أكتب كي أدون كل التفاصيل، كي لا تعذبني أكثر، ومن أجل أن تحضر.. كانت سلمى، وكنت سلمى أخرى. بيننا أشياء كثيرة تشبهنا في العمق، نقول مثلاً لبعض، بذات الصوت “تبدين كقرين من زمن آخر”.. لا أقول أني أراها إيديث بياف، لكني من الآن، سأحفظها في روحي كما أحفظ صوت إيديث. وحين أمد يدي إليها، وأمَسَّ أناملها، وأرتعش.. ثم كنوع من الكذب أبتسم، أفهم أن شيئاً أكبر مني ومنها ومن إيديث بياف، يهز الأرض أسفل أقدامنا حين نكون معاً، وأن هذا الشيء بالذات أيامه في بطن هذه الأرض قليلة جداً، وذائبة.
كم مرة التقينا، تعاتبنا، تمازحنا .. وفي أي زمن! لم يبقَ من سلمى، إلا اسمي، ووجه يطل بين حين وآخر، يذكّرني بهذه الابتسامة المتلعثمة على شفتيّ، ساعة كان حكيها حياً جواري. لا سراب لا حلم . جربتُ مرة أن أقول “أحبك جداً” كما كنت أقول “أمي”، لكنها هزأت. تحدثتْ عن أن هذه أحاديث بين الأحبة، وخجلت أن أقول أنّا كنّا نشبه ذلك .. وأن ذلك ليس عيباً، ولا ينبغي أن يكون. ثم كان. أخذت أستعمل الكلمة الفرنسية ” Je t’aime” حتى صارحتني ذات يوم .. “لم يعد في هاتفي مكان لاستقبال رسائل جديدة يا سلمى”.
في “الآمريكين” قبل ذلك بزمن، تحدثنا عن انتظارات الهاتف الطويلة لأحد لا يأتي، كانت تدخن التبغ، وكنت أدخن صوتها، وعينها الواثقة، التي تحدق فيّ كثيراً وتقول أشياءً لا أفهمها لكني أبتسمْ. نطلب عصير مانجو من الجرسون، وحين يأتي حاملاً طلبنا، نخبره أن اسمنا واحد “سلمى”.. قُلتْ: “أَسْمَتْني أمي سلمى لأنها أرادت أن أسلم من كل شيء “.. تبتسم، وتقول لي أن الشاشة الافتراضية رسمتني لديها كسيرة.. صغيرة جداً ومخذولة، وأنا لست كذلك. فأشرح أن الخُذلان لم يخذل اسمي بعدْ، وأن الوقت لا يزيد هشاشة المرء إنما يصلبه، والمسيح في روايتنا سيعيش بعد الصلب.. ويصمد.
متى كان عليّ أن أسكت عنكِ، وأترككِ تبحثين عن أشيائك المفقودة في الأفق البعيد جداً، وحدكْ، كما ترغبين.. كم نظرة كان ينبغي أن أبعثها لبائع الجرائد، الذي كنّا بوضوح نراه في جسلتنا من الحاجز الزجاجي، كي أستعيده بصفاء أكثر يوم سأتمثله افتراضياً، على الشاشة الافتراضية، بجانب نافذتك المخضرة، التي تصر على مقاطعتي، كما لو أني خطئية اُقترِفت في العتمة. أنا الدليل الوحيد على أن الوقت لم يكن عتمة يا سلمى. والآن هي نافذتك مخضرة وأنا أرضي جدباء. ولم أزل أبتسمْ. أقاوم وهن أعصابي، كي أكتب، سأرتاح حين أكتبك كاملة، ولذلك أفعل. حين للزمن الثاني طلبنا “ميلك شيك شيكولاتة”، خاطبْنا الجرسون بحمق لا نظير له، “قل يا سلمى..”، فقال، وجاوبنا، سوياً : “أنا”.. ضحكنا وابتسم الجرسون، وبائع الجرائد، وابتسم المسيح فوق الصليب.
تغيبين يا سلمى، وأعرف أنكِ لا تشبهين إيديث بياف، إلا في الحاجبين الرفيعين، وحضورها الملائكي، تنفثين دخانك، فيحاصرني، وأحب أنه يحاصرني. أحب أن أحكي.. بالذات عن صوت العربات في الخارج، العربات التي لا تبالي بنا، وبسعادتنا، وبغروبنا القادم بثبات راسخ، كمحبتي لصوت إيديث بياف، وحزني لأني نسيت صوتك، لأن الكتابة لا يمكن أن ترده لي، ولا أنت ستفعلين. أتلصص يا سلمى، على أنك سالمة تماماً في بيتك الافتراضي، أتلصص على طردي النهائي، والأخير، وأبتسم، ربما لأن لا شيئاً آخر يمكنني أن أفعله.
حاجباك فقط يشبهان إيديث بياف، فلمَ أرددها بغباء “Je t’aime”كان قلبك حقيبة بسكويت، عاهدني أن يحفظني كطفل. البسكويت لن يقرأ قصتي، ولن يمزق سطورها لأنه سيعرف أنها عنه، بسكويتك حلو يا سلمى، وأنت تتحدثين عن الوحدة، وعن الوطن الذي ينتظر الخلاص، ونرفع رؤوسنا إلى السماء، ونحلم، ويحلو الابتسام فنبستم. لا شيء أجمل كان يمكن أن يحدث حينها وبسكويتي بين يديك، آمن عليه، وأفهم أنه سيسلم عندك، ألست أنت أيضاً سلمى. الآن حين تنطفي نافذتك، ينطفي شيء في الروح، شيء منطفيء أصلاً، وقديم.. ومنسي، كمذاق المانجو والشيكولاتة، كالمحبة المتسرِبة.
إنني أكتب قصة وحيدة جداً، يا سلمى، وحيدة ومصلوبة، وأعرف أنكِ ستوبخينني كثيراً حين تقرأينها، لأني كتبت أحبك فيها أكثر من عشر مرات، وأندهش لأنك تُحصينها وأنا لا أجيد الإحصاء، فقط، أتحدث فيسقط حبري، كما لو بمجانية. سأعتذر كي أُرضيكِ، كي لا تذهبين. وكي تتفرق تفاصيل قليلة، تحاول أن تنجو من هوس استبقاءات عقلي الخائب . أتدرين يا سلمى.. إنك لا تشبهين إيديث بياف، وأنا أمْتَنّ كثيراً لذلك. وأبتسم جداً، لأنكِ لا تقرءين كتاباتي.
ــــــــــــــــــــــــ
من مجموعة “مائدة واحدة للمحبة” تصدر قريباً عن روافد