الرسائل

موقع الكتابة الثقافي uncategorized
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

كتب خالد لمريم متعثّرًا في الكلمات، إذ على الرغم من أنّ الكتابة مهنته، والكلمات أداته، إلّا أنّه يجد دائمًا مسافة بين الإحساس والتعبير في كلّ ما يتعلّق بمريم، في حضورها، وفي غيابها، وهذه المسافة لا هي بالكبيرة التي تدعوه إلى اليأس، ولا هي بالصغيرة التي تدعوه إلى الإهمال، الأمر أشبه بعبور بين شيئين، لكنّه عبور مصحوب بتجريحات وتكحيتات وخربشات في اليدينِ والساقينِ وقُرب الإبطين ومنتصف البطن وأعلى الصدر، وبعد أن يتمّ هذا العبور المخجل، وبعد أن يكون الإحساس والتعبير شيئًا واحدًا، تأتي الذكرى المحزنة في صورة الألم التافه المُلحّ بأنحاء الجسم، فتغرق مريم في بكاء مُرّ، ويلوذ خالد بصمتٍ بارد.

أكتب إليكِ لسببٍ ما، الأسباب كثيرة، ومنها على سبيل المثال، لا الحصر، التعب، الوَحدة، الحبّ، الصداقة، لا أعرف _ وليس هذا الترتيب وفقًا لأولويّة، أو لأهميّة، بل وفقًا لطبيعة الكلمات في لغة، وحتميّة مجيئها في ترتيب وتتابُع قد لا يقصده مَن يستعمل الكلمات، ولهذا لزامًا عليه أن يكون بين نارينِ، فمن جهة يبحث عن الكلمات التي تؤدّي المعنى بعد شفط دهونها وشحومها، ومن جهة أخرى ينفي مواضعاتها المادّية، وهو بهذا يبتعد عن مرماه - لكنّني أعرف - بخليط من الحدس والفراسة والبصيرة، وهي ثلاثية لا أُحسدُ عليها؛ لأنّها توجد لديّ فقط في أمور سلبية، أي عندما

تكون موجَّهة لي بعداء، وكأنّها أداةُ هدمٍ – أنّ سببًا واحدًا هو السبب الرئيس الذي منه خرجت الأسباب جميعًا، إلّا أنّني لا أستطيع تأكيده، لبُعده في زمنٍ ماضٍ، حتّى قبل تعارفنا، وأرجو ألّا تأخذي هذا حجّة ضدّي، كأنّك تقولين: الرغبة لديه عارية من موضوع تتّجه إليه – على اعتبار أنّ الرغبة سببٌ آخرُ من الأسباب التي لا حصر لها – وما أنا إلّا امرأة في حياته، وكان لأخرى أن تكون مكاني، وأنّ كلمةً مثلَ الحبّ يضعُها على قدم المساواة مع كلماتٍ مثل التعب والوَحدة والصّداقة.

 في النهاية لك أن تقولي بسبب فإذا بالأسباب جميعًا حاضرة. كنّا نجلس في مطعم صغير، هو مطعم ومقهى وبار في آنٍ واحد، مكان يفتح باب خدمتِه 24 ساعة، هذا الدوام المتّصل أقلُّ ما يرضاه متبطّل مثلي، الزمن كلّه خادم ذليل. وأثناء طاجن الجمبري الجامبو المنقوع في صلصة الطماطم والثوم وشوربة قواقع البكلويز وشرائح الكاليماري الذهبيّة وجرعات الوارين الأبيض وتنميلة الأطراف الطلقة وتراوح الرأس بين الخفّة والثِّقَل _ أخرجت من بطن حقيبتك صورة فوتوغرافية أُخذت لي قبل عامين. وكانت الصورة علامة بين فصلينِ في كتاب ستيفن هوكنج “تاريخ موجز للزمن”، الفصل السابق بعنوان “مبدأ عدم اليقين”، والفصل اللاحق بعنوان “الجسيمات الأوليّة وقُوى الطبيعة”.

