الحياة على صفحة بيضاء

art
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

دينا خالد

أوشك الليل على الانتصاف، بيتي هادئ لا يقطع سكونه سوى صوت إذاعة القرآن الكريم متداخلة مع صوت أنفاس صغيريّ المصابَين بنزلة برد شديدة تجعل من السهل الاستماع لصوت أنفاسهما.

أما أنا فأجلس بينهما أراقبهما خوفا من ارتفاع درجة حرارة أي منهما، يكاد النوم يغلبني فأقرر البحث عن صديقة أقضي معها بعض الوقت. لا أذهب إلى خانة الاصدقاء المتصلين بالإنترنت على الفيسبوك ولا أفتح الواتساب أيضا، بل أفتح صفحة بيضاء لأكتب بها.

قبل ستة أعوام وضعت ابنتي البكرية، تخليت حينها بكامل إرادتي عن عملي كأخصائية تحاليل طبية، جعلت أولويتي الاهتمام بها ساعدني في ذلك القرار راتبي الزهيد الذي لم يتجاوز بضع ورقات نقدية من فئة المئة جنيه.

تخليت عن عملي فتخلت متعة الإنجاز عني ووقعت في حفرة عميقة لم أتوقع وقتها الخروج منها يوما. شيء واحد كان يساعدني في الخروج ولو قليلا من ذلك الثقب الأسود؛ الكتابة.

كنت أنتظر نوم صغيرتي وأكتب في أي ورقة أمامي، أكتب خوفي عليها ومشاعر قلبي تجاهها، أكتب أخطائي التي كنت أظنها السبب الوحيد في أي مرض يصيبها، أكتب عن وحدتي وتخبطي في الاهتمام بشؤونها وفشلي في وضع أقماع شرجية لها… أكتب وأكتب وأكتب فأنام هانئة كمن تخلصت من شوكة كانت تعترض حلقها.

بعد عام قررت العمل بالكتابة، راسلت المحررين من خلال صفحاتهم الشخصية عبر الفيسبوك لأنني لم أكن أعلم طريقة أخرى للتواصل، كان الرفض هو الرد المباشر يليه التجاهل التام فمن ذا الذي يعين كاتبة لأنها تكتب عن نفسها وابنتها؟

بعد عدة محاولات نجح الأمر وبدأت العمل مع أحد المواقع العربية، كان الأجر زهيدا للغاية لكنه كان أفضل من لا شيء والأهم أنه مكنني من الكتابة باستمرار.

لم أكن أمتلك “لابتوب” حينها فاكتفيت بالكتابة من هاتفي الجوال، لكن الكتابة كصديقة ناضجة عرفتني حدودها التي علي الالتزام بها.. لا بد من الكتابة وفقا لتحسين محركات البحث(السيو)، كما يلزم تنسيق الصور وضبطها لتكن حصرية، والاعتماد على المصادر الأجنبية في البحث ورفع المقال بالنهاية على الوردبريس… كانت تلك الطلبات- في حينها- كطلاسم ورقة سحر لا أفهم ما بها.

لكني كنت مصممة ألا أترك فرصة الكتابة، فكان عليّ الاستعانة بشريك النجاح “يوتيوب”.  البحث والمصادر المجانية وحب التعلم الذاتي كانت مفاتيح النجاح… أكتب يوميا وتتوطد علاقتي بصديقتي الكتابة.

تكبر ابنتي قليلا وتنتظم مواعيد نومها فأكتب أكثر، أكتب للعمل وأكتب لنفسي، أكتب للعمل على الوردبريس وأكتب لي في دفتري الخاص، أكتب للعمل ملتزمة بكل القواعد حتى تظهر مقالتي في الصفحة الأولى لمحرك البحث جوجل وأكتب لنفسي من دون أي التزامات أو قواعد أو هدف فأتخفف وأتطهر كمن خرج للتو من محراب بعد الانتهاء من صلوات لتطهير النفس.

في مراحل عمري المختلفة فشلت في الاحتفاظ بأصدقاء يتنقلون معي مرحلة تلو الأخرى، فأصدقاء الدراسة لم أصحبهم في المرحلة الجامعية، ومن صادقتهم في الجامعة لم يتنقلوا معي لمرحلة العمل.. أما بعد زواجي فلم يعد هناك من يمكن أن أسميها صديقتي.. في كل تلك المراحل كانت الكتابة هي الرفيقة التي لم أتمكن من الابتعاد عنها وهي أيضا لم تنشغل عني يوما.

ساعدتني الكتابة في فهم نفسي والتعرف على مشاعري، مكنتني من رؤية نجاحاتي وتفوقي فكانت حجة عقلي عندما تهاجمني نوبات تدني تقدير الذات، عرفتني عيوبي وجعلتني أقدم النصيحة لي فارتقي دائما… لكن أهم ما فعلته الكتابة هي أنها “سمعتني” سمعت لي من دون أحكام ولا خوف ولا مقاطعة ولا أي شيء فحولت الأساطير عن الصداقة واقعا ملموسا.

في العمل بالكتابة تنقلت من موقع لآخر وكتبت في العديد من المجالات وبقي دفتري معي أدون به لنفسي، لكنها سُنة الحياة وقلة المقابل المادي وطبيعة العمل الفريلانسر فكان لا بد من طرق نوع آخر من الكتابة فكانت الكتابة التسويقية.

قبل عام من الآن أو أكثر قليلا بدأت بتعلم الكتابة التسويقية والتسويق، وكشخص يحب الإبداع وجدت نفسي بالمجال وحققت به نجاحا لكنه سحب مني بهدوء إمكانية التعبير عن نفسي بالكتابة، خاصة أني وضعت ابني مع بداية تعلمي ذاك النوع من الكتابة فكان للسهر بالرضيع وتغيير الحفاضات ومنح الفيتامينات رأيا آخر.

قبل بضعة أسابيع أتم صغيري العام ونصف فأصبحت مواعيد نومه أكثر انضباطا وعدت معها لكتابتي الشخصية، صحيح أن الاهتمام بصغيرَين أمر مرهق للغاية خاصة مع قضاء النهار في كتابة الواجبات المنزلية والذهاب للتمارين والإجابة عن الأسئلة الوجودية لابنتي، ومراقبة صغير يريد بلع كل ما يقع أمامه وتعليمه نزول الدرج بطريقة صحيحة… لكن تبقى الكتابة هي الصديقة التي تسمع تلعثمي وتخبطي وخوفي وفشلي ونجاحي مع أطفالي وزوجي وأهله وأهلي والعالم من دون أن تمل..  تبقى الصديقة التي لا تشترط مكاناً للمقابلة ولا تحدد موعداً للمغادرة، تماما كما فعلت الآن عندما رغبت بالكلام وما كان عليّ سوى إحضار ورقة بيضاء.

مقالات من نفس القسم