى إلا بالعمل…لذلك ينبغي أن تكون منتبها ويقظا على الدوام فالعمل لا يبدأ إلا حيث ينتهي الفكر والتأمل.

فاحرص حفظك الله على سلوك سبيل الحق، واحرص بالخصوص على تطهير سريرتك، فالقلب دخيلة الإنسان حيث يتردد صدى الوحي ويطن الكلام الإلهي…
واعلم أيها الأخ الكريم، أن السعادة لا يمكن أن تكون إلا سلبية، فهي ليست سوى تعليقا مؤقتا للألم، وتوقيفا مؤقتا للعطش، عطش لا يرتوي إلا بالمعرفة ونسمة الإيمان…واعلم أن أخلاق الرحمة إنما تنبع من التعاطف مع التعاسة والبؤس الذين تسبح فيهما الإنسانية…
إن مهمة الفلسفة، هي أن تعلمنا كيف نكون تلامذة لأنفسنا لا مقلدين ولا أدعياء، وأن نتبين بوضوح حدود البرهان العقلاني وآفاق التسليم والإيمان الديني، وأن وظيفة الوحي والكلام الإلهي المنزل هي أن يضع أصبعه على مواطن الخطأ ويشير حيث الصواب، ولكن ليس باسمه فقط، بل باسم العقل أيضا…

إن الفلسفة من حيث هي خطاب للعقل مطالبة بترميم أعطاب وانكسارات الإنسان، وتضميد جراحات روحه الضالة، وذلك بالكشف عن كل الأسرار القابلة وغير القابلة للبرهان…
اعلم يرحمك الله، أن الله هو شمس تنير العقل البشري ليرى الحقيقة، وأن الله هو ديمومة واستمرار، فهو الكائن الأعلى والكامل، وهو الخير الأعلى المطلق والثابت…

وينبغي أن تعلم أخيرا أن الطبيعة البشرية التي خلقت من عدم، ليست – ولن تكون أبدا – لا خيرة ولا فاضلة إلا بمقدار اشتراكها وانخراطها في الوجود والحياة، وجودنا وحياتنا نحن البشر هنا والآن…)


كانت رحلة جميلة وممتعة.

مرت سنوات وأنا أنجز البحث، اطلعت بشكل جيد على دين الإسلام ومذاهب الكلام عند العرب، قرأت كتب الغزالي كلها، ووقفت على ما آلت إليه روحه المترددة.

قرأت القرآن، وأعدت ٌقراءة الأناجيل، وأسفار العهد القديم، وتعاليم (بودا)، (كونفشيوس)، (بيدبا) وشرائع روما…
وفهمت أخيرا أن وراء التفاصيل العقائدية واجتهادات البشر، ربما تختفي الحقيقة الإلهية الموجهة لنا نحن البشر الغارقون في الخطايا والأوهام، وأنه لحكمة ما – حكمة خفية مكنونة مثل لغز – لم تنجح الأديان كل الأديان في حسم قضية الخلاص، خلاص الأرواح ونجاتها، فالنفس البشرية ميالة لوامة ولا تستقر على حال.

ومن يدري، قد تنجح يوما وقد لا تنجح أبدا!!

كل الأمل والرجاء أن يشملنا الله بألطافه ورحمته الواسعة، بدون ذلك ستتفرق بنا السبل ولن نهتدي أبدا.


أنا اليوم أشعر بالكثير من الفرح لأنني تخلصت في حدود المعقول من رفاهية اليقين الدوغمائي، تعلمت أخيرا أن أتحدث بيقين أقل، وطمأنينة أقل، فالشك ليس هداما دائما.
تعلمت الكثير من (الغزالي)، تعلمت أن رحلة التيه والاغتراب بين الإيمان والضلال، وبين اليقين والشك، ستبقى مستمرة ومفتوحة، حتى مع وجود الخفير ودليل السفر، وأن العقل البشري هذا الضوء الجبار الذي يشع بدواخلنا، رغم كل مزاعمه، سيقف حتما عند حدود الحياة في وجهتها الحائرة!!
وتعلمت أخيرا – وهذا هو الأهم – أن السعادة هي الطريق، السعادة في الطريق، السعادة تكمن في البحث عن السعادة، تعلمت أن الرجل السعيد هو الرجل القوي، والرجل القوي هو ذلك الذي يلتزم بالتفاؤل المأساوي، تتأرجح روحه بين اليأس والأمل ولكنه يستمسك بالعروة الوثقى ويبحث عن التجربة الشديدة والمؤلمة، تجربة الحياة والموت والحدود القصوى حتى وإن أدى به ذلك إلى التعاسة!!

عشر سنوات بعد ذلك عشت تجربة حب فاشلة، تجربة مريرة ومؤلمة خرجت منها بندوب لا تنمحي، تملكني إحساس غريب، فقدت فجأة شهيتي للحياة، شعرت وكأني ريشة في مهب الريح، وكأن روحا شريرة تتقمصني من الداخل فتمنعني من الفرح.

كانت تجربتي الأولى والأخيرة، قررت بعدها أن أغادر سلك الكنيسة، حاولت أن أسعد نفسي وأن أعيش حياتي بشكل مختلف، سافرت كثيرا وقرأت مزيدا من الكتب…

لم أستسلم، حاولت ذلك بقدر المستطاع، أنجح أحيانا وأفشل أخرى.

بعد كل هذه السنوات وقد بلغت من الكبر عتيا، أقف أمام نفسي أسألها.

  • هل تعلمت الدرس؟ هل وجدت الطريق؟ أضال أنا أم على صراط مستقيم؟

أحيانا كثيرة لا أجد الجواب.

مرات كثيرة أستحضر روح (الغزالي)، أحيانا أتخيله، وأحيانا يحضرني في المنام، ينظر إلي بهدوء، يبتسم ويخاطبني.

  • استفت قلبك…

أنظر إليه، أتأمل وجهه المشرق، أسأله صامتا.

  • …؟

تتسع ابتسامته، ثم تنمحي دون أن تتلاشى، يرسم لحظة صمت، يقترب مني، يقترب أكثر فيغمرني إحساس عجيب، أستشعر حضوره القوي، أشعر أنه يعطف علي، يفهمني، ويشفق على حيرتي.

أسمع صوته يملأ المكان، ثم أسمعه يتردد بداخلي.

  • فقط أنصت إلى صوتك الداخلي ففراسة المؤمن لا تخطئ أبدا، أما الحياة فدروسها لا تنتهي.

عندما عدت إلى نفسي كان طيفه قد اختفى.

 

 

مقالات من نفس القسم

art 40
تراب الحكايات
موقع الكتابة

المائدة

عبد الرحمن أقريش
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

يوم الأحد