وضعت الصورة أمامي بهدف الحديث، فقلتُ نصف عابث نصف جادّ: لن تدوم مقاومته، سيسقط في يومٍ صريعَ الوقت والرغبة. قلتِ بعد صمتٍ وأنتِ تغالبينَ ابتسامةً: دعه يسقط. وقلتِ أيضًا بعد ذلك في خطاب: إنّ ما أحزنكِ يومها هو صياغتي للعبارة بضمير الغائب، وكأنّني أصدرتُ حكمًا لا رجعة فيه، وكنتِ أنتِ مُطالبة بموجب سببٍ أو أسباب كثيرة، والوقوف إلى جانبي ومساندتي، وكنتِ تعلمين أنّ تلك المساندة تعني لي الكثير، حتّى أكثر من السقوط ذاته. كان خالد في مراحل حياته المختلفة يواجه بين حين وآخر بصورة فوتوغرافية أُخذتْ له. وكانت المواجَهات تتمّ عرضًا وبعفويّة وضمن سياق باهت. في المواجَهات الفوتوغرافية السابقة كان الطرف الذي يقوم بعرض الصورة الفوتوغرافية عليه يترك العرض مفتوحًا أمامه بين امتلاك الصورة أو تركها ما لم يرتجل أحدهما حسمًا واضحًا لا يداري يُتْمَ الصورة فقط بل يطال زمنها المنقضي أيضًا. هل كان الأمر يتعلّق بقبح الوجه وجماله، بذبوله ونضارته، بخموده وعنفوانه؟ أم يتعلّق بتعذّر المعنى من التزام الوجه بتسجيل زمنه والتعبير عنه والإيحاء به؟ المعنى المؤجّل بشكلٍ دائم في المستقبل، وكأنّ الزمن لم يأتِ بعدُ، وما الماضي والحاضر إلا فجيعة انتظاره، انتظار الوجه البلا ملامح، الوجه الصغير بعمر زهرة، والهرم بعمر النجوم. كان حلم السقوط هكذا.

 أنت في مكان نتردّد عليه من حين لآخر. الوقت صباح. مربع ضوء الشمس الآتي من النافذة عند قدميك، وهو قابل للاستطالة مع الوقت. هناك بعض الأصدقاء. الحديث الدائر هو سجال معروف بين المجموعة. إمكانية أن يأتي ذكر لي ليست بعيدة طالما أنّ الأمر يتعلّق بحدّة الآراء وتطرُّفها. مع الملل من الحديث المكرور تمدِّين رأيًا محايدًا مخصيًا إلى نهايته القصوى الحادّة والنزيهة معًا. يعترض أحد الأصدقاء بأنّني لو كنتُ هنا لما كان رأيي بهذا التطرّف، ويعرض ضاحكًا مهدّدًا الاتصال بي وهو يتّجه إلى التليفون. تتراجعين لخوفكِ من معرفتي أنّك تتبنين الحدّة والتطرّف في غيابي، وهذا قد يكون مادّة لي طوال شهور عديدة، مادّة سأقحمها مرارًا في موضوعات شتّى، لأنتزع منك تسليمًا كاملًا، تسليمًا غير جادّ في حقيقته، إلّا أنّه الحبّ الأكثر عمقًا بيننا.

 يعود الصديق إلى مقعده مُتراجعًا بكرم عن فضول معرفة ما بيننا، مكتفيًا بغموض تخمينه. فجأة ينطلق رنين التليفون من نقطة سكون. يقوم الصديق من مقعده مرّة ثانية. يرفع سماعة التليفون، يقول، وهو ينظر لك بدهشة وشرود، رافعًا حاجبيه: آه إنّه خبر انتحار. لم يتّضح لي في حُلم السقوط هل كان الصديق  يكمل عبارة لك؟ أم أنه تلقّى خبر انتحار على التليفون، وهو يردّده فقط لنفسه، تمهيدًا لإعلانه على المجموعة؟

 كان مربع ضوء الشمس قد صعد على ساقيك مستطيلًا. إنّ للشوق عَرامة وللوقت جَسَامة وليس في النأي حيلة، والروح في العَنان والجسد دون ذلك. وحقيقة أنّني هنا وأنتِ هناك موجعة مثل شوكة مستعرَضة في الحلق لا يُحسّ وضعها إلّا بشربة ماء أو كسرة خبز وبعد.. لم أكتب لكِ طوال الأسبوع الماضي. على عيني يا قطّة. منعني الشديد القويّ. ولا يقدر على القدرة. أقول إيه. نزلة بردٍ حادّة بكلّ ملحقاتها و لوازمها وإكسسوارتها. رشح وصداع واحتقان وسعال والتهاب في الشُعب الهوائية وتحطُّم في الضلوع والمفاصل. أوركستر كامل فخْم مهيب. كان لا بدّ من جيش المضادّات الحيوية، جيش عَرَمرم يقتل غِيلةً الموسيقى الكلاسيكية. صَرَخات يافعة، أنّات ناشزة، تحطُّم فيولينات وفيولات وفيولونسيلات، مذبحة حقيقية. لم يبق من المعزوفة سوى السعال، سولو منفرد على أوتار حنجرة مشروخة مبحوحة، والغُنّة والخُنّة في الصوت المصاحب.

هاجت عقائد المرض الدفينة تحت رماد الصحة الزائف، جذوتها متّقدة لا تريم. تعرفين حساسيتي للسعال بسبب التدخين والاستعداد الوراثي للإصابة بأمراض الصدر. مات جدي وأبي بالربو وعمي بالسُّل. استبليا ميري، تبدأ الأعراض المرضيّة، عادةً، بعد سنّ الخمسين، كرْشة النفس، النَّهَجَان، إدمان منشقة توسيع الشُّعب الهوائية، قَفَزَان الصدر من إدامة لقف الهواء، يقول المصطلح الطبّي عن هذا التحوّر الغريب في شكل الصدر: صدر الحمامة. ما زلتُ في الأربعين، وأنا على الدرب، عشر سنوات فقط. طوبى للقدرييِّن الوراثيين في أعناقهم المصير ذاته. على الأقلّ أفضل من الإصابات المبكّرة جدًّا. بروست في العاشرة من عمره مجبر يا عيني يا كِبْدي مُجبر يا وَلَداه على جرعات الكونياك وقت الأزمة. أوامر الطبيب. براءة وكحول. طفولة مغدورة. ومع هذا هناك الجانب المرح. يستطيع مريض الربو بحرفة وحذر فصل كرة من البلغم المتماسك المرن الجاثم على الصدر وقذفها لمسافة بعيدة على أهداف مادّية ومعنوية، وكأنّها رمية من غير رامٍ، رصاصة تخرج من الفم. قد لا يستطيع مريض الربو تقدير حجم كرة البلغم تقديرًا صحيحًا _ من باب كُح على أدّك _ فيتحرّك البحر الراكد كلّه، ويختنق المريض. الحرفة والحذر يتطلّبان اختبار عمق البحر الراكد بمجس النحنحات والسعال المكتوم تارة والمغامر طورًا. قد يكون حُلم البلغمي الرومانسي هو أن يخلع في بصقة واحدة ثوبًا بغيضًا عن جسده. سلام من أعماق القلب لكلّ المصدورين، سلام مربّع للأنفاس القصيرة المتلاحقة اللاهثة الآخذة الهواء من أعلى نقطة، لكم وحدكم السلام، سلالة واحدة، صدر واحد، نَفَس ضيق واحد، سعلة واحدة، بصقة بلغم واحدة، أبعثها إليك من الساحل الأخضر مُعرّقة بشرايين من الساحل الأحمر. رصاصة تخرج من الفم إلى الفم. لا يساوي أيّ فعل من الأفعال قيمة ما يساويه فعل الكتابة لك، حتّى الكتابة العمياء التي ندعوها أدبًا لا بدّ لها أن تمرّ من خلالكِ، وفرحة هذا المرور مساوية لذاتها، كائنة لكِ وبكِ، وما إمكان تجاوزها إلى قارئ مجهول إلّا محصّلة عَمًي توجهها.

 لم يعزني الصدق بهذا الجوع إلّا معك، وعبثًا أنزع أمامك قناعًا وراء قناع على أمل الوصول إلى وجه حقيقي ينهب المسافة للوقوف أمامك، وجهًا لوجه.

اعلمي أنّ الكبير كبير والنص نص نص نص وأنّ القوالب نامت والانْصاص قامت وقالوا مين أبوك يا بغل قال الفرس خالي وقالوا اللي معاه حنّة يحنّي طيز جحشه وأن الزمن خؤون.

 واعلمي أنّني كاتب أديب أريب متأدّب دانت لي دولة الأدب والقطوف في يدي وبضاعتي كلمة وكلام وكَلِم أو كما قال ابن مالك كلامُنا لفظ مفيد كاستقم واسم وفعل ثم حرف الكَلِم واحده كلمة والقول عمْ وكلمة بها كلام قد يُؤَمّ.

 اعلمي أنّما تتزايد الألفاظ لا المعاني برغم أرنبة أنف الجرجاني وليس كلّ ما يُلفظ يعني والمعنى في بطن شاعر والشاعر في بطن حوت والحوت في بطن بحر والبحر ماؤه دفيق متلاطمٌ موجُه بريح عاصفة زعزع قاصفة تردّ أوله إلى آخره وساجيه إلى مائره.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال