أحمد ثروت
على الجانب المقابل من الشارع العريض، يتزاحمون في دوائر بشرية متداخلة. أعبر في فضول اتسمتُ به، ربما منّت علينا الحكومة بقوارير زيت مجانية. الزحام الذي ينمو كل دقيقة ينبئ عن علب من التونة الزهيدة. أدهشني عدم وجود عربة ضخمة كشاحنات الحكومة المميزة بطلائها الرمادي، يقف أمامها وحولها المتزاحمون. كلما اقتربتُ كلما اتضح الزحام، كلما اندهشتُ من عدم ظهور ما يزدحمون من أجله، كانت الرؤوس والأجساد تتضح ويتناقص معها اتضاح الموقف، لكنني مستعد لكل الاحتمالات، أملك خبرة تمكنني من اجتياز الزحامات، وأملك حافزاً، أربع بطون غير بطني التي تزوم من الصباح، هذا حافز لا ينبغي تجاهله، بل يجب تقديمه في أوائل الأمور ورؤوس المواقف الصعبة.
كتفاي وذراعاي يزيحان الأجساد من حولي، بينما ترمي أقدامي نفسها للأمام بأي طريق وبكل طريقة، ولم يك هذا عشوائياً، بل كان تنفيذاً لتخطيط واع مدرك للحدث؛ فيجوز لك أن تزيح طفلاً ضئيلاً أو عجوزاً متطفلاً من أمامك تماماً، كما يجوز لك أن تقرص امرأة فتبتعد صارخة، أما الرجل الأصلع أو ذو الشارب فلتوجه له سؤالاً دوماً، دعه يفكر في شيء آخر غيرك، أو فلتكتف أحياناً بتحية كتحية قاطني الشوارع و أصحاب الحرف الباهتة.
وصلتُ للدائرة الأكثر ضيقاً، ولم يكن في مستوى ناظرّي شيء، لكنني انتبهت لارتفاع صوت النباح الذي كان رمادياً في الخلف، فنظرت متمهلاً نحو مصدر الصوت لأجد كلباً مقيداً من رقبته بسلسلة حديدية صدئة غليظة، تمتد حتى عمود النور الذي يبدو ضخماً خلف الكلب، ويبعد عنه نصف متر تقريباً، ثم تلتف السلسلة حول العمود مرات عديدة ينهيها قفل حديدي لامع. الكلب ينبح بصوت هادئ للحظات ثم يصمت مطأطئا رأسه نحو الأرض؛ لا يفهم و لا أفهم أنا.
لمّا سألتهم كانت الحكايات تزيد فهمي غموضاً، لا أجرؤ حتى على استيعاب الحقيقة، قالوا إن صاحب الكلب تعرض لهجوم مدبر من أصدقاء سابقين، دافع الكلب عن صاحبه، عضّ المهاجمين وجرحهم، هكذا أنقذ الكلب رجله، لكن المهاجمين وأهاليهم ينشدون الثأر، يجب أن يسلّم صاحب الكلب كلبه لهم؛ و إلا فليتحمل هو العقوبة وحده.
الكلب كان صغيراً وصاحبه كان طفلاً، لعبا وامتدت تحت أقدامهم الأرض سوياً. أنقذ الكلبُ الرجلَ. سيتركه صاحبه لأعدائه؟، إن لم يمنحهم الكلب عاقبوه هو..، كاد الكلب أن يضحي بروحه من أجل صاحبه فعلياً، لقد أراد هذا حين هاجم الأعداء، أي غم هذا يا الله، أيُقتل أحدهما ليستقيم الأمر وتستمر الحياة؟.
تعالت صيحات القوم تدريجياً “هووه..هووه”، قلدهم الصغار المنتشرون كقطيع أرانب متناثرة، واتحدت الصيحات في صيحة غليظة متكررة “هووه..هووه”. في أقل من لحظة اندفع أحدهم بسكين طويل مقوّس ضارباً به ظهر الكلب وجزءاً من رقبته، فارتفع نباح الكلب صارخاً، لكن الصبي جواري لم يمهله لحظة أخرى واندفع في رشاقة وثقة يخبط بساطور عريض قفاه. كان الكلب يعوي وينبح، تدور عيناه في كل مكان باحثاً عن شيء ما أو شخص ما، كانت عيناي مفتوحتان لأقصى حد، نبضات قلبي تعلو العواء والصيحات الوحشية، الكلب يدور بسرعة حول نفسه و حول العمود، يحاول مهاجمة الضارب فيقذفه أحدهم بكتلة خشبية محشوة بالمسامير، أو ترشقه امرأة بحجر، يهاجم و يدافع و يدور بينما عيناه لا تكلان من البحث بين الحشد الرهيب.
كأنما ابتسم الكلب لوهلة، نظر نحو شخص ما، كان شاباً منزوياً وسط الدائرة الأخيرة، لا أعرف كيف اكتشفتُ أن شعاع عين الكلب يتجه نحوه وحده، متناسياً المقتلة التي تحيطه، وتريده. مؤكد أن الكلب يعرفه، مؤكد أن هذا مالك الكلب وصاحبه، كان الكلب يبدو فرحاً هادئاً رغم العذاب الأليم، تلمع عيناه وتمتد قوائمه لاحتضان طفولي منتظَر، حين نظرت لصاحب الكلب أشاح برأسه بعيداً عن المشهد، أدار جسده و ذهب.
كان عواء الكلب هذه المرة كبكاء طفل تركته أمه لضباع وحشية، يدور ويدور، حول نفسه و ول العمود، ينظر لمكان صاحبه ويعوي بغم شديد، وهم يضربونه بعصي وأسلحة بيضاء.
دماء لزجة دافئة لمست أصابع قدميّ متخللة الحذاء الرقيق، لم يستمر المشهد سوى دقائق، أنهاه طفل بحجر ضخم فوق رأس الكلب الصامت.
….
نوفمبر 2018