علي حسن
دراسة عبقرية عن الإبداع والمبدعين قدمها الدكتور “شاكر عبد الحميد” على طبق من ذهب للمبدعين، لهذا فإن عليهم أن يقرؤه بتمعنٍ وتريثٍ، وعليَّ أنا أن أختصر وأصيد اللآلي منه وإن كان الكتاب ممتلئ باللؤلؤ ومُتَرع بالمرجان! الكتاب من القطع الكبير، شمل على ستة فصول، في ٣٦٠ صفحة، أفرد المؤلف أحد عشر صفحة كاملة لذكر المراجع القيمة والمتعددة التي استعان بها! غلاف الكتاب للفنان عبدالرحمن الصواف وقد استخدم في تصميمه لوحتين للفنان العالمي “ڤان جوخ” تمثل الخلفية جزء من اللوحة الشهيرة “ليلة نجمية” بينما في المقدمة يظهر الوجه الشهير لڤان جوخ يحمل في عينيه وقسماته الذهول والغموض والحسرة! والكتاب صادر عن دار العين.
تناول الدكتور شاكر عبدالحميد هذا الكتاب بشكل استثنائي، ومهد له بتوطئة قيمة جعلتني أتهيأ للقراءة بالصفاء والشغف كما أتهيأ للصلاة بالوضوء والسكينة، وبداية يضع أمامنا مبدأ يجب أن نؤمن به قبل أن نتعمق داخل محراب هذا المُؤلَف القيّم فيقول: “إن كتابه ليس كتابًا عن الجنون، وليس كتابًا عن انتحار المبدعين، ولا عن الكآبة التي تصيب بعضهم، وهو أيضًا ليس كتابًا عن البهجة المفاجئة (الهوس) بل كتاب عن الإبداع والمبدعين، وعن اضطراباتهم، إنه محاولة كذلك لفهم بعض تلك العوامل التي تجعل بعض المبدعين يواجه الحياة بكل منغصاتها وكآبتها بل ويجعلها أكثر جمالا واحتمالًا وإنسانية، وقد تستمر محاولاته تلك حتى النهاية بينما يكف البعض الآخر عن المحاولة على نحو سريع وكأنه شهاب ظهر فجأة ثم إنطفأ”.
ثم يُقر الدكتور شاكر بأنه لا يعرف ما الذي دفعه تحديدًا لكتابة هذا الكتاب! ويسأل نفسه: “هل كآبة ما قد اعتملت في أعماقي بسبب بعض الظروف العامة أو الخاصة فدفعتني إلى محاولة فهم بعض تلك الأسرار الغامضة التي قضيت حياتي محاولًا أن أفهمها دون جدوى؟ أم رغبة فقط في أن أكون موجودًا على الحافة، أو أن أبتعد عنها، أو أن أكتفي بالنظر دون أن يُنْظَر إليّ؟ ربما كنت أحاول أيضًا أن أنظر إلى تلك الأعماق المخيفة التي تواجهنا جميعًا على أنحاء شتى، وبدرجات مختلفة، في هذه الدنيا، كما واجهها آخرون في أماكن أخرى وعصور أخرى، وتراوحوا بين تلك القمم الشاهقة وهذه السفوح العميقة”.
ثم بعد هذه الأسئلة يقول: “ليست لدي إجابة جاهزة عن أي شيء، فقد خرجت من هذا الكتاب وعقلي مزدحم بأسئلة أكثر من تلك التي كانت تدور بداخله قبل أن أبدأ في كتابته، وربما بجهل يفوق ما اعتقدت أنني علمته”. ولأن الحيرة مرض معدٍ، فلقد خرجت أنا الآخر أكثر حيرة من ذي قبل، وكنت راغبًا في وضع إبهامي على العلة التي تجعل أغلب المبدعين يصيبهم الاكتئاب، وأعرف سر نزعتهم إلى الانتحار فتبين لي أن الأمر شديد التعقيد بالغ التداخل والتشابك ويصيب بالاكتئاب!
يتناول هذا الكتاب الشغف والهوس والاكتئاب من منظور تاريخي من خلال قراءات متعمقة للميثولوجيا اليونانية والرومانية، ومن خلال أقوال حكماء وفلاسفة الإغريق، وكذلك من منظور علمي رصين فتحار في أمر هذا المُؤَلَف الضخم الذي يشكل مع جملة مؤلفات الدكتور شاكر من قبل مثالًا لا حصرًا (سيكولوجية الإبداع في القصة القصيرة، الطفولة والإبداع، السهم والشهاب، الأدب والجنون، الفن والغرابة، الغرابة.. المفهوم وتجلياته في الأدب، الحلم والكيمياء والكتابة) موسوعة علمية قيمة تضم دراسات نفسية وأدبية لا نظير لها في تناول المعاناة والهوس والإكتئاب والحزن الأبدي والجنون والفصام، وعلاقة كل هذه الأمراض النفسية بالإبداع والمبدعين. ولقد استخدم الدكتور شاكر عبد الحميد لغة عربية رصينة، لا هي لغة علمية جافة تُبعد وتُنفر مَن هو في الأساس بعيد ونافرٌ من العلم والأبحاث والدراسات الأكاديمية، ولا هي لغة أدبية صرف تدخل القارئ في دهاليز المحسنات والبلاغة المترهلة والتقعر. اللغة في هذا المُؤَلَف راقية منمقة وكأن أستاذنا الجليل يقدم للقاريء جرعة علمية وطبية وفنية وأدبية لا حد للإبهار أو المعلومات فيها ولكن بالشوكة والسكين!
في مدخل تاريخي؛ يتحدث الجنون المقدس، ويفسر لنا لماذا اختار الدخان ولماذا أردف عليه اللهب فكان عنوان الكتاب”الدخان واللهب”. فبعد أن شرح الدخان واللهب لغويًا وفنيًا، تطرق إلى تفسير العنوان تاريخيًا، إذ يشير إلى أنه ورد في طبعة خاصة للأعمال الكاملة للطبيب النفسي “توماس ويليس (١٦٢١ – ١٦٧٥) إشارات إلى مرض الهوس وشبهه باللهب والاكتئاب وشبهه بالدخان حيث قال: ” نحن نتذكر أن الأذهان كانت عند المكتئب سوداء وغامضة، لقد كانت تسقط ظلامها على صور الأشياء لتشكل داخل نور الروح ما يشبه صعود الظل، أما في حالة الهوس، فإن الأمر خلاف ذلك، إن الروح خلاله تترنح داخل وميض دائم، لقد جرفتها حركة غير منتظمة باستمرار، حركة تدمر وتمحق، ودون أن تكون هناك حُمى فإن حرارتها تشع”.
وتاريخيًا هناك اعتقاد يربط بين المس الشيطاني وبين العبقرية والإلهام، لقد اعتقد الإغريق أن الشيطان كائن له قدرات خارقة ينتمي إلى عالم الآلهة، حين يسيطر على الإنسان ويتلبسه ساكنًا عقله وجسدة وموجهًا سلوكه وأفكاره ومشاعره، فإنه بذلك يكون قد حوله من بشر عادي إلى عبقري ملهم! وللعرب اعتقاد يطابق هذا الاعتقاد تمامًا، لقد اعتقدوا أن الشيطان مسؤول عن الشعر والعبقرية، وأنه يسكن واديًا عظيمًا هو “وادي عبقر” مَن أراد أن يصبح شاعرًا يشار إليه بالبنان فما عليه سوى أن يمكث في “وادي عبقر” حتى تأتيه العبقرية ويمسه شيطان الشعر، بل جعلوا لكل شاعر شيطان، وقالوا أن الشياطين منهم الذكور ومنهم الإناث!
ومن هنا جاء الإلهام، وكانت العبقرية هي أعلى درجات الجنون ولكنه “جنون مقدس” وهوس مقدس أيضًا. يقول أفلاطون: “إن الجنون، أو الهوس فضلًا عن أنه يحدث بوصفه منحة قدمتها السماء، فإنه أيضًا الوسيلة التي نتلقى من خلالها النعم العظيمة، إنه شيء أكثر نبلًا من ذلك الحس الراكد، فالجنون يأتي من الله، أما الحس الراكد فهو أمر بشري محض”. وميز أفلاطون بين الإلهام الذي يعود إلى المنح الربانية وبين المهارة والصنعة التي هي خاصية بشرية. ولا يكون الشاعر حين يتلقى الإلهام في حالة عادية، بل يكون واقعًا تحت تأثير نوبة من الهوس أو الهياج الشديد، حالة من الحماس المقدس، وهو ذاته الهوس الذي يكاد أن يصل بصاحبه إلى مرحلة الجنون، مع ما يصاحبها من هذيان.
فما الهوس؟ وما الاكتئاب؟ يقول الدكتور شاكر أن الهوس طرف من الجنون، وهو مجموعة من الأعراض الإنفعالية المتسمة بالشعور بالبهجة والاستثارة، وقد تستمر لمدة أربعة أيام، وهو شغف زائد، فلت زمامه من صاحبه فيصل به إلى مرحلة الهوس المرضي، والهوس لا إرادي غالبًا، تغيرات في كيمياء وكهرباء المخ وهرمونات الجسد، فإذا استنزف الإنسان كامل طاقته في الهوس أصيب بالاكتئاب، فالاكتئاب إذن هو سوء الحال والإنكسار والحزن، هو الفقدان، فقدان الأمل وفقدان الأحبة والمال والطاقة والهدف والأمان، فقدان الرغبة في الحياة. والاكتئاب عكس الهوس، ويجيء بعد الهوس مباشرة أو العكس! فأحيانًا تفصل حالة من السواء أو السلوك العادي بين الهوس والاكتئاب، وكذلك فإن استمرارية كل حالة من هاتين الحالتين قد تكون متفاوتة، فقد يطول الاكتئاب ويصبح عنيفًا بينما فترة الهوس تكون قصيرة وغير ملحوظة، لكن النمط السائد بهذا الاضطراب الذي يسميه العلماء “الاضطراب القطبي الثنائي” يكون كما يلي: وجود فترة زمنية عادية، تعقبها حالة معتدلة أو قوية من الاكتئاب، ثم يتغير الحال إلى حضور كامل للمزاج الهوسي، ثم فترة اكتئاب ثم فترة من السواء، وقد يكون هناك أيضًا نوبات متتابعة من نوع واحد، إما اكتئاب فقط أو هوس فقط تتخللها فترات من النمط النقيض لها! وقد تحدث هذه النوبات بشكل مفاجئ أو تدريجي على أيام أو بطيء وموسمي تبعًا لمواسم وفصول العام.
بدأ الانتحار يحصد أرواح المبدعين منذ أن ألقى الفيلسوف الإغريقي “إنبادوقليس” (٤٩٠ – ٤٣٠ ق.م) بنفسه في بركان، فرد البركان في وجه العالم حذاء هذا الفيلسوف فقط وابتلع الجسد! وهناك مئات من العباقرة اختاروا أن ينهوا حياتهم بأيديهم، ولكن تفسير أسباب انتحار هؤلاء العباقرة ليس سهلًا، فعلى سبيل المثال المؤلف الموسيقي هوجو وولف من الحالات الأكثر تعقيدًا، فم يتم تصنيفه على أنه يعاني من اضطرابات نفسية إلا بعد وصوله إلى سن السادسة والثلاثين، وقد مات في الثالثة والأربعين بعد أن أصيب بشلل جزئي، وبعد أن تم احتجازه في المستشفيات لمرات عديدة، كما حاول الانتحار غرقًا فلقد عاش في فقر شديد وكانت حياته شديدة القسوة. أما شكسبير فلا يمكننا إلا أن نقول معه: “إن هناك شيئًا ما موجودًا في الجنون يمكن أن يقودنا نحو نوع ما من الفهم للعبقرية خاصة مع الشعراء”. ولسوف تصيبنا الحيرة إذا أردنا أن نعرف ما الذي كان يدور في عقل الشاعر الروسي “سيرجي يسنين” عندما قطع شرايين رسغه ذات يوم من عام ١٩٢٥ ثم شنق نفسه فجرًا وهو في الثلاثين من عمره مبدعًا محبوبًا ملء السمع والبصر. ما الذي جعل شاعرًا مثل بول سيلان الروماني ينتحر غرقًا في باريس، ولماذا قامت الشاعرة انجبودج باخمان النمساوية بحرق نفسها؟ ولماذا تناول مواطنها النمساوي جورج تراكل بتعاطي جرعة مضاعفة من الكوكايين ويموت وهو في السابعة والثلاثين؟ ولماذا ألقت البلغارية فلوربيلا أسبانكا بنفسها تحت عجلات القطار وهي في السادسة والثلاثين من عمرها، وفي يوم عيد ميلادها؟ ولماذا انتحرت الأمريكية سيكستون بالغاز في مرآب بيتها؟ ولماذا أطلق الروسي فلاديمير ماياكوفسكي النار على قلبه وهو في السابعة والثلاثين من عمره؟ وما هو الشيء المفزع الذي دفع الشاعرة الأمريكية الشابة سيلفيا بلاث بوضع رأسها داخل موقد غاز في بيتها وتموت وهي في الحادية والثلاثين من عمرها وتترك طفلاها يلعبان في أحد غرف البيت؟ لماذا قتلت الهندية رينيكا فازيراتي ابنها ابن العامين ثم تقطع شرايين رسغها لتموت؟ ما الذي دفع الياباني تاميكي هارا عام ١٩٥١ وهو في الرابعة والأربعين أن يلقي بنفسه تحت عجلات القطار في موسكو؟ أهو نفس الدافع الذي جعل الإيطالي تسيزاري بافيزي وهو في الثانية والأربعين أن يبتلع كمية كبيرة من الحبوب المنومة في حجرة قذرة داخل أحد فنادق روما؟ وشاعرة إيطالية هي إميليا روسيللي تقوم بصعق نفسها بالكهرباء في بانيو شقتها في وسط روما عام ١٩٦٦ وهي في السادسة والستين من عمرها؟ وهذا غو تسنغ الصيني يشج رأس زوجته بفأس ثم يشنق نفسه في إوكلاند بالولايات المتحدة، فما كان الدافع إلى هذا؟ أهو الدافع نفسه الذي جعل التركية نيلجون مرمرة عام ١٩٨١ بإلقاء نفسها من شرفة بيتها في الطابق السادس وهي في التاسعة والعشرين من عمرها ؟ هل الدافع نحو الانتحار في الغرب هو الدافع ذاته عند العرب؟ لماذا أطلق المصري منير رمزي النار على رأسه ليموت وهو في العشرين من عمره؟ ولماذا صب الشاعر أحمد العاصي مادة كاوية على جسده عام ١٩٣٠ بعد أن أهداه أمير الشعراء إحدى قصائدة وكان في السابعة والعشرين؟ لماذا أطلق الشاعر والمترجم المصري فخري أبو السعود ابن العشرين النار على نفسه؟ لماذا انتحر إسماعيل أدهم ورجاء عليش وأروى صالح؟ هل شاهد الشاعر السوداني عبدالرحيم أبو ذكري ما أفزعه فلاذ إلى الانتحار وألقى بنفسه من قمة مبني أكاديمية العلوم السوفيتية عام ١٩٨٩ وهو في الثامنة والأربعين؟ هل تعرض الشاعر العراقي إبراهيم زاير لشيء لا يُحتمل فأطلق النار على نفسه وهو في الثامنة والعشرين؟ وبالطريقة نفسها ينتحر الشاعر العراقي قاسم جبارة وهو في الثانية والثلاثين من عمره والأردني تيسير سبول وهو في الثامنة والثلاثين!
هؤلاء شعراء ولدينا فلاسفة ومفكرون قاموا كذلك بتنفيذ فعل تدمير الذات العنيف والنهائي تجاه أنفسهم أولهم الفيلسوف إنبادوقليس، وكذلك الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز والفيلسوف الفرنسي جي ديبور وفالتر بنيامين وسارة كوفمان وغيرهم كثر، لكن الواضح أن الفلاسفة لا يقدمون على الانتحار في شبابهم على عكس الشعراء! ربما لأن عقلهم يكون أكثر ميلًا للتأمل في أمور النفس والبشر والحياة، أما الشعراء فالإنفعال غالب عليهم والإندفاع مهيمن وإنهيار الأحلام أكثر سرعة وحضورًا وقوة وطباعهم وذواتهم أكثر رهافة وحساسة وهشاشة!
تعددت الأدوات والانتحار واحد، ووراء كل حالة موت غير عادية هناك إحباط عارم أعقبه إحساس عميق بالاكتئاب وبعدمية الحياة وعدم جدواها مع فقدان التوجه أو الأمل حيث لم تكن ثمة وسيلة ولا يكون من سبيل سوى الهروب أو القيام بتلك الوثبة الهائلة في أعماق المجهول! تعددت الأسباب ويبقى الاكتئاب واحدًا ويبقى اليأس عامًا ففي قلب المزاج الاكتئابي توجد البذور نفسها الخاصة بالنار واللهب والحماس والشغف، هكذا قال الشاعر الألماني فريدريك شيلر في “أنشودة للفرح” عام ١٧٧٦ التي آمن بها بيتهوفن فلحنها، وآمن بها الاتحاد الأوروبي فأقرها نشيدًا رسميًا للاتحاد.
في هذا الكتاب المذهل أيضًا اهتمام شديد بالدراسات والأبحاث العلمية التي أُجريت على عدد من المبدعين، ويتناول كتاب أرنولد لودفيج “ثمن العظمة” هذا الأمر ويورد استنتاجاته التي سجلها على عينة من المبدعين تم بحث حالتهم، حيث وجد لودفيج أن أعلى معدلات الاضطراب الإنفعالي كانت موجودة لدى الشعراء بنسبة ٨٧٪ ثم جاء كتاب الرواية والقصة القصيرة ثم الممثلون والموسيقيون والعاملون في مهن فنية أخرى. ولقد خلص لودفيج في دراسته إلى أن ثمنًا باهظًا ينبغي أن يدفعه الإنسان من أجل العبقرية، وأن هذا الثمن يتم دفعه وبنفقات عالية في ميدان الشعر على نحو خاص. وفي دراسة أخرى أجراها لودفيج على ألف مبدع وجد أن ٢٦٪ من محاولات الانتحار أقدم عليها الشعراء، بينما نسبة الممثلين ٢٣٪، والموسيقيين ١٧٪ والفنانين التشكيليين ١٤٪، وعبر تلك المجالات سجلت الإناث ١٧٪ بينما الذكور ٨٪.
لا يكتفي الدكتور شاكر عبد الحميد بالأمراض النفسية من شغف وهوس واكتئاب وفصام، لكنه يتطرق أيضًا في فصل كامل بعنوان مياه ونيران ورماد” إلى الكحوليات والمخدرات من حشيش وأفيون (حليب الفردوس) ويورد شهادات تجيب عن سؤال أزلي: “هل هناك علاقة بين الإبداع والمخدرات؟ هل الكحوليات تحرر طاقات الإبداع وتستنزل الإلهام وتستجلب السعادة؟ إن المخدرات والكحوليات تطلق هرمون السعادة “السيرتونين” ومع الإدمان يتم استنزاف هذا الهرمون تمامًا فيظهر السلوك الدال على الغضب والاكتئاب والعدوانية ثم الانتحار! يقول الشاعر والفنان الفرنسي “جان كوكتو” الذي أدم الأفيون: “أنا أفضل التوازن الصناعي على عدم التوازن على الإطلاق”. وهناك بودلير الذي لم يتوقف مطلقًا عن تعاطي مخدر الحشيش رغم أنه كان يتألم نفسيًا من هذا الإدمان!
بعد ذلك يأخذنا الدكتور شاكر ويلج عالمًا محفوفًا بالمخاطر والأهوال والعبقرية، عالم “فينسنت ڤان جوخ” أحد أعظم عباقرة الرسم على الإطلاق. لقد احتار الأطباء في تشخيص حالة هذا العبقري، فوصفوه بكل الأمراض النفسية والعصبية والجسدية! فقالوا أنه مريض بالفصام، والصرع والتسمم الكحولي، والبروفيا، ثم بالاضطراب القطبي الثنائي (الهوس – الاكتئاب). يقول ڤان جوخ: “نحن الفنانين في المجتمع المعاصر لسنا سوى جِرار مكسورة والجِرار المكسورة يصعب إصلاحها”! يروي الدكتور شاكر سيرة الحياة الخصبة لهذا العبقري، وعلاقته بأخيه الأصغر “ثيودورس” وبصديقه الفنان بول جوجان، وكيف قطع أذنه؟ وكيف انتحر؟ وأورد القصص التي تفسر هاتين الحادثتين، وهل قام بهما فنسنت ڤان جوخ بنفسه أم تعرض لحادثتي هجوم وقتل؟ ثم يختتم الدكتور شاكر الفصل السادس والأخير (قمم شاهقة وسفوح عميقة) باستعراض لبعض حالات المبدعين الذين وقعوا في براثن أمراض نفسية واضطرابات عقلية شتى، تختلف أسباب المرض من أحد لآخر، اختلاف ظروف حياته، واختلاف سمات شخصيته ودوافعه وأحلامه وصراعاته والوسط الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي عاش فيه كل مبدع من هؤلاء وهم الفنان الإنجليزي ريتشارد داد، الرسام الإنجليزي لويس وين، الموسيقار الألماني روبرت شومان، والروائية الإنجليزية فرجينيا وولف، والشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث، والروائي الأمريكي وليم ستايرون، وأخيرًا أحد أعظم كتاب الرواية والقصة القصيرة في العالم، إنه الأمريكي إرنست همنجواي.
هذا المؤلف العظيم وجبة دسمة تغترف فيها من كل ما يطيب لك سواء أكان هذا في الطب النفسي أو في مجال الدراسات والأبحاث العلمية الأكاديمية أو إحصاءات لجمعيات عالمية في مجال الطب النفسي، وكذلك من أدب السيرة الذاتية لعباقرة العالم من المبدعين الذين وقعوا في براثن أمراض نفسية واضطرابات عقلية اختلفت باختلاف الأسباب والظروف المحيطة بهم وكذلك باختلاف الزمان والمكان وعوامل الوراثة ومقومات الشخصية، فرجل مثل تشيرشل عانى من الاكتئاب منذ صغره وشبهه بالكلب الأسود ورغم ذلك قاوم وصارع هذا الكلب المصاب بالسعار وقاد دولته نحو النصر وخرج بها منتصرة.
يقول الدكتور شاكر: ” مع حضور الشغف أو غيابه نتحول إلى بشر من دخان أو إلى بشر من لهب، كذلك شعوب من دخان وشعوب من لهب، وليس هناك ما هو أفدح من قمع ذلك الشغف، أيًّا كان لدى الإنسان، أو قمعه لدى الشعوب، وجعلها تتخبط في وهدات الكآبة والحزن وغياب الأمل والخداع وفقدان البهجة وانكسار الروح”. إن المعلومات في هذا المُؤَلَف نهر هادر في مرحلة الشباب والعنفوان، ومع هذا تستمتع بالسباحة فيه، ثم تقرر من تلقاء نفسك أنه لا يجب أن تسبح مرة واحدة، بل تأخذك اللذة وتجبرك على معاودة الكرة وخوض النهر من جديد لتستزيد من هذه المتعة النادرة من الشاطئ إلى الشاطئ، وأنا لا أنكر أني استمتعت إلى حد جعلني أعيد قراءته ثلاث مرات!
إني أدعو كل مبدع يجد متعته في الكتابة أو الرسم أو العزف، ويمتلك موهبة حقيقية في أحد تلك الفنون أو جميعها أن يقرأ هذا المؤلف العظيم قبل أن يغوص في بحر الأبداع والإلهام، وفي الختام لا يسعني إلا أن أشكر العلامة الجليل الدكتور شاكر عبد الحميد أستاذ علم نفس الإبداع في أكاديمية الفنون، وعميد المعهد العالي للنقد الفني، ووزير الثقافة الأسبق على هذا العمل الجاد والعظيم، الذي أراه دبلومة علمية قائمة بذاتها في موضوعه، يحصل عليها كل مَن قرأ هذا الكتاب واستوعبه جيدًا.