أسير في شوارع (المدينة القديمة) بكولونيا، المرصوفة بالحجارة
وأتأمل المعروضات السياحية المبهجة
أتذكر أنني اشتريتُ له منها هدايا:
نموذج (كاتدرائية كولونيا)
كأنه لا يعرفها!
وعملات تذكارية
كأنه ينسى!
وبطاقات بريدية
كأنه في مكان!
أستسلم للبرد وهو يخرق صدري
وأحزن حين أدرك
أنه لن يحتضنني حين أعود من العالَم
في طائرة ورقية
لن يبعث لي حتى برسول
أو برسالة على (سكايب)
يقول لي فيها: لماذا أنت أوف-لاين؟!
والغريب أن الشمس ستبقى معلقة في السماء في مصر
حتى بعد أن يرحل
كل شيء سيسير كما هو
وسيستمر نبض الساعات
كما هو
وسيكتب الحكماء مذاهب (الكَماهُوِيَّة)
أو ما شابه ذلك!
وحتى أنا سأستمر
كما تستمر الأشياء.
* * *
يصف له الحكماء مسكنات
وعقاقيرَ لترمم عظامه المتآكلة
التي تحركت عن مواضعها
أعرف أنه وحيد في الألم
مهما اقترب منه الناس
أعرف أنه يتعذب
أنت تتعذب يا الله!
وألمُكَ سديمٌ من الشعور
وأنا هنا
لا أستطيع أن أتحمل ألمكَ
أو أشعر به!
بعثتَ الرسلَ لكل الناس
وبعثتَ الكتبَ
لتخبرهم ألا يخبروني بأنك راحلٌ بلا ميعاد
وأنت أدرَى
أن الناس لا يخلون من كفرهم
فأخبروني بكل ما أخفيتَ
أخبروني كل شيء
وقالوا لي: اللهكَ سيموت، ولكن لا تخبره أننا أخبرناك!
وها قد عرف كلُّ شيء كلَّ شيء
لكنك لا تبالي
ولن تعذبهم
لأنك تتعذب
تتعذب
تتعذب
يا الله!!
* * *
كان الله حيًا مثلنا
كان يحب
ويخاف
ويمرض
ويأمل
حتى لحظاته الأخيرة
وحين يموت، سينتهي كل ذلك
وسيعلن نصفُ سطر في الصحف:
أن الله قد مات!
وربما لو كان (ماريا ريماركه) حيًا لكتب:
“كل شيء هادئ على الجبهة العليا“
كي ينبه الناس إلى عذابه
وخسارته
لكنه لن يكتب حرفًا عني وعن خسارتي،
وحزني ذي الرهبة
سيموت الله كأحدٍ
“قل هو الله أحد”
إنه أحد
أحد
من الآحاد
ليس أكثر!
* * *
تقول لي أمي أن الحكماء يفحصونه
كي يعرفوا مصدر سرطانه المنتشر
وأنا جامد الصوت
أضحك في الخفاء
هل هناك مصدر لسرطان الإله؟
وهل ستظهره أشعة رونتجن، أو المسح الذري؟
أورام الله تتجلى في الآفاق، وفي الأنفس
إنها مجرات، وثقوب في مراكزها،
ومادة وجودية تتضخم في جنون، وتخلق نفسها،
ولا تعرف خالقها،
ولا لماذا خُلقتْ!
إنها في كل مكان،
لكنها فقط الآن.
السرطان لا يعبر الزمن،
حتى لو أصاب اللهَ.
لكن لعنتَنا
أن لنا ذاكرة،
وأنها سَفَرٌ-في حياة واحدة-إلى الماضي،
وأننا في زمن لاهوت السرطان.
ذاك الذي سيتحول إلى قصائد،
ومعالم سياحية،
يزورها طلاب المعرفة والتاريخ،
وأصحاب الألسن المتعددة.
* * *
لماذا لا أهيم؟ ولماذا لا يهيم بي حجَر الطريق؟ يسأل (الأكويني)، وهو يخطو في ردهات معهده. قدستُ اللهَ، ومنحتُه تفاحةَ معرفتي، فلم يلق لي إلا بالملكوت. حلمت به وأرسلته في مداري وانعتاقي، فرد عليّ بتفاحات الأشياء. كل شيء أوقظه من عديمه، وكل صوتٍ أحميه من التردد في الفَناء. صوت العتمة يناديني، فأحلم به، وقبري مغارة الأوشام على جِلد الفراغ. وشم التنين غائر، ومعقد في التفاصيل، ويدمي سطحَ الفراغ، فتخرج الموجودات كالفقاعات الطريدة. ووشم الجمجمة شريرٌ كالظلام، يضحك في لا تناهي السكون، فتتردد بضحكاته الشياطين. الشيطان أعلَى، وهو سرطانٌ في عظام الله. تراه الأشعة، وتردد موجات الصوت أبعادَه الكظيمة. يكاد ضحكه يميت ولو لم تمسسه أجسامٌ، ولم تحوه المقادير. ظلام فوق ظلام يَكتُب، فلا يَقرأ إلا الموتى أحلامًا تتمدد دون حدود من دائرة العدم إلى دائرة الوحدة، والخوف، وقلب الحزن، وأفئدة الأعاصير الوليدة. هل موتٌ ذاك أم الأبدُ؟ هل يفني أم يحيا الأحدُ؟ أكتب، والإعصار يصفر، والذكرى تبحر، والأيام فرائدُ، والأذكار لهيبٌ فوق الجمرات، نباتٌ يبرق، فأراها تتوهج في وجهي. أنا منكَ أيا الله، ومنّي أنتَ. أنا آتٍ آتٍ آتٍ، لكَ يا.. يا من أُنذره ذاكرتي. وأنا آتٍ.
* * *
لا تثق بهم، أولئك الذين يعرفونكَ، ويسلمونك إلى الرومان، والزمان، والمكان، ويَخُونونكَ. لا شيء يخفى على شيء في كونكَ، ولا شيء يكونُكَ. أنت وحيدٌ، تعرف السر وتُخفي. أنتَ عزيزٌ، لا يحبك أحدٌ. وأنتَ أحببتني. هل السرطان نصركَ أم هو الموت المبين؟ هل هو الكاشف لحبك للبشر وعشقهمو إياكَ أم الناهي إياكَ إلى أبدٍ حزين؟ الموت نصر من لم تنصرهم الحياةُ، والحياة لا تنصر الأحياءَ، ولا تحنو على اليتامَى اللاهوتيين-مثلي-ولا تعتق الملحدين.
* * *
إن الشيطان الذي ينمو في عظامكَ لن يفلتكَ حتى تستمع إلى نهايات الأشياء، ولن يبقيك حتى تحيلني دكتورًا ملائكيًا، ولن ينتظر حتى ليصير هو نفسُه، أو يكون.
تَحَوَّلوا شيئًا.. أو حتى.. فاقتُلُونِ.
* * *
سيموت الله
سيموت ولن أراه
حين أعود إلى موطني
وأُخرج العصافير الحمراء من قبعتي
وأمد يدي في نهر الخلاء
وأتذوق طعمَ الوحدة
سيموت الله
وسيصير عظامًا
ولن أراه
مرةً.. أخرَى!
# # #
Köln
25.11.2014