الذي سقط من السماء

الذي سقط من السماء
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 

سناء الشعلان

قال له زميله الذي اعتادوا على أنّ يسموه الذيل لشدة نفاقه، وهو متبرّم بوجهه المكسو بالشماتة:" أنت يا رجل والله ساقط من السماء ولست من الأرض ، أرأيت آخر عنادك؟ الآن ليس لك إلا أن تسفّ التراب مع بنيك، أو تعود إلى السماء من حيث سقطت ، فنحن البشر لا نشبهك ، أشباهك فقط في السماء ، أمّا هنا على الأرض فالسكان مختلفون تماماً ،وتذكّر دائماً يا صديقي أنّ من يسقط من السماء تدّق عنقه بالذات إن كانت تحمل  رأساً عنيدة مثل رأسك".وعلت ضحكاته ،وابتعد وهو يتصنّع التمايل كمومسات العاصمة .

 

“هل أنا ساقط حقاً من السماء؟ ” سأل نفسه المثقلة بالهمّ ،عاد وقال لنفسه ” لكن الطيبين فقطّ هم من يسقطون من السماء، هكذا قالت لي جدتي،وجدتي لا تكذب” أيّاً كانت الإجابة فعليه أنّ يرحل عن عمله ،وهو يحمل الخزي والعار ، هو الرجل الشريف المخلص الذي أمضى حياته يحارب الفساد ، سيُطرد بتهمة السرقة ، وسيُعيّر أبناؤه به ، ويصبحون أبناء اللص ، شعر بغصّة تكاد تقتلع روحه ، ابتسم بقهر وهو يغالب الدموع ، كان يعلم أنّها مؤامرة ؟ ولكن من سيكذّب أولئك الوحوش الذين حاكوا المؤامرة ضده لإقصائه عن عمله الحسّاس في قسم الحسابات، ويصدّق رجلاً قالت جدته له يوماً:” إنّّه قد سقط من السماء” .

قالت له ذلك في ليلة لن ينساها ما بقي في إسار الحياة ، كانت صرخات حادة تتشقّق عن نفس أضناها الألم، وتكاد  تتساقط أنفساً قبل أنّ تدفع إلى الحياة الطفل الذي في جعبتها ، كانت صرخات الجارة أم إدريس ، التي اعتادت سنونه التي تحصى على أصابع يديه الاثنتين أنّ تسمع صراخها في كلّ عام ، وبعد ساعات تطول أو تقصر من العويل والاستنجاد وسبّ الداية يسمع الزغاريد ، تُقدّم له ولأطفال الحارة بعض السكاكر الرخيصة ، ويسمعهم يقولون :” الله بعث عريس ، أو الله بعث عروس”. لكن ذلك الصراخ الليلي بدا أطول من الصراخ الذي اعتاده في السنوات السابقة من عمره اليافع. الدايّة وبعض نساء الحي وزوجة أبيه أم حمدان كُن في حضرة الولادة ، ليلتها انسلّ من فراشه كالمضبوع بهذا الصراخ الذي يبدو أنّ لا نهاية له ، ودلف دون استئذان إلي بيت الجارة المتّقد بالصراخ.

أراد أنّ يكتشف منبع الألم ، كان جسده الصغير ينساب بسهولة بين النساء المشغولات عنه بأم إدريس يساعدنها ما استطعنَ إلى ذلك سبيلاً ، دفع برأسه من باب الحجرة ، وأصبح الرأس وحده دون الجسد في الحجرة الصغيرة التي تضجّ بالحرارة والألم ، بحث بعينيه عن أمّ إدريس ، كانت مسجّاة بين يديّ الداية ، هناك سمع آخر الصرخات وأصعبها ، ثم انشقّ الجسد الذي كان يتابعه بذهول عن كتلة ملطخة بالدماء والأوساخ ، تلقتها سريعاً يدا الداية ، كانت كتلة لحمية تنزلق في زلالها اللزج كالبزّاق ، وانقطع الصراخ الأوّل ، وبدأ صراخ صغير عاجز ، جزم أنّ مصدره  قطعة اللحم الوردية التي انشقّ عنها جسد أم إدريس.

لم  يحدّث أطفال الحارة عن سرّه الخطير الذي حظي به على غير عادته ، تلك ليلة لم ينسها أبداً ، وحفرت في ذاكرته ، كان الوحيد من أطفال الحارة على حد علمّه الذي يدري من أين جاءت قطعة اللحم الوردية التي أسموها صباح ، وكان يتساءل في نفسه بدهشة الطفولة البريئة كيف تستطيع أمّ إدريس أنّ تسير بهذه الأريحيّة، وهي تملك ذلك الجرح العظيم الذي رآه في تلك الليلة؟!!

لأيام طويلة كان يراقبها بفضول ،ويتوقّع أنّ تنزلق أحشاؤها أرضاً من ذلك الجرح ، ولكن ذلك لم يحدث ، بل عاد بطنها ليتكوّر من جديد ، ومرة أخرى سمعهم يقولون:” أمّ إدريس تتوحّم.”

مراقبته الطويلة والفضولية لأمّ إدريس جعلته يدرك أنّ النساء تحبّ تلك القطع اللحمية التي تتقدّد أجسادهن عنها ، كثيراً ما راقب  أم إدريس وهي تدُسّ ثديها الكبير في فم الرضيعة صباح ،وتداعب خصلات شعرها ، وتغضب أشد الغضب إذا حاول أحد أطفالها مقاطعة تلك العملية الهانئة التي تسمى الإرضاع ، اعتاد  أن يراقبها من فوق سور بيتهم القديم المطلّ على فناء بيتها ، ومن ثم طفق يراقب تلك الحركات الدافئة والحميمة التي تربط نساء الحارة بأبنائهن وبناتهن في نغمة وجودية خالدة ، لم يعزف يوماً عزيفها ، ولم يشارك في سجع ودادها ، وبات يرثي لنفسه المعرّاة من هذا الحنان ، كم تمنّى لو أنّ له أمًّا مثل أم إدريس ؛ كي تحضنه كما تحضن صباح ، أو كي تفلّيه كما تفعل زوجة عمه صبحية مع ابنها رزق ، أو كي تخصّه بالبيض البلدي كما تفعل أم حمدان مع بنيها ، التي اعتاد أنّ يدعوها أمي كلما أراد أنّ يخاطبها نزولاً على رغبة والده وأعمامه.

لمدّة يومين لم يعد إلى البيت إلاّ في المساء ، توقّع أنّ يُضرب بشدة بحزام والده الجلدي بسبب تأخره ، لكن أباه  اكتفى بيسير الصراخ عليه ثم تجاهله ، كان يشعر بالجوع والإعياء ، فهو لم يأكل منذ يومين ، ولم يعنّ أحدٌ نفسه بالسؤال إنّ كان قد أكل أم لا . الأمهات هنّ المعنيات بالقطع اللحمية التي يتفتّقن عنها ، في تلك الليلة بكى ؛لأنّه ليس قطعة لحمية تخص امرأةّ بعينها.

عندما حضنته الجدة ميمونة إلى صدرها الكبير المتهدّل الدافيء شعر بشيء من الطمأنينة ، ولكن حنينه بقي إلى امرأة  قد تفتّقت عنه ، ألقمته الجدّة قطعة  (الحلقوم ) التي ادّخرتها له خِلسة عن صغار البيت ، أكلها وهو يتنشّق دموعه ، ويكفكفها مع سيل مخاطه ، دثّرته الجدّة بطرف ثوبها ، واشتملت سنينه الخمس بعطفها ، سألته عن أحوال أصدقائه في الحارة ، ولكنّه لم يجب ، تجّرع دموعه من جديد ، وقال لها :” جدتي ، لماذا ليس لي أمّ ؟؟”.

