عبد الرحمن أقريش
صباح ربيعي، مشمس ودافئ.
أعد وجبة الفطور بنفس الإيقاع اليومي البطيء، نفس الحركات ونفس الطقوس، مائدة خشبية مستديرة تنتظم فوقها تفاصيل وجبة تقف عند الحدود القصوى بين الفقر والكفاف، إبريق الشاي، إدام، ورغيف أسمر.
يبدو الأمر بعيدا الآن، بعيدا جدا.
في الماضي عاش أياما مليئة بالعمل والنشاط وضجيج الحياة، حياة تتخللها فترات سعادة عابرة، عابرة ولكنها حقيقية، نوع من السعادة البسيطة والفطرية، سعادة الطفل الذي يواجه قسوة الحياة بالسخرية واللامبالاة…
كل ذلك انتهى، انتهى منذ سنوات، انتهى تدريجيا بفعل الوحدة والشيخوخة وثقل الزمن، وانتهى أيضا بفعل الجحود، جحود كل هؤلاء الذين يفترض أنهم عائلته.
ينفتح باب الغرفة على فضاء البيت المهجور، تتسلل أشعة الشمس من الباب الخشبي، ومن كوة صغيرة، ترسم أعمدة مستقيمة وأشكالا هندسية منكسرة من الضوء تسبح فيها جزيئات وخيوط مجهرية تكاد لا ترى.
جلس في وضعية مريحة مسندا ظهره إلى الحائط الحجري، مدد رجليه تحت خيوط الشمس الدافئة، وراح ينظر أمامه بعينين حزينتين، يبدو المكان مهجورا وقاسيا، مقفرا وموحشا، جدران حجرية تتداعى، تفاصيل مهملة، أشواك الأركان الجافة، وحدها نباتات برية أينعت، تطل من بين ثنايا الأرض والحجر تخفف من قسوة المشهد.
يستعيد بداخله شريط حياته في لقطات بطيئة، تتفاعل بداخله مشاعر مؤلمة ومتناقضة، خليط يمتزج فيه الحزن بالعجز والهدوء بالغضب.
للمرة الألف، يشعر بالندم على الفرص التي ضاعت، الندم على الاختيارات الخاطئة، الندم على حياة الزهد والرهبنة التي فرضها على نفسه لسنوات، ولكن ما يحزنه حقيقة، ليس فقط الشيخوخة والمرض وأعطاب الجسد، هو يفهم المسألة بشكل جيد، فالزمن لا يمر عبثا، لا يمر دون أن يحفر أخاديده في الروح وفي الجسد، ما يحزنه فعلا، ما يؤلمه أكثر، ليس قسوة الحياة بل قسوة البشر.
…
يعتقد الكثيرون أن الخطيئة الكبرى في حياته هي أنه لم يتزوج.
بعضهم يتحدث عن الأمر في حضوره، يخاطبه بنبرة أبوية تمتزج فيها النصيحة بالشفقة.
- لم يفت الوقت بعد، بإمكانك أن تصلح الأمر، النساء كثيرات…
- تأخرت كثيرا، ولكن الفرصة أمامك ما تزال قائمة…
- تزوج يا أخي فالنساء دواء، المرأة وحدها ستخرجك من العزلة، ومن وحدتك القاتلة…
- تزوج أيها الرجل، إن لم يكن من أجل النساء، فمن أجل الأطفال، الأبناء شيء جميل، وأنت تحب الأطفال…
- فعلا، لمثل هذا يتزوج المتزوجون…
البعض الآخر يتحدث عن الأمر في غيابه، في مناسبات كثيرة يتحول إلى موضوع للثرثرة والنميمة القاسية.
- لا زوجة، لا أبناء، ماذا سيكون مصيره في المستقبل عندما يشيخ ويفقد صحته؟ من سيعتني به؟
- يعز علي والله، ويؤلمني أن يموت وحيدا…
- تأخر كثيرا، ما الجدوى؟ فات الأوان…
أحيانا كثيرة، عندما يكون وحيدا، يختلي بنفسه، يخاطبها، يردد الجملة بداخله.
- فعلا، فات الأوان!!
اقتحمت عصفورتان مدخل الغرفة وراحتا تنقران الأرض، تقتاتان من بقايا الطعام وحبات السكر المبثوثة في المكان، ينظر إليهما بإعجاب ويشعر ببعض العزاء.
…
في كل مرة أستحضر فيها صورته، أتساءل.
- لم لم يتزوج؟
وفي كل مرة كنت أصل دوما إلى نفس النتيجة.
- الأمر معقد…
أشياء كثيرة تمنع الرجال من الزواج، فبعضهم لا يصلح أصلا للزواج، ولكن أغلبهم يمتنع بدافع الخوف، بعضهم يخاف على حريته، بعضهم يخاف على نفسه، بعضهم يخاف من نفسه، بعضهم تخيفه النساء، والبعض الآخر تخافه النساء…
أما هو، فلم يتزوج لأنه لم ينجح أبدا في التخلص من الطفل الذي يسكن بداخله، ربما بسبب يتمه المبكر، ربما بسبب طباعه الحادة ومزاجه المتقلب، وربما أيضا بسبب رواسب طفولة قاسية وغامضة.
أفكر في الأمر، أفكر في علاقته بالنساء، وبيني وبين نفسي، أرجح دوما أنه يصلح عشيقا أو صديقا، ولكنه حتما لا يصلح زوجا.
ومع ذلك، فالنساء كن حاضرات في حياته، أنا متأكد من الأمر، فقد كنت قريبا منه رغم فارق السن، وفي لحظات الصفاء كان يفضي إلي بذوات نفسه، كان يملك كل مقومات الرجل المرغوب فيه، القوة، الوسامة، الأناقة، والكرم، وخصوصا الكرم، نوع من الفيض العاطفي يكفي ليشبع نساء قبيلة بأكملها!!
أتذكر.
حدث ذلك منذ سنوات بعيدة، استقبلني في غرفته المتواضعة ذات صباح ربيعي جميل ودافئ، استقبلني مرحبا، قدم لي كأس الشاي، وبدون مقدمات راح يعلمني آداب الطعام والمائدة.
- شوف، في حضور الناس هكذا ينبغي أن تفعل، تقتطع كسرة صغيرة من الخبز، تغمسها في الإدام بمقدار، تنقر بها على طرف الإناء، ترفعها إلى فمك، تمضغها بصمت وهدوء…
ثم يضحك، ينظر إلى بفرح.
يقسم الرغيف إلى شطيرتين كبيرتين، يرمي أمامي بالنصف، يأخذ النصف المتبقي.
يواصل الشرح.
- وعندما تكون وحدك، تغمس الرغيف في أديم العسل الأسمر، تقلبه، تغمسه من الجهة الأخرى، تضغط عليه، تقلبه مرة ثانية، ترفعه إلى فمك، تقحمه، تدفعه، تمضغه، تلوكه، تفتح فمك، تغلقه، يسيل الإدام على أصابعك، يسيل على ملابسك، كل ذلك ليس مهما، المهم هو أن تستمتع بما تأكل…
بدا سعيدا ومنطلقا.
لم أنس أبدا تلك الضيافة، انطبعت في ذاكرتي إلى الأبد، كنت ضيفا فوق العادة.
نحن الصغار كنا نحبه، وكان هو أيضا يحبنا.
مرت سنوات طويلة، ولم يتغير الكثير من تفاصيل ذلك الحب، ونكتشف أننا في الحقيقة نحب فيه الطفل الذي يسكنه، أحيانا كثيرة نشعر أنه واحد منا رغم فارق السن، وأنه بشكل ما، لم يتجاوز أبدا عتبة الطفولة، صحيح أنه عصبي، مزاجي وذو طباع حادة، تأخذه فجأة فورة من الانفعال والغضب، غضب يأخذ دوما شكل إحساس حاد بالكرامة، ثم في لحظة ما يستعيد صفاءه، يهدأ، يستعيد روحه المرحة، فيبدو سعيدا، لعوبا ومنطلقا.
أستحضره، أستعيد ذكراه، ما تبقى منها بفعل الزمن، أفكر فيه وأحاول أن أفهم، وأفترض أنه كان يتعمد ألا يكبر.
…
تملكه شعور غريب وغامض، لسبب ما، فكر أن ذلك الصباح هو بداية يوم جميل ومختلف، قرر أن يخرج ويقضي وقتا بعيدا عن غرفته، غادر البيت القديم، سار بين الحقول، مشى بشكل غريزي مستسلما لقدميه وعكازته، بدا وكأنه يستجيب لصوت نداء آت من داخله، يمشي، يمد يده، يتحسس السنابل تدغدغ أنامله، تتمايل، تتموج على وقع ريح خفيفة تهب من جهة البحر، على بعد خطوات، تطير الفراشات، تحط للحظات، يقترب هو، تبتعد هي، تطير في اتجاه الشمس…
يتذكر، يسترجع صورا من طفولته البعيدة، يدندن، يستعيد بداخله مقطعا من أغنية قديمة يحبها، يفكر أنه لا يحفظ منها إلا بضع كلمات.
في سن مبكرة جعلته الفراشات يكتشف فكرته الأولى عن الجمال والحياة والموت، جعلته يكتشف قسوة الموت وهشاشة الجمال والحياة، كان صيد الفراشات إحدى هواياته المفضلة، أحيانا كثيرة عندما ينجح في الإمساك بواحدة، يكتشف أنها ماتت منسحقة بين أنامله.
…
لم يعد إلى غرفته ذلك المساء، عندما وجدوه في الصباح، كان مستلقيا على سرير من السنابل، يداه مفتوحتان، بين شفتيه أقحوانة ملونة، بدا وجهه هادئا ومشرقا، بدا وكأنه يبتسم، وكان المكان يعج بالفراشات.