بهذه الجملة الختامية التي تلخص واقعا كاملا لا يمكن نكرانه في الحياة بعامة، والحياة العربية بخاصة، اختتم ((غسان حمدان)) روايته «ريمورا»([1])، وفض بكارة التلقي تماما ليصرخ بصوته السردي: «أنا أتحدث عن تلك الفئة من البشر التي تعيش على فضلات السيادة والتسلط»، الطريف في الأمر، أن تلك الفئة من البشر التي هي فعليا طفيلية على مراكز قوى السلطة، رغم ما تعيشه من اذلال وموضعة لذاتها في دائرة الخدمة التي تصل لحد استعبادها من أسيادها، تلك الفئة عندما تواتيها الفرصة وتتعامل مع طبقات اجتماعية شاءت الأقدار أن تكون تحت سطوة سلطتها الممنوحة من اقتياتها على فضلات السلطة، فإنها تتلذذ في إذلال وتعذيب الآخرين، وهكذا في دائرة مدوخة من السادية المجتمعية المتفق عليها ضمنيا في ظل سياق يصعب أن يتم كسره، تقدم لنا رواية «ريمورا» عالما حيا يستصرخ في كل قارئ ضميره أو ربما تصدم لدى كل قارئ ضميره حول ما بها من أحداث.
وقد يشعر القارئ للرواية أننا بإزاء حالة من حالات السرد التقليدية، التي تتبع أسلوب التواصل المعتاد مع القارئ، والحقيقة أن هذا الفخ هو أحد التقنيات التي ابتكرها المؤلف حتى يستطيع أن يقدم ما لديه من رؤية تجاه الواقع الذي سيرسمه في عقل القارئ، دون أن تزدحم أفكار القارئ بتقنيات السرد، وبجماليات اللغة، دون أن تؤدي التجريبية السردية التي صارت ملمحا للسرد العربي في العقدين الأخيرين تحديدا لأن ينحاز القارئ عن المضمون إلى الشكل، وبهذا نجح المؤلف في أن يؤدى رسالة مفاهيمية في لغة الحياد، لكنها ليست حيادية على الإطلاق، إنها بالأساس لغة منحازة ضد القبح الاجتماعي، وضد العوار الذي نعيشه، وإذا ما نظرنا للغة السرد الاعتيادية التي صارت مألوفة عند القارئ، يمكنني القول بأن المؤلف نجح في الكتابة في الدرجة الصفرية التي أشار إليها (رولان بارت) تلك الدرجة التي تشعر فيها أن اللغة متحررة من كونها موضوعا في ذاتها لذاتها([2])، لينقل الواقع الذي يريده مُرَكِّزًا هدف التلقي على شيء واحد وأساسي، وكأن المؤلف يقول: «أنظروا إلى تلك الأحداث التي تعرفون جميعا أنها تحدث وتستمر في الحدوث دون أن يكون لها رد فعل لديكم».
لهذا اختار المؤلف «الراوي العليم»، الذي يعرف كل شيء يدور في ثنايا قصته، وفي نفوس شخصياته، اختار الراوي الذي يتحدث من منظور المتعالي على شخصياته، وحقق من هذا المنظور هدفين، الأول: إمكانية تصوير العالم الداخلي من الشخصيات وخفايا النفوس، خاصة عندما تعرض لما في داخل هذه الشخصيات من صراع جنسي، ومن حديثها مع ذاتها حول لذتها وشهوتها، والهدف الثاني: مارس السلطوية على وعي وأفق المتلقي، بحيث يجعل المتلقي ذاته واقعا تحت أسر السلطة السردية فيما تقدمه وفيما لا تقدمه، تقول (يمنى العيد) عن هذا النوع من الراوي: «مع هذا النمط من الترابط، يبقى بإمكان الراوي متابعة السرد إلى ما لا نهاية، وذلك بإضافة عقدة جديدة إلى العقد السابقة. لكن على الراوي، في مثل هذه الحال، أن ينتبه إلى ضرورة ربط العقد بعضها بالبعض …»([3])، ذلك النوع من الربط هو ما جعل المؤلف يستشهد أحيانا بوثائق، ووقائع وتواريخ.
