“الخوف يأكل الروح” التقنية السينمائية في خدمة السرد الحلمي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 102
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد شريف

"أيها القارئ لو رأيتني في مكان ما فقل لي في رياء شديد العبارة الفلسفية المتقعرة التي تقبل المرح والتي هي أيضاً التجلي الحقيقي لعبارة أخرى لا تقبل المرح. إنه غموض يلوح به كاتب من بعيد من دون أن يتورط في غموض حقيقي يلوح فقط، كأنه تنويم مغناطيسي لناقد يقف قريباً متحفزاً - ليقبض على مفتاح يساعده في فك شفرة الكتابة". ليست هذه كلمات فلسفية. بل فقرة مجتزأة من رواية "الخوف يأكل الروح"، لمصطفى ذكري.

لعل هذه الفقرة وغيرها والتي يتحدث فيها الراوي / الكاتب عن الفن ومادة الفن ودور الكاتب والقارئ وتحفز الناقد وهو يقرأ العمل الأدبي وسرده فقرات من أعمال كتّاب آخرين، يجعلني أضع يدي على أولى الخصائص في رواية “الخوف يأكل الروح”، فكرة أن تكون الكتابة نفسها موضوع سؤال، اثناء كتابة العمل الأدبي. وهذه الميزة ليست في هذه الرواية فقط، ولكن في الأعمال السابقة للكاتب أيضاً مثل: “تدريبات على الجملة الاعتراضية” المجلس الأعلى 1995، “هراء متاهة قوطية”، شرقيات، 1997.

طرحت الفكرة في العملين السابقين في أشكال عدة، غير إنها تعمقت في “الخوف يأكل الروح”، وأخذت مساحة كبيرة، لدرجة أن هناك اجابات تبدو منطقية جداً في ردها على الاسئلة التي كان الكاتب قد طرحها على نفسه والنقاد والقراء، مما دعا البعض الى اعتبار القسم الأول من الرواية، منفصلاً عن بقية العمل، ولم يكن انفصالاً قدر ما هو تجريب داخل بنية العمل الكلية. ومن الاسئلة الجوهرية التي طرحتها الرواية.

سؤال رئيسي لم ينفصل عن سؤال الكتابة، أعني به، مدى حرية الكاتب اثناء كتابة الرواية؟ وهل مرونة الرواية وقدرتها على ابتلاع أشكال أخرى في داخلها وصيرورتها الدائمة، تعطيان للكاتب مجالاً للتجريب كيفما يشاء؟ لقد وصف ميخائيل باختين الرواية بالمرونة، لكنها المرونة البلاستيكية، أي أن هناك خطوطاً ومواقع ثابتة ومتماسكة، تعتبر بمثابة الأسس، غير القابلة للتجاوز أو العبث وإلا ستعم الفوضى.

اثناء قراءتي للقسم الأول من الرواية خرجت بانطباع أول مفاده أن الراوي/ الكاتب، ينتابه حنين الحكي/ السرد، من دون تعليق، رغبة في إطالة زمن الحكي. والسؤال الآن هو، هل هناك رغبة عند الكاتب في اكتمال حكاياه وابتعاد الراوي المثقف والمتشظي عن جو الأحداث، مع الاحتفاظ بخاصية التجريب؟ معادلة صعبة بلا شك، لقد اضفت اسئلة الى اسئلة أخرى، على أية حال نعلم جميعاً المقولة القيمة التي تقول، إن الأدب، رؤية الأديب للعالم، ومن ثم فالأدب ليس شكلاً فنياً قدر ما هو بحث عن الحقيقة والمعرفة. من هنا تظهر أهمية أن نبحث ونجرب ونطرح اسئلة مغايرة.

أنتقل الى ملمح ثان في الرواية، وهو ما يسمى التناص أو الانفتاح على نصوص أخرى تدخل في نسيج العمل، سواء منها ما يخص نصوص الآخرين أو الكاتب نفسه. في ما يخص نصوص الآخرين، يستشهد الراوي / الكاتب بأقوال وعناوين أعمال أدبية وأفلام لكتاب ومخرجين مثل، بورخيس، هنري ميللر، سرفانتس، انغمار برغمان، هيتشكوك، أبي منصور الثعالبي النيسابوري، الحافظ جمال الدين. المسار الثاني، انفتاح “الخوف يأكل الروح” على نصوص الكاتب نفسه ولا سيما على عمليه السابقين: “تدريبات على الجملة الاعتراضية” و”هراء متاهة قوطية”، تتكرر في الرواية قصة الشقيقات كما جاءت في مجموعة تدريبات.. كذلك بعض القصص التي وردت في المجموعة والرواية، كـ”حديث الصورة”. يوجد في الرواية ايضا، رجوع الى المكان نفسه الذي دارت فيه أحداث “هراء متاهة قوطية”، اذ تدخل النصوص السابقة في بنية العمل الجديد مع تغير في الموقع والرؤية وإضافة أو حذف بعض الجمل والمشاهد بما يتناسب مع البُعد الجمالي والفكري للرواية.

هذه الميزة تقودنا للتمهل قليلاً عند تقنية رواية “الخوف يأكل الروح” فالكاتب يكرر بعض القصص والمشاهد، معتمداً أسلوب القطع ثم العودة الى نقطة البدء. أسلوب التكرار، يتطابق مع الحكي الشعبي، خصوصاً الليالي أما الثاني، فأسلوب سينمائي. ويتبقى ان اقول في شأن التقنية، إن الكاتب ينوع في السرد والحكي: مرة يستخدم سرداً عادياً، ثم أسلوب السيناريو معتمداً على أدق التفاصيل ومرات على الإحالة الى نصوص الآخرين والتأمل في ماهية الرواية وجدوى الفن. ولا شك أن هذا التنوع أعطى ثراء وزاد في الرقعة الزمنية والمكانية التي تتحرك فيها الرواية.

وثمة إشارات ضوئية، تبرق بين ثنايا الرواية وأحب أن أشير إليها، أولاً: فكرة أن يتحول الكاتب الى مادة للحكي كسائر الشخوص. يمنح هذا الأسلوب بعض السخونة لأحداث الرواية وربما يضفي نوعاً من الصدق الفني المتخيل على الواقع، ألم يطمح الراوي / الكاتب في عمله السابق “هراء متاهة قوطية” أن يسقط في كتاباته كل الحواجز بين عالم الكتابة والواقع المعيش؟

ثانياً، الإحالة الى نصوص من التراث العربي، “فقه اللغة” لأبي منصور الثعالي، “أخبار الحمقى والمغفلين” للحافظ جمال الدين. وفكرة الإحالة الى نصوص التراث العربي ليست في هذه الزاوية فقط بل في أعمال الكاتب السابقة، كنوع من المفارقة والسخرية في آن، اذ أن الكاتب يكتب نصاً موغلاً في التجريب وفي الوقت نفسه يشاكس التراث ويلعب معه.

ثالثاً، الميزة السابقة ترشدنا الى فكرة المفارقات الساخرة في الرواية، والمفارقات الساخرة لها مساران: أ – مسار داخلي يعتمد على السرد المبني على أسلوب تهكمي من شخوص الرواية والكاتب نفسه. ب – مسار ثان، يعتمد على استنفار سخرية القارئ والناقد ووضعهما معاً في حالة تقع بين السخرية والجدية في استقبال الرواية.

رابعاً، انفتاح النص عند مصطفى ذكري، وتوقع أن يكتب نصاً جديداً من حيث انتهى القديم. أو إعادة كتابة النص القديم بشكل ورؤية مختلفين، فالنص عنده قابل للتطرق اليه وإعادة تشكيله مرة ومرات.

خامساً، فكرة أن يصير المكان صعب الحياز والوصف “لشد ما أحببت الأماكن التي تدخل فلا تعرف إن كان الوقت ليلاً أو نهاراً” يقول الكاتب، هذا المكان يتماثل مع الزمن الليلي، شبه الدائري، الذي تتحرك فيه الرواية بأحداثها وشخوصها.

سادساً، رجوع الأشخاص من خلال آخرين مع اختلاف الاسماء، جورج، توني، نانا، سعدية، الأم، فيليب كلود، فان فيليب، “هناك إنسان يحمل اسمين وهناك شارع يحمل اسمين وهناك بحر يحمل اسمين وجود أكثر من اسم للشيء الواحد – يغري أحياناً بالرفاهية والترف وفي أحيان أخرى بمرور الزمن، معنى أن يحمل الشيء أكثر من إسم – هو تأكيد وجود هذا الشيء”.

أما عن علاقة الكاتب بالسينما، فإن مصطفى ذكري من روائيي هذاالجيل المهتمين اهتماماً كبيراً بالسينما فهو كتب سيناريوهات لأفلام عدة، وكتاباته يستخدم فيها ثقافته السينمائية، عنوان الرواية “الخوف يأكل الروح” اسم لفيلم ألماني، وفي الرواية سرد لأسماء مخرجين مثل، كلود لولوش، انغمار برغمان، هيتشكوك، وأفلام بعينها، “رجل وامرأة، حديقة الديناصورات”، وعدد كبير من مصطلحات السينما.

قلت إن دخول تقنيات السينما في “الخوف يأكل الروح” يرجع لممارسة الكاتب وعمله في مجال السينما، لكن السبب الأهم، أن زمن السينما وتقنياتها يناسبان أجواء روايات مصطفى ذكري واهتمامه بفكرة التجريب داخل العمل الأدبي. فزمن الفيلم يكون قصيراً، وعلى رغم ذلك فهو يطوي داخله الماضي والحاضر والمستقبل، لأنه زمن متعدد الأبعاد. تقنية السينما السريعة التي ترتكز على اللقطات القصيرة والطويلة وعلى تكثيف الاضاءة تناسب جو روايته، تلك الأسباب أدت الى تقارب وتفاعل بين السينما وتقنياتها وأعمال مصطفى ذكري.

تظل في الرواية بعض الخصائص، سأحاول تحليلها:

1 – اللغة: لغة مصطفى ذكري، لغة بعيدة عن التراكيب المعتادة والصياغات الجاهزة. هذه اللغة “الطازجة” تساند بقوة رغبة الكاتب في التجريب والبحث عن أشكال جديدة. تلك اللغة في بُعد من أبعادها، تحاول تسريع زمن السرد وتحرير الراوي من عبء حكايته.

2- الحلم: وأنا أقرأ “الخوف يأكل الروح” استشعرت رغبة الكاتب في سرد حلم طويل، لا يريد الخروج منه. تيمة الحلم ظهرت واختفت في درجات متفاوتة في العملين السابقين، وكأنه أراد اعطاء مساحة للواقع المعيش في عمليه السابقين، كي يتحرك فيها هو وشخوصه. ويبدو أنه ارتأى في هذه الرواية العيش مع شخوصه وحكاياته داخل حلم.

3- الحوار في الرواية شديد التكثيف والرهافة، ومن البدهي أن رواية بمثل هذه التقنية المعتمدة على اللقطات القصيرة السريعة والعبارات الموجزة، أن يصير الحوار فيها مركزاً. لكم تمنيت أن تطول بعض الحوارات في الرواية، ولا سيما الحوارالذي دار بين الراوي وصديقه المريض وهو في طريقه الى الموت.

4- يلجأ الكاتب الى أنسنة الاشياء، كأن تبذل مدام “نانا” مجهوداً مضنياً للسيطرة على ظلها المشاغب. كذلك كلب العائلة السيد “توني” يندمج داخل نسيج عادات الأسرة، وليس “توني” وحده بل الفأر السمين الذي التقاه الراوي على درجات السلم. وقد تحول قاطناً من قاطني البيت الغريب الممتلئ بالدهاليز والممرات والغرف السرية المحتشدة بأشياء متحركة وفاعلة.

5 – تنبع خصوصية القسم الأول من الرواية، من الغموض المؤطر للأحداث والأشياء، ذلك الغموض أدى الى جاذبية شدتنا لمتابعة رحلة الراوي حتى بيت “جورج”، جاذبية مادتها الأساس كانت، البيت القديم الهادئ، الليل، “جورج” وكلبه، “نانا” وجنونها، الضوء الأزرق، مقابض الأبواب، السقف، اللوحة الزيتية ذات الوجه الجاحظ العينين، القبو المعتم، التابوت، الساطور والقرمة الخشب، رائحة الموت.. أشياء متباينة جعلها الكاتب المرجعية التي شكلت وصنعت مشاهده في القسم الأول من الرواية، مما ساعد على خلق جو من الغموض والجاذبية امتد ظله حتى الصفحات الأخيرة.

في مرحلة فض الاشتباك مع هذا العمل الشائق والشائك معاً، ينبغي القول إن مصطفى ذكري أدخلنا قلب عالمه، بلا مقدمات، لأنه لا لزوم لمقدمات في عالم تفتت، ولا لزوم لسرد حكايات محكمة النهاية في عالم يثبت يوما بعد آخر إنه غير قابل للانتهاء.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم