فالحقيقة هى أنه عندما تزوّج أبوه وأمه، انشغل الأب بإدارة أعماله المزدهرة، فى شركاته متعدّدة الأنشطة، فانشغلت الأم بإنجاب الأطفال، وفى كل مرة منذ حملها الأول، كانت تعدّ الملابس لطفلة أنثى، لأنها كانت تشتاق إلى طفلة أنثى، إلا أنها فى كل مرة كانت تصاب بخيبة أمل عندما ترى طفلا ذكرا، وقد تكرر هذا السيناريو ثمانى مرات، وعندما قررت أن ترضخ للقدر، وتعد الملابس لطفل ذكر، سخر منها القدر وأرسل إليها طفلة أنثى، هيلينا التى لم تعش لتبلغ حتى عامها الأول، وهكذا فإنها عندما حملت للمرة العاشرة، قررت للمرة الأولى أن لا تعد أى ملابس، لا لأطفال ذكور ولا لأطفال إناث.
الرواية لا تتبع أى خط زمنى، فهى تتنقل كيفما شاءت بين الأزمنة، الممتدة بطول عمر الشاعر، أى خلال سبعين سنة، بين مولده سنة 1863 وموته فى المستشفى اليونانى بالإسكندرية سنة 1933.
تدور الرواية على مستويات عدة، منها مثلا المستوى الوصفى الذى يقدّمه الشاعر الشاب ألكسندر سينجوبوليس، رفيق وعشيق كفافيس خلال السنوات السبع الأخيرة من عمره. هنا نجد وصفا تفصيليا للشهور الأخيرة من حياة كفافيس، بعد عودتهما معا من أثينا، وكان كفافيس قد فقد صوته إثر عملية جراحية فى حنجرته، وهو الوصف الذى يقع فى 35 فصلا، تعترضه بين وقت وآخر فصول الرواية التى يقوم الشاب سينجوبوليس بكتابتها عن الشيخ، وهى فى ثمانية فصول كبيرة، ينقسم كل منها إلى عدد من الفصول الصغيرة التى تحمل أسماء شخصيات تتكرر عبر الرواية، مثل الاسم الأول للشاعر نفسه قسطنطين، والفصول التى تحمل اسم صديقه المؤلف الإنجليزى فورستر، ثم تأتى أسماء «فُتنة» وعبد الفتاح (توتو) وكلوديا والأم خاريكليا وغيرهم، لتنقل إلينا الكثير من المواقف والبورتريهات والذكريات، للشاعر ولأصدقائه ولأقاربه على مدار عمره.
هناك أيضا المستوى التوثيقى حيث يوجد قدر كبير من الوثائق، مثل الخطابات المتبادلة بين كفافيس والروائى الإنجليزى فورستر، وكذلك بعض الوثائق الخاصة مثلا بكتابه عن الإسكندرية، ناهيك بمقطوعات شعرية لكفافيس.
وهناك اختلاط كبير بين الفصول التى تروى أحداثا واقعية، فى عوالم مادية ملموسة، والفصول التى تروى أحداثا خيالية تختلط فيها الأحلام والكوابيس من ناحية، بالرؤى التى يحاول الراوى أن يجعلنا نعتقد أنها قد حدثت بالفعل من ناحية أخرى، خصوصا قرب نهاية الرواية عندما تتحول المسألة إلى شىء قريب الشبه بالخيالات التى تدور فى أذهان مَن يدمنون عقارات الهلوسة، L.S.D، أو أن هذه الرؤى تشبه لوحات من الفن السريالى، لمارك شاجال حيث تطير شخصيات وأرواح هائمة فى فضاء الحجرات، ثم تخرج من الشرفات لتهيم فى فضاء السماوات، أو سلفاتور دالى حيث تذوب المعادن على حافة الموائد وتندلق على أرضيات الحجرات، إلا أن هذه المناظر لا شك تضيف إلى متعة قراءة هذه الرواية.
(2)
إذا حاولنا إعادة ترتيب الأوراق، لوجدنا أنه من التيمات «themes» الرئيسية فى العمل، تيمة التّرام السكندرى، الذى يعاود الظهور عشرات المرات فى العمل، فهو يعتبر من أسباب الضوضاء الرئيسية التى أصبحت المدينة تعانى منها منذ مجيئه، ويتخيله أحيانا الشاعر فى قصائده وهو يخترق حجرات المنزل، خصوصا شقة شارع ليبسوس، التى عاش فيها الشاعر سنواته الأخيرة، ثم حتى النهاية فى حجرته بالمستشفى اليونانى قبل منظر الوفاة.
ارتبط هذا التّرام بحياة كفافيس لأنهما وُلدا فى نفس العام، وقد ذهبت والدته لأول مرة فى حياتها، فى رحلة بهذا الترام، بين محطة السكة الحديد وشاطئ بولكلى، عندما كانت حاملا فى كفافيس فى شهرها السابع.
كذلك قد يكون الترام هو السبب فى قتل «فُتنة» تحت قضبانه، ولم نعرف إذا كانت قد ألقت بنفسها تحت عجلاته رغبة فى الانتحار، أم ماذا حدث بالضبط؟ نحن لم نعرف حتى إن كان هذا المنظر فى الواقع أم فى الخيال. نحن فقط نرى الشاعر فى أحد المناظر وقد انحنى على الأرض ليلتقط ساقىّ «فُتنة» المقطوعتين ويحتضنهما، ونرى معه بعض أجزاء جسمها الأخرى وقد تناثرت على أرضية الشارع!
ثم تأتى التيمة الخاصة بجغرافية مدينة الإسكندرية، التى تنضمّ إلى قائمة مدن البحر المتوسط من أقرانها، مارسيليا ونابولى وأثينا، إلا أن الحَر والرطوبة والتراب والجو الشعبى، يحولها عند شاعرنا إلى مدينة لا تقاوم، فيعود إليها دائما، رغم أنه تركها عدة مرات لمدد طويلة قد تصل إلى سنوات، أولا عندما مات الأب فذهبت الأم بأولادها إلى لندن لمدة ست سنوات، ثم لأسباب مادية، عادت الأم بأولادها إليها، ثم ثانيا إلى الأستانة لمدة ثلاث سنوات، بعد أن كانت المدفعية البريطانية قد ضربتها فى 11 يوليو 1882، تمهيدا لفرض الاحتلال البريطانى على البلاد.
كثيرا ما ترد ملامح جغرافية المدينة وسط تفاصيل يوميات الشاعر أو أصدقائه، مثلا محلات «ديليس» على ميدان محطة الرمل حيث يطيب احتساء كوب من الشاى مع قطعة جاتوه، أو محلات «إيليت» فى شارع صفية زغلول، حيث تطيب وجبة الغذاء مع زجاجة من البيرة، ثم الانتقال من السكن مع الأسرة فى شارع شريف، إلى السكن فى شقة خاصة بشارع ليبسوس (هل ما زال هذا الشارع يحمل نفس الاسم؟)، ثم (من هو ليبسوس هذا؟).
تقول نصوص الرواية عن الشارع إنه كان يصل بين طريق الحرية من جهة، وميدان محمد على المشهور كذلك فى ذلك الوقت باسم ميدان «القناصل» من جهة أخرى، لوجود مقرات قناصل الدول الأجنبية به، هذا الوصف يجعل هذا الشارع موازيا لشارع شريف، وتقول الرواية إن البورصة كانت تقع على أحد طرفى شارع ليبسوس، ومصلحة الرىّ على طرفه الآخر، وجدير بالذكر أن الشاعر كان قد شغل وظيفة كاتب فى مصلحة الرىّ، لمدة قد تصل إلى ثلاثين عاما، وأنه اعتمد على إيراده من هذه الوظيفة ثم معاشه منها، عندما كان إخوته الذين ساعدوه قد ماتوا أو رحلوا عن مصر.
هناك كذلك الرحلات التى كان الشاعر يقوم بها بواسطة الترام، جيئة وذهابا من محطة الرمل إلى نهاية الخط فى محطة فيكتوريا بالقرب من كلية فيكتوريا، مرورا بالعديد من المعالم، التى ما زال بعضها موجودا، بينما اختفى بعضها الآخر من الوجود، مقابر الشاطبى للمسيحيين وللجاليات الأجنبية، ثم مقابر البطالمة الأثرية، ثم الكنائس والمساجد والمدارس والمستشفيات والحدائق العامة والبارات، ثم شاطئ البحر، مع ملاحظة أن طريق الكورنيش الحالى، لن يبدأ العمل فيه إلا فى وزارة صدقى باشا سنة 1934، بعد وفاة الشاعر بعام واحد. تتم هنا كذلك الإشارة إلى الكتاب الجميل الذى وضعه إى إم فورستر بعيد الحرب العالمية الأولى، عن تاريخ وجغرافية المدينة، وتشير الرواية كذلك إلى أحد الكتب التى كانت واسعة الانتشار جدا فى أيدى سيّاح مصر خلال بدايات القرن العشرين، وهو دليل بيديكر Baedeker.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
عادل أسعد ميرى
كاتب مصرى
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الحياة الثانية لقسطنطين كفافيس – رواية – طارق إمام
دار العين – القاهرة – 2012
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلا عن صحيفة التحرير المصرية