على مدى أكثر من 200 صفحة تابع الراوي قصه وسرده، داخلا في أعماق شخصياته، كاشفا لنا ما شاء ومخفيا ما شاء، وأكثر ما تم كشفه وتركز عليه السرد حتى أصبح محورا كبطلين رئيسيين في القصة مقابلين لبعضهما البعض هما: (طاهر) القاضي المراوغ، الذي يتظاهر أمام الناس بسيرة حسنة السمعة عطرة، وأم حامد (نهى)، تلك الأم التي اختزلت التحريات عنها كلمة (متساهلة)، ورغم حضور (عاطفة)، و(سلوى) في اللهو الجنسي الذي تمتع به (طاهر) من أهل المتهم (حامد) إلا أن التركيز الأكبر في استبطان الشخصية وحوارها الداخلي كان على الأم، تلك الأربعينية المحافظة على تناسق جسدها، والتي أدمنت العلاقة مع (طاهر)، بل صارت ترتب لتلاقي طاهر مع ابنتها (عاطفة) وخطيبة ابنها (سلوى)، لنتأمل الحوار التالي الذي ينقله الراوي من داخل عقل شخصيته الرئيسة (طاهر): «المئة ألف يسيرة المنال، ولكن كم يطلب فوقها. آه، لو لم تكن أرملة. لكم كان يشتهي أن يكون زوجها موجودًا لكي يمر عليه وينظر في عينيه بعد كل مرة يركبها. إيه. خفف عليك، مشكلتك كانت مع النساء، ومن النساء، لا من الرجال. فماذا تريد منه؟ اتركه في قبره» صـ29
وكلمة مشكلتك كانت مع النساء، ومن النساء، تفتح لنا الباب أمام احتمالات كبيرة حول الطريقة التي استطاعت بها (أم طاهر) أن تربيه بعد رحيل زوجها، هو يقول أنها كانت تعمل خياطة، لكن الاشارات المتكررة من (نهى) حول نظرته الاحتقارية لمكمن عورتها، وولعه هو بالأمهات تحديدا، توحي بأن هناك ما أخفاه عنا الراوي تجاه والدة (طاهر)، هناك شيء جعلنا بإزاء شخصية، عانت من أمها أولا، ثم من حبيبته (لمى) عندما رأت أن وضعها الاجتماعي أعلى من وضعه بكثير، وعندما جاءت الفرصة (لطاهر) لكي يحتل موقعاً مرموقاً في تراتبية السلطة بكونه قاضياً يتحكم في مصائر العباد، مارس استعباداً شديداً، وسادية تجاه النساء، لكن الحالة التي اختار الراوي نفسه أن يرويها لنا من بين ضحايا (طاهر)، هي الحالة التي بها أم استثنائية، أمٌ على قدر من الذكاء بحيث تجعلها تفتدي ابنها بشرفها وبشرف بنتها وخطيبته، مقابل تبرئة ولدها من الاعدام، تُرَى هل يجب أن ننظر لفداحة التضحية بنظرة التعاطف مع مشاعر الأم؟ أم ننظر بعين الاحتقار على التفريط في الشرف؟ ماذا عن تلك اللحظات التي ستتحول فيها كلا من (نهى) و(عاطفة) و(سلوى) من مجرد مجبرات على تلبية رغبات (طاهر)، إلى متلذذات بأفعاله التي أتقن المؤلف رسم تفاصيلها، ورسم فلسفتها أيضا معهن، حتى أنهن اصبحن يتلهفن على طلبه لهن، وينتظرن مغامراته وتجديداته ووصل الأمر لحد السفر معه في مكان بعيد، وصرن يستمتعن بكل ما هو شاذ يفعله معهن؟ أليست هذه رؤية في فلسفة الجسد، نتوقف أحيانا عندها، مصطنعين تجاهل وجودها في الواقع، بينما نلمس أثرها حولنا؟
الأزمة الحقيقية في هذا السياق هي التراتبية المجتمعية التي تجعل من أناس حقراء لمجرد مهنتهم أو وضعهم الاجتماعي، وتجعل من فئة أخرى لها السيادة – السيادة التي قد تصل لحد التلاعب بالرغبات وبالأفكار وبدواخل النفوس – لمجرد أنهم يمتلكون مالا، أو علاقات أو حتى يمتلكون السلطة نفسها، وعندما أتاحت الأقدار، أو أتاحت استراتيجية الاقتيات على فضلات السلطة لـ(طاهر) أن يتحل بجزء من السلطة تجاه الآخر، صارت مهمته وتسليته ممارسة التسيّد الجنسي والتلاعب بالأجساد والأفكار لدى فريساته اللاتي أوقعهن الحظ تحت رحمته بوجود قضية متهم فيها الابن الوحيد لـ(نهى)، والذي هو ذاته أخ (عاطفة)، وخطيب (سلوى).
أتوقع أن يتم انتقاد هذه الرواية بسبب ما بها من توظيف جنسي، وتشخيص للمواقف، لكنني أتوقع أيضا أنه يغيب عن الكثيرين التدقيق في الرؤية الموجودة خلف الرغبات الجنسية التي تم توصيفها وتقديمها، إن السؤال الجوهري: كيف استطاع طاهر أن يصل بـ(نهى) لمرحلة مساومة خطيبة ابنها على شرفها؟ وعلى متعتها ولذتها؟ سؤال يحتاج أن يجلجل النفس، هل فعلا ما كان وراء هذه الفعلة رغبات (طاهر) المكبوتة؟ أم رغباتهن في عدم تحقيق العدالة التي قد يكون ضحيتها (حامد) بتوقيع العقاب المناسب عليه؟ إن السؤال الجوهري حول ما إذا كان (حامد) فعلا هو الجاني والقاتل، لم يعد هو المهم في الرواية، أو ربما تحقيق العدالة نفسها ليست هي الأمر المهم في الحياة، المهم مَن الذي بيده القدرة على تحقيق العدالة! المهم مدى قدرة أهالي المتهم على أن يكونوا أصحاب نفوذ وعلاقات؟ وفي هذه الحالة عند وجود الرغبة للقفز أيضا على تحقيق العدالة فعلى هؤلاء أن يستجيبوا لأي رغبة يتم فرضها عليهم.
يقول الراوي عن (نهى): «بقيت الأم مفتوحة العينيين في فراشها. أعجبتك يا طاهر يا بن أم طاهر إذن. أتريد أن تبرهن لي أم لنفسك على شيء وأنت تعاشر ثلاث نساء في فترة لا أدري كم ستجعلها تدوم؟» صـ69
تدخل بعدها (نهى) في صراع مع نفسها حول فكرة التمتع بهذه العلاقة، والفتاتان اللتان بدأتا الأمر مشمئزتين، نجح (طاهر) في أن يزرع بداخلهما صراع النشوة، ليصبح هو محور اللذة بالنسبة لهما، يصل الأمر بـ(عاطفة) أن تقول: «ولكنه يجعلنا نًجن.. نظن أنه فينا عيب، فينا نقص.. فينا شيء لا يعجبه.
وشعرت أنها تجاوزت بالقول.. وإن كن جميعاً متأهبات للفعل نفسه، فلزمت الصمت.»صـ163
بدأت الغواية إذن برغبة افتداء رقبة الابن من حبل المشنقة، وتحولت لجعل (طاهر) محور الإرضاء ومكمن اللذة والرغبة، تحولت لكيفية الحصول على قدر من اعجابه، حتى عندما تصل الأم في لحظة شعرت فيها بأنه يشك في اعطائها جسدها للمحامي بأن تُصَعِّد معه تواصل الملذة بمنحه متعة الجماع الشرجي.
وينقل الراوي ما يدور في نفوس شخصياته من النسوة الثلاث الذين هم بالأساس نموذج اجتماعي لطبقة مجتمعية تقع في المكانة الوسطى من تراتبية التسلط الاجتماعي، فهن بالنسبة للطبقات الدنيا لا يتورعن عن التلاعب بأحلامها وإذلالها، حتى أن (طاهر) نفسه يعرف أن هؤلاء النسوة اللائي يتلاعب بهن الآن لو كان تقدم لإحداهن في وقت سابق ما كن وافقن عليه خطيبا لأيا منهن، وتجربته الحية مع (لمى) تُثبت ذلك، وفي الوقت نفسه، هذه الطبقة الوسطى تقع هي نفسها تحت رحمة من هم أعلى منها سلطويا، لكنها تقدم كل ما لديها لهذه الطبقة العليا دون تردد، ودون احتمالية أن يكون هناك وجود لمنظومة القيم أو الشرف، طالما أن هذا يحقق لها مصالحها، والدليل على ذلك استغلال (نهى) لرغبة (طارق) في ابنتها، وابقائه في خانة الاحتياطي كزوج لـ(عاطفة)، فضلا عن الاستجابة لـ(طاهر) عندما يرغب بالاستمتاع بأخت وخطيبة (حامد) معا في الوقت نفسه.
يقول الراوي: «مع أن نهى كانت تعتقد أن طاهر انتهى منها ومن الفتاتين، إلا أنها كانت تداري أملا في أن يتصل بها .. ولما لم يفعل الأحد ولا الاثنين، اتصلت به يوم الثلاثاء .. وأخبرته أنها تريد أن تراه لأمر مهم.» صـ197، ثم بعدما تؤكد (نهى) على تواصل العلاقة الآثمة بعد انتهاء الغرض من (طاهر)، تطرح رغبة الفتاتين في استمرار هذا التواصل، السؤال الجوهري هنا: هل التواصل الآثم بين النسوة الثلاث مع (طاهر) رغم انتهاء ما لديهن من مصلحة معه، هو تواصل من أجل المتعة فقط؟ أم تواصل يؤكد رغبتهن في استمرار طبقتهم الاجتماعية في مرتبة العبودية للأعلى حتى يتمكن من استعباد الأدنى ومن ثم يصبح الهدف الأساسي ومنبع الإثارة الأساسي الإبقاء على قاضي في داخل دائرة معارفهم والاستجابة لتطلعاتهن؟ بمعنى آخر: هل لو تم تجريد (طاهر) من رتبته القضائية، هل كن سيشعرن تجاهه بالإثارة نفسها بعد انتهاء مصلحتهن معه؟
لقد شاءت الأقدار أن يكون (طاهر) على اتصال بثلاث رؤساء طوال مدى الفضاء الروائي هنا، بدءا من (عبد السلام عارف)، مرورا بـ(عبد الرحمن عارف)، انتهاء بـ(صدام حسين)، طوال هذه الفترة يرفض (طاهر) منصبا سياسيا يصل به لمرتبة الوزير، ليحرص على بقائه في هذه الدائرة من السلطة المقننة، لم يشأ (طاهر) أن تكون له صراعات داخل السلطة، إنه يعلم تماما أنه جاء لهذه الدائرة من هامشها، ومن موقع هو فيها يكاد يكون أضعف حلقاتها، حتى عندما تعرَّض لمأزق المواجهة مع أعداء (عبد السلام عارف)، اختار الحل الوسط الذي لا يجعله يتعرض لحزب البعث بالشكل الذي يمكن أعضاؤه من تنفيذ تهديداته وقتله – وهو ما جعله في وقت لاحق على صلة بنظام (صدام حسين) – ولم يُغضِب الرئيس (عبد السلام عارف) في الآن نفسه، محققا لنفسه موضع الولاء واللا ولاء في الآن نفسه، إن تلك الحلقة الوسيطة من نوع البشر الريمورا ليس لهم ولاء في الحقيقة، ولا يمكن الاعتماد حقيقة عليهم، لكنهم رغم ذلك، هم ضروريون لكل سمكة قرش لا يمكنها أن تتخلص من فضلاتها بنفسها، إن السطح السردي للرواية، يخفي في أعماقه الكثير من الأمور التي تحتاج لتحليلات أعمق من مجرد التوقف عند ظاهرها الأيروتيكي فيما تم من تعبير سردي، إنها تعري الواقع، بكل ما تحتمله كملة التعري من إثارة، وحزن وغضب أخلاقي في الآن نفسه.