د. اعتدال عثمان
يواصل هاني عبد المريد في روايته الجديدة ” محاولة الإيقاع بشبح” ( الدار المصرية اللبنانية)، تطوير مشروعه الإبداعي، واكتشاف آفاق جديدة للعب المخيلة، مستخدما مفردات الواقع ليشكل منها عالما سرديا مغايرا ومدهشا، يمزج الواقعي بالعجائبي والخرافي المفارق للواقع، كما يمزج الجاد بالساخر في نسيج سردى مائز، يبدو تلقائيا وعفويا بعيدا عن الحشو، فيما يعتمد اللمحة السريعة الدالة، والسهولة الظاهرية التي تخفي وراءها عمقا، لا يسبره إلا قارئ متمعن.
سيخاتلك عنوان النص، وتنغمس في القراءة، يجذبك صدق تصوير الشخوص الروائية، وطرافتها الباعثة على الإدهاش والإمتاع، إلى جانب ابتكار المفارقات والألاعيب السردية، وانفتاح النص على آفاق تأويلية متعددة، بسبب احتمالات غير محسومة، يتركها الكاتب عمدا أمام القارئ ليختار من بينها دلالة الإشارات النصية، ومنها بالطبع عنوان الرواية، العتبة الأولى للنص. ستقرأ وأنت تسأل نفسك طوال الوقت لتعرف هل نجح
الكاتب في “محاولة الإيقاع بشبح”؟ وكيف يمكن ذلك؟ وما المقصود بالشبح؟
يقول هاني عبد المريد في شهادة له حول تجربته الإبداعية: “علاقتي بالسرد تشبه تماما علاقة الصياد بالبحر، طوال الوقت ألقي شباكي، وطوال الوقت أكون في حالة تأهب وانتظار للصيد، ولكنني لا أدري كيف يأتي السمك لشبكتي، ولا متى قرر اختياري، وتسليم نفسه لي”.
وفي شباك النص سيعثر القارئ على صيد الحكايا المتداخلة المتقاطعة، أو ما يسمى بتقنية الحكاية داخل الحكاية، وكأنها أسماك تتوالد من بعضها تارة، أو تلتهم بعضها تارة أخرى لتحصل على “طاقة الحكي” المتجددة التي تتجلى في الرواية، ويقول الكاتب عنها في شهادته إنها ” تنتقل من الراوي إلينا، وتسيطر على حواسنا كاملة، ويكون لها السيطرة والسطوة … ولها منطق خاص يفوق كل منطق”.
ويواصل هاني شارحا: “اكتشفت أهمية الحكاية، ودلتني على أهمية الذاكرة، وكفرد من وطن يقاوم المحو صرت أتشبث بالحكاية وبالذاكرة في محاولة لمقاومة الفناء، أو مقاومة التحول لدمية من المطاط المفرغ كما هو الحال في رواية “محاولة الإيقاع بشبح” التي تحتفي بالحكاية، بل تجعل منها أحد أسرار وجودنا”.
على المستوى الظاهري يتكون النص من الحكاية الإطار ذات الشقين المتوازيين والمتقاطعين، حيث يمتزج في كل منهما الواقعي بالعجائبي. تدور الحكاية في شقها الأول حول أسرة عادية مثل ملايين الأسر في بلادنا،
لكنها تصاب بلعنة تحول الأب والابن والابنة إلى دمى مطاطية متجمدة، تحتفظ بشكلها الآدمي في وضع ثابت، بينما تفقد حواسها جميعا، وسائر قدراتها البشرية، في حين تكتشف الأم أن الحكايات التي ترويها لهم هي الملاذ، والمدد، والضامن الوحيد لتماسك شكل الدمى الخارجي دون أن يصيبها التشقق، ومن ثم الضياع النهائي للأمل في عودتها إلى الحياة الطبيعية.
يوحي النص هنا دون تصريح أن العيشة القاسية التي كان الأب يحياها لتوفير مصدر الرزق بالعمل المتواصل نهارا وليلا، دون راحة أو فرصة لمجرد النوم مثل سائر البشر، هي السبب في هذه اللعنة التي ارتبطت بظواهر طبيعية مثل إحساس من تحولوا إلى دمى بزلزال لم يحدث، أو حدوث تحول كل منهم ليلة اكتمال القمر في منتصف الشهر، بحسب التقويم الفلكي الهجري، بفارق زمني تسعة شهور بين كل تحول وآخر، وكأن لعنتهم أخذت تنمو في رحم الغيب مثلما تنمو النطفة، ولكن في اتجاه معاكس، يؤدي إلى لعنة الميلاد الشائه الذي يشبه الواقع الشائه المعيش، وكأن التحول إلى دمى مطاطية يضمر احتجاجا خياليا على هذا الواقع نفسه الذي يهدر آدمية الناس، ويحولهم إلى مسوخ بشرية حتى أن الراوي (يامن)، الابن الوحيد الذي نجا من اللعنة، صار لا يتعجب مما حدث لعائلته، بل صار ينظر للمدرسين، وللجيران، وللناس في الشوارع، محاولا
اكتشاف من تحول منهم بالفعل، ومن لم يتحول بعد.
تتفرع الحكاية الإطار في شقها الأول إلى حكايا متشعبة، ترويها الأم (هانم) للدمى حول أحداث يومية واقعية، كما تنفتح أيضا على حكايات عجائبية ترويها سيدة عجوز، شبه كسيحة، كانت هانم تتردد عليها يوميا، لتستمد منها مدد الحكايات، لكي ترويها على أحبائها المتحولين حتى يقاوموا الفناء النهائي.
السيدة العجوز شخصية عجائبية بدورها، تنسج علاقة تواصلية خاصة مع الطيور، وينمو على جسدها الريش، وتنبت لها أجنحة تطير بها، كما تمتلك زادا من الحكايات المدهشة القادرة على إعادة حواس السمع والبصر إلى الدمى حين ترويها هانم عليهم، لكن دون عودة الروح الحية، لأن هناك حكاية لم ترو بعد على لسان هانم، هي التي ستعيد إليهم الروح.
في هذا الجانب من النص تتجلى طاقة الحكي الساحرة المسحورة، وكأنها سر الوجود على نحو ما أشار الكاتب في شهادته، وإن كنت أرى أن التكوين العجائبي للسيدة العجوز كان يمكن أن ينطلق إلى آفاق تخييلية أكثر اتساعا، لم يستثمرها الكاتب بصورة كاملة.
يتوازى مع الشق الأول من الحكاية الإطار شقها الثاني، المتمثل في حكاية الخال يونس التي يرويها يامن، ابن الأخت الناجي من اللعنة، فيما يتناوب السرد على التوالي في فصول الرواية كل من يامن وهانم، بما يقيم تفاعلا بين شقي الحكاية، كما يعطي بعدا أعمق لتداخل الواقعي والعجائبي من خلال فعل الحكي بصوره المختلفة. فضرورة الحكي التي تساوي الحياة لدى هانم، تقابلها وتغذيها وظائف الرغبة والشغف لدى الخال يونس. فالخال الضرير لديه رغبة عارمة للحكي، والانغماس فيه بحواسه كلها، بالرغم من كف البصر. إنه يريد بدافع لا يقاوم – مثل حفاظ المرء على استمرار حياته – أن يخلق عوالم أخرى على أنقاض الواقع البائس الرتيب الذي يعيشه، عوالم نابضة باشتعال الحواس وبالشهوة، حتى لو كانت مجرد استيهامات، يغذيها يوميا الفتى يامن والذي يقوم بمراقبة الجارة الفاتنة تلصصا من خلال كسر في الشباك الذي يطل على غرفة نومها، أن يراقب من خلاله أفعالها اليومية، وعلاقتها الحميمة بزوجها بما فيها من شذوذ الزوج وقسوته وعنفه في معاملتها، وأن يرويها له بالتفصيل، فيشعر أن من سمع كمن رأى، وذاق، وتلذذ، وعاش الحياة كما ينبغي أن تكون.
إن فضاء الاستيهامات يصبح لدى الخال – بمعاونة يامن وتوحدهما – كيانا مطاطيا آخر مثل الدمى المطاطية، هما يقيماه بإرادة التخييل، واشعال نيران الرغبة، والتعبير عنها، وذلك لامتصاص صدمات وإحباطات الواقع المعيش، بينما يخفق المستسلمون للتحول في تطويع واقعهم، لأنهم لا يملكون الخيال، وطاقة الحكي والإبداع.
هنا تظهر دلالة العبارة الافتتاحية المتصدرة للنص بتوقيع الخال يونس، يقول: “حتى قوانين الطبيعة نستطيع الانتصار عليها وتطويعها، فقط لو كانت هناك رغبة”. ونستطيع أن نضيف هنا في بداية العبارة أو نهايتها (حتى ظروف الواقع وتعقيداته نستطيع التغلب عليها، فقط لو كانت هناك
رغبة في التغيير، وقدرة على تفعيل الإرادة الإنسانية، إلى جانب امتلاك طاقة للإبداع، وانطلاق المخيلة لكي نستمد منها قدرة على المقاومة والأمل، “لأننا لا نملك رفاهية اليأس”) على نحو ما قالت هانم في موضع تال من النص.
الجدير بالذكر أن المخيلة تثبت في هذا النص – من خلال نواة واقعية – خليطا مركبا من العجيب والطريف والساخر، اعتمادا على جوانب معرفية ونفسية يمتلكها الخال، فضلا عن تأجج رغبته، وسرعة بديهته، وروحه الساخرة، وخبرته الحياتية، وشغفه بفنون الغناء والسينما، ووعيه العميق بطبيعة اللغة. هذه النبتة تنمو في فضاء النص، وتخرج منها الأغصان والفروع، وتطرح ثمار الحكايا المدهشة التي تثير لدى القارئ
أسئلة معرفية وجمالية حول الحياة، والموت، والجنون، وأسرار الإبداع الأدبي.
الرواية من هذا الجانب رحلة تعلم لفنون الحكي يقودها الخال يونس، ويجذب إليها الفتى يامن، فيعلمه في بداية الأمر كيف يحكي عن فوفا، الجارة الفاتنة، أو الحيلة النصية البارعة التي تصبح من خلال السرد تجسيدا نابضا بالحياة لصور بصرية يمكن للخال – المتلقي الأول – أن يتخيلها، وأن يتمثل عبرها أفعال الحركة والسكون بحيوية، تحرك الحواس وتشعلها من بديع النظر، وعذوبة الصوت، وطيب الروائح، وليونة الملامس. لكن الخال يدرك أن الفتى لن يستطيع أداء المهمة إلا بأن يشحذ خياله، ويصقل لغته، فيبتكر الخال لعبة لغوية اتفق كلاهما على قوانينها، فأحدهما يذكر كلمة، ويكون على الآخر أن يبادر فورا، فيضع لها تعريفا مناسبا، ثم يتبادلا الأدوار.
وفي مرحلة أعلى من التدرب على الحكي كان على من يتلقى الكلمة أن ينسج حولها حكاية أو يسرد انطباعا فوريا أيضا، تركته الكلمة في نفسه. وهنا تتواتر الحكايات حيث يكتسب الفتى من خبرة الخال خبرة إضافية.
كذلك علمه الخال حقيقة الوصف بألا يكتفي بالدقة في تصوير المشهد المحكي، بل يتخطى الوصف الظاهري للأشياء إلى ما ورائها من دقائق المعاني. ولما كانت أداة الحكي الرئيسية هي اللغة، فقد قاد الخال الفتى – بحنكة ومعرفة وبالتدريج – إلى اكتشاف أسرار اللغة ومستوياتها المتعددة والمتراكبة، وكيف يتقن تضفير هذه المستويات في نسيج لغوي متجان، فهناك المستوى العادي المألوف والمتداول للغة الفصحى الميسرة، حين تستخدم في السرد أو الحوار، وهناك تعبيرات عامية، يلجأ إليها السارد أحيانا في الحوار القصصي ليضفي عليه حيوية، تربطه بواقع الناس العادية
من الشخوص الروائية. وهناك أيضا المستوى المجازي الذي يتطلب مهارات لغوية خاصة، وقدرة على توظيف الخيال. وبمواصلة التدرب، واكتساب الخبرة على يدي الخال، يصير الراوي أكثر احترافا وتمكناً من فنون القص.
هكذا عبر الإمتاع والمؤانسة، واللعب التخييلي، والتعامل مع الخارق والعجائبي كحقائق، لم نعرف بعد قوانينها، ينفتح النص على المجهول، ويبحر بنا في غمار الحكايا، بينما يرمي الكاتب بشباكه لاصطيادها، فنكتشف معه أن الحكايا تنهض هنا “مقابل الوجود أو هى الوجود ” كما قالت هانم، الأم الحكاءة، كما نكتشف أخيرا أن هاني عبد المريد يقصد بعنوان الرواية الإيقاع بالحكاية في شباك نص شفيف محكم، وقد فعل.