طبعت الجدّة قبلة سخينة ملؤها الحب والشفقة على جبهته المتعرّقة ، ونحّت عقارب شعره التي تتدلّى على عينيه بلا نظام، وقالت له بجهد من يبحث عن نجمة في السماء : “أمك في السماء ؟”

قال لها الطفل بدهشة بريئة :-“ماذا تفعل في السماء ؟”

– “هي عند الله.”

– “ولماذا هي ليست هنا مثل باقي نساء الحي؟”

– “لأنّها مرضت ثم ماتت.”

قال بنبرة معاتبة متهمة :” ولماذا لم تعالجوها كما عالجتم أم إدريس؟”.

قالت الجدة بحزن تستره بجهدٍ واضح:” عالجناها طويلاً ، ولكنّها ماتت في النهاية”.

– “وهل أحبتني قبل أن تذهب إلى السماء؟”

– “نعم.”

– “ولماذا لم تأخذني معها؟  ألم تقولي أنّّها أحبتني؟”

– ” لقد أخذتك معها .”

– “وكيف عدتُ إلى هنا؟”

– “سقطتَ منها فتلقفتك ، ومن ذلك اليوم أصبحت حفيدي.”

– “ولماذا سقطتُ؟”

برمت الجدة شفتيها، وقالت بهدوء إيقونةٍ عمرها ألف سنة :” الطيبون فقط هم من يسقطون من السماء”.

– “والأشرار يا جدتي ألا يسقطون من السماء؟”

– “الأشرار يا بني لا يكونون في السماء ، هم هائمون في الأرض.”

– قال الطفل بغبطة واعتزاز ظاهر :” هل أنا طيب يا جدتي؟”.

– “كلّ الذين يسقطون من السماء طيبون يا ولدي.”

فجأة توقّف هدير أسئلة الطفل ، شفط بشهيقه سيل مخاطه الذي يخترق عرض وجهه البيضوي ، فارتد معظمه إلى أنفه ، ومسح دموعه، وقال بنشوة من وجد كنزاً : “جدتي أنا إذن ساقط من السماء؟”.

قالت الجدة براحة من توقفوا عن جلده :” نعم يا بني الصغير .. أنت ساقط من السماء “.

كان يعلم أنّه لم يسقط من السماء ، وكان يعرف أنّ جرحاً ما قد تفتّق عنه ، دائماً كان يرى نفسه في المنام قطعة لحم يلثمها فم دافيء حنون كالسكر يُسمى أمّ . عندما كبر أخذ يصارع الفساد في كلّ مكان ولا سيما في عمله ، نعته أحدهم ساخراً :” بأنّه من سكان الفضاء ” فقط ؛لأنّه أمين ومخلص.

في ما بعد قيل له إنّه لص ، لم يُدهشه أن يُنعت بنعت  لص ، بقدر ما أدهشه أنّه آخر من يعلم بذلك ،لكن عندما تحسّس جيبه ،وتذكّر أنهّ لا يحوي إلا بضعة قروش شعر بشهوة غريبة للبكاء. وعندما سأل عن مصدر الثراء المفاجيء الذي نزل على مديره في العمل بعد أن تولّى مقاليد منصبه الجديد ، قيل له : “إنّ ثروته هبطت من السماء “. حينها ترددّ في سمعه صدى سنوات طويلة تحمل صراخ أم إدريس ، تمنّى لو أنّ له أماً يبكي في حضنها ، وأيقن أنّ الطيبين فقط هم من يسقطون من السماء ، ولكن ليس في أحضان جداتهم الطيبات ،وإنّما على الأرض الصلدة  لتدقّ أعناقهم  دون رحمة، أمّا الأشرار فيعيثون فساداً في الأرض.

 

ـــــــــــــــــــــــــــــ

د. سناء الشعلان

روائية وقاصة – الأردن

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

خاص الكتابة

 

 

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب