الدرك الأسفل

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

الرباط، بار الشرف.
2002، يوم من أيام ديسمبر الباردة.
في ركنه المعتاد، يجلس (المامون) إلى مائدته وحيدا، عملا بحكمته المفضلة (لا تشرب وحيدا، فالشراب بدون رفقة يورث الاكتئاب، ولكن لا تنادم أبدا شخصا لا تحبه، وبالخصوص لا تنادم شخصا لا يحبك!!)
يدخن، يشرب، ينظر، يتلصص، يجول ببصره في المكان، بدا له الفضاء مثل ناد خاص، مألوفا وغريبا في نفس الوقت، في كل مرة يعود هنا يجد دوما نفس الوجوه، نفس الأشخاص، يجلسون إلى نفس الموائد، في نفس الزوايا، وكأنهم أصنام أو نماذج لشخوص شمعية.
الصحفي المذيع ذو الصوت المعدني، يشرب، يخاطب نديمه، يلوح بيديه، يتمايل، يتحرك جسده في كل الاتجاهات، هنا يبدو الرجل شخصا حقيقيا بعيدا عن صورته في التلفزيون، شعره المنفوش في تسريحة غريبة، وجهه الشاحب بدون ماكياج، ملامحه التي تحمل بصمات طفولة شقية وقاسية، قميص مفتوح الأزرار، وبدون رابطة العنق.
الرجل الكهل، محفوفا كعادته بنفس الفتاة التي تخطت بالكاد عتبة المراهقة.
شلة الطلبة الذين يحتفلون بطريقتهم الخاصة بنهاية الموسم الجامعي، وصرف منحتهم الجامعية الأولى أخيرا.
الأستاذ الجامعي المهووس بفلكلور الشيخات، فنون العيطة وأهازيج البوادي، والذي يحلم أن يكون وزيرا للثقافة.
البنكي المجذوب الذي يحضر بانتظام حلقات الذكر والتصوف في الزاوية البوتشيشية.
في الركن الأيسر للحانة وفي ركن منزو، يجلس الشاب المثلي بملابسه الملونة، تبدو حركاته الأنثوية محسوبة، خجولة وهادئة، يدخن ويرشف رشفات صغيرة من كأسه، يعبث بخواتمه والحلي التي تزين أصابعه ومعصمه الأيسر، يجول ببصره في المكان، يلقي نظرة خفيفة إلى الشارع، يختلسها من خلف الستارة، ثم يعود لكأسه.
ينظر إليه (المامون)، يتأمله، تتحرك هواجسه الدفينة، تطفو على السطح، لا يفهم لم يشعر نحوه بنوع من التعاطف؟ يعود بذاكرته إلى الوراء، ترتسم على وجهه بداية ابتسامة هادئة، تنمحي تدريجيا، يستعيد بداخله كل الحكايات التي تؤثث الكتب وكلام الناس، حكايات عن أشخاص ليسوا ذكورا، وليسوا إناثا، أو هم ذكور وإناث في نفس الوقت، يستحضر كل الأحكام النمطية التي ترسخت في أعماقه بفعل تربية عوجاء وقاسية، وحدها الكتب، والتجربة، واختبار الناس والحياة جعلته منفتحا وقادرا على الفهم والتسامح.
على بعد خطوات من الكونطوار، يجلس (الدرك)، فوق مائدته علبة سجائره السوداء وزجاجتي بيرة، وتحتها زجاجة نبيذ أحمر رخيص، يشرب من الصنفين بالتناوب، كانت تلك طريقته ليتحكم في فاتورة السهرة وليثمل بسرعة، في جلسات الشراب والمنادمة، يحلو له أن يتحدث عن أنواع الخمور، يتحدث عنها بنبرة الخبير، العارف والمجرب، يقول دوما.
– أتعلمون؟ البيرة مشروب جيد، تتمتع بمواصفات علاجية شتى، فهي محلول مطهر للجروح، فاتحة للشهية، مدرة للبول، منعشة في الصيف، دافئة في موسم الأمطار، مسكنة للآلام، تصلح علاجا للكلى والمسالك البولية والبرودة المزمنة التي تسكن المفاصل، تصلح لأشياء كثيرة، ولكنها بالتأكيد لا تصلح للسكر.
يتكدر (المامون)، تتكدر روحه، تجتاحه سحابة من مشاعر سلبية، يشعر بالقرف عندما تقع عينه على (الدرك).
(الدرك) شخص تسبقه سمعته السيئة، ويجر وراءه تاريخا حافلا بالوضاعة، ضفدع بشري هو تجسيد واقعي لحياة الوحل وحضيض المستنقعات، الخسة وقد ارتدت بدلة وتمشي على قدمين.
القليلون في المدينة يعرفون الاسم الحقيقي للرجل، والكثيرون لا يعرفون عنه إلا لقبه الغريب والغامض والذي يشكل النصف الأول من اسم شهرته، أما أصدقاؤه فلا يتحرجون في مناداته باسمه الجهنمي الكامل (الدرك الأسفل).
بدأ (الدرك) حياته موظفا صغيرا في مقاطعة (الحي الجديد)، يبتز المواطنين، ويسرق الطوابع الإدارية من ملفاتهم، ثم طرد من عمله ذات يوم عندما فاحت رائحته ولم يعد ممكنا التستر عليه، ثم ترقى تدريجيا، فانحدر عميقا إلى الحضيض، اشتغل سمسارا في المحاكم، ووسيطا في القضايا المشبوهة لمصلحة المحامين والقضاة الفاسدين.
أمامه مباشرة، وعلى بعد خطوة أو خطوتين يجلس الوزير (عبد اللطيف) على مقعد ألمنيوم عال، يتكئ على الكونطوار، يدخن سيجارة بغلاف رمادي مذهب، يشرب من كأسه على مهل جرعات خفيفة، وينخرط هو والنادل في حديث هامس.
يبدو الوزير رجلا خمسينيا أو يزيد قليلا، وجه وسيم بملامح صارمة وشارب ستاليني الشكل، وجنتان بارزتان تنضحان بنضارة الصحة وحرارة الخمرة، يلبس بشكل أنيق، أناقة تليق بلاعب تنس، حذاء رياضي خفيف، سروال جينز وقميص سبور نص كم، في معصمه الأيمن ساعة (فولكان) يدوية غالية بسوار جلدي أصيل، وفي يده اليسرى خواتم وسوار جلدي عبارة عن تميمة من النوع الذي يستعمله علية القوم لرد العين الشريرة والحسد.
ينظر (الدرك) إلى الوزير، يتعلق بصره بكأسه، يتأمل لونها، رغوتها، يتخيل عبيرها، يفكر بصمت، يراهن بداخله أن الأمر يتعلق بصنف من الخمور لا يعرفه، صنف غال لم يذقه أبدا.
عندما وقف الوزير يهم بالمغادرة، التفت، جال ببصره في فضاء البار وكأنه يبحث عن شيء أو شخص ما، التقت نظراتهما بشكل عابر، وجه له الوزير ابتسامة مختصرة، خاطبه.
– هذه الليلة اشرب مع راسك، كل شيء على حسابي…
غادر الوزير، ووقف النادل أمام (الدرك) بأدب مصطنع، وضع أمامه زجاجتي بيرة إضافيتين، ناوله بطاقة أنيقة، وقال.
– الوزير يبحث عن مدير لحملته الانتخابية، ويريدك أن تشتغل معه.
مرت لحظات قبل أن يستوعب الموقف، ملأ كأسه، عب منها جرعة، جرعتين.
نظر للبطاقة.
(المملكة المغربية.
وزارة الشباب والرياضة.
44. شارع ابن سينا. الحي الاداري. أكدال. الرباط)

بعد أيام، التحق (الدرك) بديوان الوزير، أيامها كانت الوزارات تعج بالموظفين الملحقين من كل صنف، مستشارون، خبراء، مخبرون، سماسرة، وسطاء، قوادون، وتجار انتخابات…
لا يملك (الدرك) أي مؤهل أكاديمي، فهو نصف أمي، ولكنه يملك ما هو أفضل، الذكاء، الدهاء، واستعداد يكاد يكون فطريا للطاعة والخضوع عندما يتعلق بمصلحته، ومصلحته ليست أمرا معقدا، فقد كان مستعدا لأن يعمل أي شيء مقابل حفنة من المال، والغريب أن الموضوع لا يزعجه، لا يحرجه، ففي جلسات الخمرة تتحرر عقدة لسانه، يضحك ساخرا من نفسه، ويصرح لجلاسه أنه فكر غير ما مرة في بيع والديه العجوزين بعد أن باع من قبل منزلهما البسيط، ولكنه في كل مرة يتراجع عن تنفيد فكرته، لأنه يعرف أن العجوزين لا قيمة لهما بمعايير السوق.

الصدفة وحدها قادت (الدرك) ليكون أحد (الخشيبات) المستعملة في الحملة الانتخابية للوزير بحكم أصوله الاجتماعية، فهو ابن المدينة القديمة، يعرفها كما يعرف جيوب بنطلونه، يعرف تفاصيلها شبرا شبرا، درب الحبس، الشعبة، الطلعة، العرايسة، بيرو عرب، الملاح، درب العلوج، الحفرة، الكدية، دوار الصفا، المرسى، السقالة، الحي البرتغالي، دار البارود…
استقبله الوزير في قصره الفخم المطل على البحر، جلس يستمع صامتا، مأخوذا ببذخ المكان، وشذى كؤوس العصير والخمر الغالي الذي يملأ عليه حواسه، يجلس الوزير على أريكة جلدية فخمة، خلفه وعلى بعد خطوات يقف خادمان قزمين ببدلة العمل الموحدة، رجل وامرأة بملامح جنوبية، يقفان هناك صامتين، جامدين مثل تمثالين، يتكلم الوزير، يشرح أهداف الحملة الانتخابية، وتقضي باكتساح انتخابي للأحياء الشعبية والفقيرة، والفوز بأكبر قدر من أصوات البسطاء والمهمشين، الأحياء منهم والأموات.
يشرح الوزير الخطة بهدوء كلبي عجيب.
تقضي الخطة بتزويج (الدرك) صوريا من القوادة (طيت فيد) أشهر (باطرونة) في المدينة، يعمل هو على استمالة أصوات المهمشين والمنحرفين والعاطلين الكسالى، وتعمل هي من جهتها على كسب أصوات البغايا وبائعات الهوى من الفتيات والنساء الفقيرات، ضحايا سنوات الجفاف وبؤس القرى والبوادي المنسية.
غادر (الدرك) قصر الوزير، وفي يده غلاف أصفر مطوي بعناية يضم أوراقا مالية، حزمة مالية له، وثانية لزوجته الأولى، وثالثة لزوجته الثانية، وعقدا شرعيا لزواجه المفترض.

مرت أسابيع، انتهت الحملة الانتخابية، فاز الوزير، غادر إلى العاصمة، وعادت المدينة لسباتها الشتوي.
توجه هو توا إلى المحكمة، ورفع دعوى طلاق.
وقفا صامتين أمام الحاجز الخشبي.
ينظر القاضي في الملفات الموضوعة أمامه، ثم يرفع بصره، ينظر إليهما بالتناوب من وراء نظارته الطبية السميكة، يتأملهما للحظات، تنظر المرأة، تلتفت، تجول ببصرها في القاعة، ثم تنظر جهة المنصة، ترتسم على وجهها خطوط أولية لتعبير غامض، شيء يشبه الابتسامة، بدا الأمر وكأنها لا تستوعب الموقف.
يسأله القاضي.
– أهذه السيدة زوجتك؟
– نعم سيدي القاضي.
– لم تطلب تطليقها؟
ارتسمت على وجهه ابتسامة ذئبية، بدا كما لو كان سعيدا بالسؤال، انمحت ابتسامته، تلاشت، وحل محلها تعبير غريب يستعصي على التصنيف.
– أنا يا سيدي القاضي بغيت ندخلها للقطاع الخاص، وهي مصرة تبقى في القطاع العمومي!!
نظر إليه القاضي نظرة استغراب، تأملهما مليا، مر وقت قبل أن يستوعب الأمر، ابتسم، وتم الطلاق.
غادر (الدرك) بهو المحكمة.
أمام البوابة الرخامية، يستوقفه رجل كهل، مجلبب، يحمل حقيبة جلدية طافحة بالأوراق والملفات، يخاطبه، يسأله بصوت واثق.
– كاين شي ما نقضي؟…ياك ما خاصك شي شهود؟
توقف للحظة، أشعل سيجارته السوداء، ومضى دون أن يلتفت إليه، في الخارج كانت أشعة الشمس دافئة وخجولة، مشى بتثاقل، وابتلعته أزقة المدينة من جديد.


تبدو حياة (الدرك) نمطية ورتيبة.
في المساء يطوف على حانات المدينة، يشرب على حساب أصدقائه، يأكل بقايا طعامهم، يتطفل على الغرباء، ثم في الهزيع الأخير من الليل، عندما يغادر الرواد وتفعل الخمرة فعلها في نفسه، يطوف على الموائد، يشرب كأسا منسية هنا، ونصف كأس مهملة هناك، يشرب بنهم ولا يتوقف إلا عندما يشعر أن جسده يستسلم، يتخلى عنه، ينسحب ويتركه وحيدا.
وقبل أن يغادر البار يمر إلى المراحيض، يقف أمام المرآة، ينظر إلى صورته، يحملق فيها وكأنه ينظر إلى شخص غريب لا يعرفه، يرسم على وجهه ابتسامة غريبة، تعبير يشبه الألم أو الاشمئزاز، ثم يلتفت إلى لفافات الورق الصحي، يسرقها، يضغط عليها، يطويها بعناية، يدسها في ثيابه ويمضي.
يتوقف للحظات عند بوابة البار المفتوحة، يتنفس بصعوبة، يستشعر برودة الطقس على وجهه، ينزل الدرجات ببطء شديد بحثا عن التوازن، ينحني قليلا إلى الأمام، ثم في حشرجة قوية ومسموعة يفرغ جوفه على الدرجات الرخامية فتصطبغ بسائل ملون ومقرف، ثم خطوة، خطوتين، تزل قدمه، ينزلق، يسقط، ينهار جسده، يتمالك نفسه، يقاوم، ينهض بصعوبة، يسقط مرة أخرى، ثم ينخرط في ضحك هستيري غريب، يصعد من أعماق جوفه صوت حيواني أقرب إلى النهيق، ضحك لا يشبه الضحك، ضحك لا يمكن أن يكون بشريا، صوت نابع من حضيض النفس البشرية.
يتيه في المدينة لساعات على غير هدى، يتسكع في أزقتها قتلا للوقت.
وأخيرا تنتهي رحلته الليلية مع الخيوط الأولى للفجر، تنتهي دوما في نفس المكان، أمام بيت زوجته، من يفترض أنها زوجته الأولى، يقف هناك غير بعيد، يسند ظهره إلى عمود كهرباء يتدلى منه مصباح أعمى ومعطوب، يدخن، يراقب النافدة وينتظر، وبين الحين والآخر يرفع كفيه إلى وجهه، يتشممهما، يتشمم أكمام سترته، يتقزز من الرائحة الكريهة التي تفوح منهما، يرسم تعبيرا بغيضا على وجهه، ثم يوجه إليهما دخان سيجارته.
ثم في لحظة ما، يشتعل ضوء الغرفة أخيرا، ينفتح الباب، ينصرف الزبون الأخير، ينصرف متسللا خفيفا دون أن يرفع رأسه، ينغلق الباب، ثم ينفتح مرة أخرى، تقف زوجته هناك على بعد خطوات، تناديه أن يدخل، ترفع سبابتها، تأمره أن يتخلص من حذاءه وجوربيه ويضعها بعيدا، تأمره في حركات صامتة دون أن تنظر إليه، وبنفس الصمت تشير إلى الحمام، ثم تعود إلى غرفتها.

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب