أصبح الفنان والكاتب المسؤولين أمام قانون هذا العالم الأخلاقى اليائس، والذى لا يعترفان به. استسلما ليأسه وبل وتعالا عليه. توارثت الأجيال، التى عاشت فى أزمنة بلا ثورات، هذه اللا مسؤولية، بل طورتها باتجاه تثبيت الانفصال بين عالم الفنان والكاتب وبين عالم الناس والاستهلاك. ونشطت مجموعة من التنظيرات لإضفاء المزيد من الحماية على الفن والأدب وعالمهما الغامض المجهول. لكن ظلت الثغرة موجودة باستمرار أنه يمكن فى لحظة ما أن يصدق التاريخ، ويتحقق المستحيل، ونعيش زمن الأسطورة القديمة للأدب، وتحدث الثورة. وهو ما لم يكن فى حسبان أحد. وهى دائما بعيدة عن الحسبان.
الثورة، تلك الكلمة التى أصبحت أسطورة، ولم نصدق أننا سنعيش داخل هذا الخيال والخلاص الذى أمنا به يوما ما، ونراه عن قرب هكذا، ونرى التاريخ ودوافعه ومكوناته بشكل مرئى كأنك تضع يدك فى تيار الزمن، ليعبر هذا التاريخ من بين أصابعك.
جاءت الثورة كورطة لمفهوم الحرية الذى آمنا به. ربما من طول غياب التغيير الثورى أصبحت الحاضر الغائب، ولم تتحول إلى نص ملهم للأدب والفن والعلوم الإنسانية، ولتصوراتنا عن الحياة بشكل عام. ألم يحن الوقت بعد لكتابة أعمال كبيرة والبدء فى مشروعات فكرية كبيرة بعد أن تغير مؤشر الزمن، ولو لبعض الوقت، وتحركت مجتمعات من رقدتها الطويلة؟ ألم يحن الوقت أن تنتقل التضحيات والجرأة فى شوارع الثورة الخلفية والأمامية إلى صميم النوع الأدبى، وباتجاه تقصى أفكار دقيقة عنه، وعن صانعه، وعن المسافة الجديدة التى يقف عليها من المجتمع؟ ألم يحن وقت الإخلاص، دون تواطؤات، سواء تواطؤات الأفكار، أو تواطؤات الدعة والراحة، أو تواطؤات الروابط الإنسانية التقليدية؟ ألا تدفعنا الثورة لسفر طويل داخل حياتنا؟
ربما جاءت الثورة لتحدد المسافة العادلة بين الفرد/ الفنان/ الكاتب، وبين المجموع، ليختفى العنف القديم المتبادل بينهما. إنها لحظة مكاشفة بين الفرد والمجموع، كل منهما يتعلم من الآخر، لأن كلا منهما ضحى، أو من المفترض أن يضحى، فى سبيل بقائه. تضحية المجتمع واضحة، أما تضحية الفنان أو الكاتب فهى المنتظرة.
هل قطار الفن والأدب ليس له محطة نهائية يتوقف عندها؟ هل سيستمر هذا السيل من تداعى الأحاسيس والصور؟ هذا الفن الذى يوسع ويعدد صور الحياة من حولنا، لذا هو يضاعف من كثافة الإحساس عند الفرد والمجتمع، بشكل عام. لا يهديه الطريق، لكن يشعره بكثافة اللحظة، بجودتها لا بكمِّها. زمن خاص داخل زمن عام، للاستمتاع أو للحضور وسط هذا المحراب الإنسانى المقدس. الفن، أو الأدب، يضع الإنسان على الطريق بلا أمنيات مؤكدة، لأنه استبدلها بهذه الكثافة، بالمتعة، والتمثل لحياة أخرى. ربما هى أقصى أمنياته لأنه يخرج عن عقل بشرى فان.
الثورة تخرج أيضا عن عقل بشرى أو جمعى فان، فإنها تبحث عن المتعة، عن التجديد، عن بث الرغبة فى كل من يتكلم عنها، خصوصا الأدب والفن. حتى لا تتحول الكتابة، أو الفن، إلى مرثية كبيرة للنفس، ولتقوم بدورها فى مواجهة الموت والفناء بجرأة الوعى والتفكير والحدس. إنها تبحث عن متعة الكشف وتعميق الأواصر بالحياة ورموزها، ولتحرير تلك المادة الداخلية والجوهرية للوجود، تحرير الحب.
بين الكاتب والمجتمع الآن مرجع جديد وحديث، وهو الثورة. لقد تساوى المجتمع ليقف فى المكان الذى كان يطمح له الكاتب أو الفنان، حتى ولو كان هذا المكان نفسه كاذبا، لكنه صنع حقيقة أقوى من أى حقيقة مادية أخرى. الآن المجتمع داخل لحظة عادلة فى النص الثقافى وعلى قدم المساوة مع الكاتب والفنان والمثقف. لقد سدد دينه بتضحيات مدفوعة من لحمه وقوته، لذا، المجتمع، يستأهل أيضا تضحيات من كتابه وفنانيه، ليوسعوا أمامه المجال للشعور والاستمتاع بكثافة حياته القصيرة على الأرض.
هناك لحظة حرة تختفى وتنتظر وراء ستائر الثورة الكثيفة. لحظة إخلاص حقيقى، ليست سياسية فقط. يمكننى للمرة الأولى أن أفهم معنى كلمة «خلاص»، لا أن يتم التضحية بالحياة نفسها، أو أنه يعنى الموت، إنما يعنى الحياة بكثافة عبر أحد طرقها العديدة، ومنها الفن والأدب. الثورة فتحت هذا الطريق للخلاص الجديد.