الحكايات تتوالى والأشياء تتعالى: إبراهيم البجلاتي في ديوانه “شاي وبرتقال وأقنعة خضراء”  

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. إبراهيم منصور

   يسجل الشاعر إبراهيم البجلاتي في ديوانه “شاي وبرتقال وأقنعة خضراء” (الهيئة المصرية العامة للكتاب ٢٠٢٣) يوميات الوباء والعزلة، حين وقع العالم كله في مأزق العزلة الإجبارية في عامي ٢٠٢٠، و٢٠٢١، بعد أن أصبح الفيروس التاجي المستجد Covid 19   جائحة عالمية، فقد فرض ما سمي وقتها “الإغلاق” وهو مصطلح اقتصادي اجتماعي له وقع غريب على الأذن، وخاصة في المدن الكبرى والاقتصادات الرأسمالية العاتية، كما عرفنا “التباعد الاجتماعي” ولكي نقف على طريقة تسجيل الذكريات والأفكار المتولدة عن تلك المعاناة نشير إلى بعض الأعمال الأدبية والفكرية المختلفة  أحدها عن الآخر.

   أصدر الكاتب صلاح سالم كتابا كبيرا بعنوان “تأملات في الوضع البشري الأسئلة الكبرى للوباء الكوني” (دار العين ٢٠٢١) كما صور المترجم حسام فخر ما عاناه مع أسرته في مدينة نيويورك على مدى بضعة أشهر، في مقال طويل نشرته أخبار الأدب (عدد ١٥٦٣ صادر في ٩ يوليو ٢٠٢٣) بعنوان ” ١٤ شهرا في الأسر” كما كتب الشاعر محمود قرني قصيدة بعنوانCovid 19 أوعطسة القيامة”

*****

   ديوان “شاي وبرتقال وأقنعة خضراء”  قسمه الشاعر إلى  ٢٤ قطعة، كل قطعة برقم، لكنه أحسن صنعا إذ وضع في نهاية كل قطعة منها تاريخ كتابتها، وأول قطعة فيه كتبت يوم ١٦ مارس ٢٠٢٠،  والقطعة ٢٢ كتبت يوم ٢١ أبريل، أما القطعة ٢١ فقد سقط تاريخ كتابتها، ولكن موضوعها يدل على هذا التاريخ إنها تصف قيامة المسيح (عليه السلام) وعيد القيامة المجيد كان يوم ١٧ أبريل ٢٠٢٠. الديوان إذاً كتب في شهر وبضعة أيام، ما عدا القطعتين ٢٣ و٢٤ فقد كتبتا في شهري مايو و يونيو.

   الديوان هو يوميات الحجر الصحي، لا في المحجر بل في المنزل، لقد أهمل الشاعر وضع عناوين للقصائد، وقد يكون  هذا الأمر مفهوما بدعوى وحدة الديوان، وهو مسلك نراه عند كثير من شعراء قصيدة النثر، إن الشعراء يقلدون بعضهم بعضا، فيزعمون أن الديوان إذا كان دفقة شعرية واحدة فهو لا يحتاج لوضع عناوين للقصائد، وقد يكون مسلكهم نوعا من محاكاة “محمود درويش” الذي كتب بضعة دواوين كل واحد منها يخلو من العناوين الداخلية تماما.

   إبراهيم البجلاتي مثل أغلب الشعراء اليوم لم يعد يضع فهرسا للديوان، إنه يوفر للناشر ورقة بوجهين، وما حاجته للفهرس؟ تبدو القصائد مثل زكيبة الكلام، لا يمسكها إلا عنوان الديوان، ولو كان هذا التوجه صحيحا لما احتجنا لعناوين الدواوين أيضا، فليكن الديوان الأول، ثم الديوان الثاني ثم الثالث وهكذا. لقد كتب البجلاتي ديوانه الأول بعنوان “البحر الصغير.. وداع رومانسي” (القاهرة ٢٠٠٥) فجعله في عشرين قصيدة بعشرين عنوانا، أما دواوينه: “أنا في عزلته” (٢٠١٤) و”ماذا يفعل الرومانسيون غير ذلك” (٢٠١٨) وكذلك هذا الديوان الأخير فقد خلت من الفهرس لأنها خلت من العناوين، ولو قلت له اذكر أفضل قصائدك في آخر عشر سنوات فلن يستطيع، لأنه لا يملك أن يذكر قصيدة واحدة بالاسم، وهذا ما لم يفعله شعراء قصيدة النثر الكبار: أسامة الدناصوري (١٩٦٠- ٢٠٠٧) وفاطمة قنديل، و إبراهيم داوود. فقد حرصوا جميعا على وضع عناوين للقصائد، وكذلك  فعل الراحل محمود قرني (١٩٦١-٢٠٢٣) (فيما عدا ديوانه لعنات مشرقية ٢٠١٢) ومن قبلهم كان حلمي سالم (١٩٥١- ٢٠١٢)  يلتزم بوضع عناوين لجميع القصائد حتى التي مثلت تجربة واحدة مثل ديوانه “سيرة بيروت”

ولو عدنا للديوان نفسه لوجدنا الشاعر إبراهيم البجلاتي يذكر كثيرا جدا من الأعمال الفنية (قصائد ولوحات فنية وقطع موسيقية وروايات) فلو لم يكن لهذه الأعمال الفنية عناوين كيف كان الشاعر سيذكرها في ديوانه.

*****

        تعالج المقطوعات الشعرية في ديون “شاي وبرتقال..” قضية العزلة، والعزلة يصحبها الملل، أو الأرق، وهو مرض قديم، لكن أسباب الملل تختلف، كما أن طرق تناوله أدبيا تختلف، فقد جعل الكاتب الوجودي “ألبير كامي” من الملل سببا للقتل في روايته “الغريب” (١٩٤٢) أما ذو الرمة (٦٩٦- ٧٣٥ م)  الشاعر الأموي القادم من البادية، ولم يكن كثير المدح والهجاء بل كان “واصف أطلال ونادب أظعان” هو شاعر عاشق،  وقد أرّقه العشق، فلجأ للأشياء والكائنات يعبث معها أو يراقبها، ولعله كان يتحاور معها، وصور هذه الحالة في شعره الشهير:

عشيّة مالي حيلةٌ غيرَ أنني        بلَقْطِ الحَصَى والخَطّ في التُّرْبِ مولَعُ

أخطُّ، وأمحو الخطَّ، ثم أعيدُهُ               بكفّيَ والغِربانُ في الدارِ وُقّعُ

لجأ الشاعر للأشياء والكائنات، يصفها ويتحاور معها، بديلا عن الإنسان، ففي قصيدته نرى: الساق النباتية أو العود الذي يخط به، والتراب، والغربان، والناقة. وقد كان الفرزدق يقول إن الشاعر يأرق من العشق، وإلا فهو سارق ساهر من أجل السطو.

   لكن زماننا غير ذلك الزمان، إن العزلة التي ضُربت على العالم في عام ٢٠٢٠ جعلت الحكماء يتأملون في مصير الإنسان، والشاعر إبراهيم البجلاتي واحد من الحكماء بالمعنى الشعبي لكلمة حكيم، فهو طبيب وجراح مسالك بولية، وهو حكيم بالمعنى الفلسفي، لأنه يسعى إلى تكريس أمر يشغله هو علاقة الإنسان بالحيوان، وخاصة علاقة الإنسان بالكلب، كما يشغله أن يسجل رواية أخرى لتاريخ الطب.

*****

  يقدم الشاعر إبراهيم البجلاتي نوعا من اليوميات، يوميات العزلة، ويوميات الوباء، فالشاعر يتتبع أحداث الوباء ويسجلها، على طريقة الشعر لا على طريقة السرد في غيره من الأنواع الأدبية:

“في اليوم الثاني للحجر الصحي

 بإمكانك أن تحصي المارة في شارع “الشيراتون”

الفنادق مقفولة

 وأعمدة الإنارة تنير الطريق للأشباح

المقاهي تستريح من كرة القدم

   لقد جعلت العزلة ناس المدن في سائر أنحاء العالم، يلجأون للتليفزيون واليوتيوب لرؤية الأفلام وحفلات الموسيقى والباليه واللوحات وسائر الأعمال الفنية. والشاعر يسجل بعض ما جرى:

“وكلنا خبراء

في الاقتصاد

 والفيروسات

 والخفافيش

المرض كثير

 والموت الجماعي إحصائية

حزينة

تضخ المزيد من النقود

لشركات الدواء

فحينما حل وباء الفيروس على العالم، صارت أخبار الجائحة محل اهتمام وتداول، ولكن أثر تلك الأخبار كان أقوى من الوباء نفسه:

الآن كأنه عالم واحد

مغسول بالكلور والليبرالية الجديدة

غسلت يدي من أثر الخبز والفراشة

قضيت اليوم كله في البيت

أتابع الأخبار

كأن عالما ينهار”

*****

   في ديوان “شاي وبرتقال..” يكثر التناص Intertextualityمع النصوص الأخرى، دائما هناك “تداخل نصي”  وأكثره مستمد من ثقافة الشاعر الأدبية والفنية، أفلام السينما والروايات، فيذكرنا الشاعر بالطاعون الأسود Black plague الذي ضرب مدن إيطاليا وأوربا ( ١٣٤٧- ١٣٥٢م) وفي هذه الأثناء كان أهل فلورنسا يهجرون المدينة إلى الريف، وقد كتب “جيوفاني بوكاشيو” (١٣١٣- ١٣٧٥م) “الديكاميرون” أو الحكايات المائة، لتسلية نفسه عن حبه بعد وفاة معشوقته، وتسلية القوم في محنتهم، يقول البجلاتي:

“وعلى هذه الأرض

 ألف بوكاشيو

فمن منهم سيكتب للناس مائة حكاية جديدة”

   لقد كتب آلاف الناس حكايات مثلما فعل “بوكاشيو” من قبل، وقد أخبرني أستاذ في كلية الطب جامعة الأزهر أنه أصيب بالفيروس فسُجن في الحجر الصحي لمدة شهرين، كان خلالهما ينتظر الموت، فكتب رواية أدبية، وأراني إياها في عيادته في دمياط الجديدة، وقد طبعها فيما يقارب ٣٠٠ صفحة، وأراد أن يعطيني النسخة لكي أقرأها، ثم تردد متعللا بأنه سوف يعاود النظر فيها.

 ظهرت حكايات مؤسية وحزينة، وكثير منها كانت حكايات حول العزلة والوباء وأثرهما على البشرية، لكن الشاعر قدم لنا بعض القصص من واقع ما نشر في الفيس بوك من أخبار ووقائع محلية وعالمية.

كل مهزوم يكتب على صفحته: سننتصر

وكل غريق يكتب: سننجو

نون الجماعة في البداية

هي نفسها نون النهاية في ساكسفون

حيث يقف رجل إيطالي أنيق في البلكون

يعزف اللحن الشهير: بيلا تشاو (وداعا أيتها الحبيبة )”

إن الشاعر يشير إلى واقعة حدثت وقت اشتداد الوباء في إيطاليا، وقد تداول موقع يوتيوب مقطعا مصورا لرجل إيطالي يعزف الموسيقى في بلكون بيته، وقد ارتدى ثياب الخروج، والشوارع خالية، فالموت كان يصفْر في الشوارع وينعق في البيوت.

وحكاية أخرى حزينة سجلها الشاعر في يومياته:

الموت كثير

 والبساتين مقابر

 والرماد في القوارير

الموت كثير

 والنهاية مفتوحة

وصاحبي حزين

لأن طبيبة ماتت

وحار جثمانها بين القرى والنجوع”

  لقد حدثت هذه القصة، في ذروة الوباء في مصر، حين كانت السلطات تدفن الموتى الخارجين من العزل الصحي، حيث توضع الجثامين في أكياس، وتجري العملية بدون مراسم دفن، وفي هذه الأثناء توفيت طبيبة عن ٦٥ عاما في محافظة الدقهلية، وتداول الناس والصحف أنباءً حول امتناع قرية “شبرا البهو” ثم قرية “ميت العامل” عن دفنها في مقابرهم، خوفا من انتقال العدوى بدفن الجثمان في مقابر القرية، وقد تدخلت السلطات لدفن الجثمان، واعتقلت من أحدثوا هذا الهياج.

الواقعة الثالثة التي يحكيها الشاعر هي واقعة اجتماعية أدبية مرتبطة أيضا بالعزلة التي فرضها الوباء، يقول الشاعر:

“على الفيس بوك

كتبت رسالتها الثالثة

من منى بالغردقة إلى أسامة في القاهرة

-غادر محمد البيت

– أعتذر عن عدم الكتابة إليك بالأمس

– ظهرت عصابات الشوارع في كوبا  والبرازيل

– حصدوا التوليب بالجرافات في هولندا، أطنان من الورد يا أسامة

فهذا المقطع كله منقول من مراسلات مطولة كانت تتبادلها الكاتبة “منى الشيمي” مع زوجها الكاتب الصحفي ” أسامة الرحيمي” حيث كانت هي في “الغردقة” وهو في “القاهرة” يحول بينهما توقف المواصلات بسبب الوباء، وقد ظهرت تلك المراسلات بعد ذلك في كتاب بعنوان “صباح الخير يا  منى (رسائل أدبية)”

*****

  يلجأ الشاعر لنوع من “التداخل النصي” أيضا حين يشير إلى نصوصه هو، وهي ظاهرة يمكن وصفها بالسرقة الذاتية Self plagiarism  وقد رصدت قديما عند “أبي الطيب المتنبي” الذي كان يعود للموضوع الواحد من فرط امتلاء نفسه به، كما رصدت عند “نزار قباني” بسبب ترهله وكثرة تكراره لصوره وموضوعه الشعري الغزلي.

أما إبراهيم البجلاتي فيعود كثيرا لما سبق أن كتبه في شعره:

“قلت قبل عدة أعوام

أحب عصير البرتقال في الشرفة

وقتها لم يكن في البيت شرفة

الآن الشرفة مغلقة”

هذه الإشارة تحيلنا على ما جاء في ديوانه “أنا في عزلته” حيث قال هناك:

أحب عصير البرتقال في الشرفة

ليس هذا أوان البرتقال

وليس لدي شرفة”

أما قوله، في موضع آخر:

“والصغير

يفعل ما كنت أفعله وأنا في مثل سنه

يشوط الكرة في الحائط

وترد له

يشوطها

بقوة

فتسقط

في حديقة الجيران”

فهي أيضا إشارة إلى ما جاء في ديوانه الأول “البحر الصغير..”

“في صالة البيت  الطويلة واقفا

أضرب الكرة الشراب بحائط

وترد لي

فأردها

وترد لي

وأردها”

*****

   قديما، كان الهم والغم إذا أصاب المرأة لجأت للإبرة والمغزل والمنسج، أما الرجال فكان لهم في صيد السمك أو ركوب الخيل أو الرماية مخرج ودواء، أما اليوم فإن الإنسان المحصور بين الجدران لا يجد في زمن العزلة الإجبارية إلا الأجهزة الإلكترونية: التليفزيون، والهاتف المحمول، وجهاز التسجيلات الموسيقية، يقول الشاعر في بداية ديوان “شاي وبرتقال..” يشككنا الشاعر في نوايا سياسة الرأسمالية، فيقول:

“هناك رائحة كريهة

عما قريب

ستنتهي الجائحة

لكن الرائحة

لن تزول”

وهذا ما ذكره كل الذين كتبوا عن الوباء، فقد أصبحت الرأسمالية وربيبتها النيوليبرالية، تتحكم في أذواق الناس، ومشاعرهم وميولهم، نحو أو ضد ما تحدده الشركات العملاقة وعملاؤها، وقد صور ذلك “صلاح سالم” في كتابه المذكور بقوله ” لقد استوجب الأمر التفكير في بنية المجتمع الرأسمالي المعولم، وأن يطرح السؤال الكبير: إلى أي مدى باتت شروط الوجود الإنساني ظالمة وغير منصفة؟”

يسجل الشاعر كثيرا من مظاهر تغول الرأسمالية، فهو مثلا يرى أن فلسفة الطب في القرن العشرين:

“مرضٌ بلا سقم

وعلاجٌ بلا شفاء”

وهو يعالج السخرية من الرأسمالية بالقول “أمريكا لا ترضى إلا بالمركز الأول حتى في الوباء” ويتفق هذا الموقف مع ما جاء عند الشاعر محمود قرني، في قصيدته المذكورة:

“البورصة لا تنطفئ أضواؤها

بالأمس كانت مؤشرات البيع مذهلة”

وقد ظهر ذلك جليا في سياسة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” الإنتاج ولا شيء غير الإنتاج:

“تتنفس الأرض

كما يقول الخبراء

نحن عبء عليها

فمتى يعود كل شيء كما كان

وتدور عجلة الإنتاج”

   وبرغم الاعتراض على الإغلاق والغضب من العزلة، فقد ظهرت بعض ألوان من الرضا عن هذا التوقف، حين استعادت الطبيعة بعض ما فقدت، يقول “حسام فخر” في مقاله المذكور “تركنا بقايا الطعام على المائدة لدقائق معدودة ثم خرجنا لجمعها فوجدنا حيوان الراكونRaccoon جالسا يلتهم تلك البقايا باستمتاع ولم يولنا أي اهتمام، عندما أخذنا في الصياح والتلويح بأيدينا في محاولة لتخويفه وطرده… لكن أعجب ما حدث هو زيارة ذئب البراري Coyoteفي يوم من الأيام رأيناه يدخل حديقتنا الصغيرة متبخترا باطمئنان تام، اختار لنفسه بقعة مشمسة لا تبعد عن البيت بأكثر من مترين ورقد فيها ثم راح في نوم عميق”

 أما الشاعر فقد سجل بعض مشاهد الطبيعة وقد عادت لها هيئتها التي أخفتها العمائر والبنايات:

“بالأمس

على الطريق

رأينا عصافير كثيرة على الأسفلت

وطيورا كثيرة في السماء

على ارتفاع منخفض”

لكن الشكوك قائمة، حتى أن الشاعر يثبت في نصه تلك الأسطورة القديمة التي كنا نسمعها في الريف حين تُرَكّب ماكينة جديدة، ماكينة طحين مثلا، فيشاع أن الماكينة لا تعمل إلا بدم الأطفال، وتحرص الأمهات على إسماع أطفالهن هذا النبأ المخيف حتى يبتعدوا عن محيط الماكينة:

“اقرأ : وباء

إنه الاقتصاد

مرة أخرى

يا غبي

كأنه ماكينة الطحين

لا تدور إلا بذراع مقطوعة

أو بلترين من الدماء”

*****

 في ديوانه “أنا في عزلته” (دار بدائل ٢٠١١) كتب البجلاتي:

“أنا لا أجيد الكلام مع الأشياء

لكنها تجيد الإصغاء

وتعرف أن الكلام يبدأ دائما مترددا، مشتتا

وغامضا

وحين يعثر اللسان على الجملة الأولى

تبدأ الأشياء في التجاوب”

  حقا، إن الأشياء والكائنات تجيد الإصغاء، لذلك وجدنا الشاعر في ديوان “شاي وبرتقال..” يضع على طاولة أمام القارئ كوبا من الشاي، ووعاءً كبيرا به برتقال وليمون، وأرغفة خبز، وعبوات بسكويت، ومشرط جراحة، وموس لحلاقة الذقن والرأس، وقناع وجه للأنف والفم، وكومة كتب، ثم يضيف إليها أداة من البلاستيك سوداء، بها زر أحمر تسمى “ريموت كونترول”، والزر الأحمر عليه علامة تسمى الطاقةPower   إذا ضغطته أعطاك ما كان يعطيه “مصباح علاء الدين”

   والمنضدة التي تحمل الأشياء تشبه لوحات الفن المصري القديم، وقد اعتنى بهذا اللون الفنانون الأوربيين منذ العصور الوسطى، ثم في عصر النهضة، حيث تصوير “النعمة” وخاصة (الخبز) فيما كانوا يسمونه “الطبيعة الصامتة” فاللوحة تحتفي بالكائنات لا بالحيوان ولا بالإنسان، وكان ازدهار هذا اللون من الفن يقدم رسالة أن الإنسان فانٍ.

  إن الزر الأحمر للريموت كونترول يعطينا عفريت الحكايات الذي كانت تأتي به العاصفة ليبث الرعب في قلب “شهريار” الملك، وأخيه الملك “شاه زمان” ثم يتبين أن العفريت يمكن أن يُستغفل وينام، ولكن حضوره كان يصاحبه حضور الجارية الفاتنة، وهنا تبدأ الحكايات تتوالى لا تحدها حدود، ولا يوقفها الزمن، إنها “شهرزاد” تحكي وتحكي فلا هي تصمت، ولا نحن نملّ، والطبيعة الصامتة فيها لون من العدوان على الطبيعة الحية، وفي ذات الوقت فإن الموسيقى تأتي من كل مكان عبر الهاتف وشاشة التليفزيون، وهذه مفارقة ونوع من الإغواء اللذيذ.

ملابس الشتاء في الحقائب

تحت السرير

وملابس الصيف على حبل الغسيل

الشمس ساطعة

 والريح تصفر في الجمعة العظيمة”

الأشياء تتماهى مع البشر وتسليهم، وقد يجدون فيها عزاءً وسلوى، مثلما فعل طرفة بن العبد، ويقول البجلاتي:

“في الركن ضفدع حجري

 يضع ساقا على ساق

ظنه الصغير قطا وجلس إلى جواره”

 إن شعرية الأشياء هي نمط في الأسلوب يناسب قصيدة النثر، ويمدها برافد لا ينفد من المادة، لكن شعراء قليلين يعرفون كيف يصنعون شعرا من هذه المادة، أولئك هم أصحاب الموهبة والقدرة على التبصر، كما أن المشهد الطبيعي يجعلنا نحس بالحياة من حولنا فندرك ما خبأته بنايات الأسمنت والحديد من معاني الطبيعة، لكن هذه الأشياء والكائنات كما يصورها الفن، فن التصوير الزيتي أو فن الشعر، أو حتى فن السينما، إنما يعطينا هذا التصوير تمجيدا للطبيعة بما تحويه من حيوية أو حياتيةAnimism  .

  لقد استطاع إبراهيم البجلاتي في ديوانه “شاي وبرتقال وأقنعة خضراء” أن يستغل الخبرة اليومية لعزلة الوباء، فلجأ إلى تصوير الكائنات والأشياء وقت عزلة الإنسان، وكانت الكتب والأفلام بما تقدمه من “حكايات” نصا حيا موازيا لنص العزلة المميت، كما سجل لنا اعتراضه على “التشييء” من ناحية أخرى، وتحويل الإنسان إلى سلعة، كما ظهر في التعامل مع جسد المرأة والرجل على السواء.

مقالات من نفس القسم