عبد القادر كعبان
يعتبر عالم الخيال منفذا رحبا وحيويا في عصرنا يلوذ به المبدع، مستثمرا إياه لملامسة آفاق مفتوحة في الكتابة بمختلف أنساقها وتأليف نسيج سردي تتعانق في رحمه بنيات وأساليب حكائية تعكس علامات التجريب، وهذا ما نلمسه في أسلوب المبدع طارق إمام الذي يمكن أن نقول عنه أنه حكواتي عربي من زمن الواقعية السحرية التي يعد الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز من أهم روادها إلى يومنا هذا، والذي يرى أن الخيال ما هو إلا وسيلة لإبراز الواقع.
تعد سردية التخييل أو التعجيب من أهم سمات السرد القصصي والروائي المعاصر، أين نجد تجاوزا واضحا لكثير من المبدعين الذين خرجوا عن نمط السرد التقليدي مع ملامسة الواقع المعاش.
توظيف هذه السردية يجعل الأديب عموما يدخل دائرة التجريب كونه مظهر من مظاهر التغيير، وهذا ما نلمسه إجمالا في الأعمال القصصية لابن أراكاتاكا غارسيا ماركيز وابن الإسكندرية طارق إمام.
بالرغم من تقادم السنين على صدور المجموعات القصصية لماركيز مقارنة بقصص طارق إمام إلا أننا نلمس خطا يجمع الأديبين تعكسه تلك القدرة على امتلاك الخيال الواسع الذي لا يخلو من لمسة واقعية، وخلق تعابير إبداعية جميلة بصورة عفوية غير مصطنعة تنساب مع مجريات القصص وتخدم شخوصها وأحداثها بأمانة، كما هو المثال في قصة “لا يوجد لصوص في هذه المدينة” لغارسيا ماركيز وقصة “حكاية طباخة السم” لطارق إمام.
الحدث عبارة عن حادثة فعلية ويعتبره النقاد التيمة الأساسية التي تدور حولها القصة بشكل عام، حيث يتشكل ويتطور بامتداد الوقت إثر أمور تقع تترجمها الشخصيات وله علاقة مباشرة مع الزمان والمكان أيضا.
الحكي القصصي لماركيز وإمام يحمل بعدا دلاليا اجتماعيا ونفسيا كما هو المثال في قصة الكولومبي “لا يوجد لصوص في هذه المدينة” وقصة المصري “حكاية طباخة السم”، الأولى تحكي قصة داماسو السارق الذي يخفي حقيقته ويراه الجميع رجلا شريفا أما الثانية فحكاية عجيبة لطباخة انقلبت حياتها رأسا على عقب، كونها أول من دس السم في العسل الحلو فصارت اليد الأشد للسلطة. ومنه يمكننا القول أن شخصية داماسو وطباخة السم استطاعت كشخصيات تجسيد بنية الحدث وسيرورته في النص القصصي مع غيرها من الشخصيات الأخرى.
يتجسد الحدث في قصة ماركيز منذ أول ليلة غاب فيها داماسو عن منزله بينما كانت زوجته أنا في انتظاره وهي حامل في الشهر السادس، ليعود فجأة ودون سابق إنذار وهو يحمل ثلاث كرات بلياردو مسروقة مع مبلغ من المال، كما نقرأ ذلك على لسان السارد: (وبينما كان يحلق ذقنه أخبرته زوجته بما استطاعت أن تكشفه. كان البوليس يبحث عن غريب. “قالوا أنه وصل يوم الخميس وأنهم رأوه الليلة الماضية يتجول حول المكان “قالت” يقولون أنهم لا يستطيعون العثور عليه في أي مكان”. فكر داماسو في الغريب الذي لم يره في حياته، وللحظة كان مقتنعا تماما بقصة هذا الغريب.) ص 13.
أما في قصة طارق إمام فالحدث يتوقف على حياة الطباخة الشابة التي وقعت ضحية مكر زوجة أبيها التي دست السم للحاكم، والذي وقع بدوره في سحر طعامها ومذاقه الذي لا يقاوم، كما نقرأ ذلك على لسان السارد: (على الفور طالب الحاكم رجاله بالبحث عن الطاهية، لأنه حدس أن كلام الحكيم الشاب عنها يحمل مغزى سينكشف في حينه.. كما كان يأمل أن يأتي الحكيم في المرة القادمة ليجده يعرفها. هكذا كلف “ذواقته” بتذوق كل الأطعمة في جميع بيوت المدينة ليحددوا مكان الطاهية، بعد أن جعلهم يلعقون بقايا الطبق ليستظهروا الطعم بألسنتهم المدربة.) ص 83.
كلتا الحكايتين ترصد حالات مختلفة، إذ تصور الوضع الطبقي الذي تنتمي إليه الشخصيات، إضافة إلى الدور الاجتماعي الذي تلعبه في أحداث القصة، وهو المحور الذي يستحوذ على خيال ماركيز وإمام في عملية السرد التخييلي الذي لا يخرج عن واقعنا المعاش كقضية السرقة والقتل بشتى أنواعه.
إن ما يلحظه القارئ في قصة “لا يوجد لصوص في هذه المدينة” من خلال شخصية داماسو هو السعي وراء السرقة للهروب من شبح الفقر ومعاناته: (أخذت أنا تخلع ملابسها، وبدت غير مبالية، ولكنها في الحقيقة كانت تنصت له باهتمام ممزوج بالشفقة. “سأشتري صفا من البدل” قال داماسو مشيرا إلى دولاب خيالي بطرف الحائط. من هنا إلى هناك. وكذلك خمسين زوجا من الأحذية. قالت أنا “إن شاء الله”.) ص 18.
أما في قصة “حكاية طباخة السم” نجد شخصية أخرى تعيش تحت ضغط زوجة أب قاسية القلب، لم تقوى على فعل أي شيء سوى الطهي بمحبة وبيد معطاءة فتحت أمامها بابا لم تكن لتحلم به يوما: (أسرعت إلى المطبخ، وعادت بإبريق ماء وطبق حساء ساخن.. شرب الماء والتهم الحساء فعادت حمرة الدماء تكسو وجهه. قال وهو ينظر لها مدوخا: “لم أذق في حياتي حساء بمثل هذا المذاق الرائع.. لقد ترحلت كثيرا.. وهمت في أربعة أركان الأرض.. ذقت جميع أطعمة الدنيا وأشهاها، غير أنني لم أذق مثل ذلك الطعم.. عفوا.. هل لي في طبق آخر؟”.) ص 80.
هنا نقف أمام نماذج قصصية ذات طابع اجتماعي دلالي عميق، فقصة ماركيز تبني حكايتها على حدث السرقة أما قصة طارق إمام فتبني حكايتها على حدث الموت بالسم، حيث نكتشف براعة كلا الأديبين في توظيف الجانب الاجتماعي المستوحى من حياتنا اليومية لصناعة الأحداث وتطويرها في عملية السرد.
نجد غارسيا ماركيز في قصته “لا يوجد لصوص في هذه المدينة” يرسم ملامح شخصية “الزنجي” وهو غريب اتهموه ظلما بالسرقة، كما جاء ذلك في المقطع الآتي: (ألقى روك نظرة ارتياح على صف المناضد الصغيرة، وقال وهو يجفف جبهته بكمه. “لن تظهر ثانية، إنهم يعذبون الزنجي بمنع الطعام عنه منذ أسبوع ومع ذلك فهو يرفض أن يقول أين الكرات”. ثم رمق داماسو بنظرة من خلال نظارته المغبشة بفعل العرق. “أنا متأكد أنه ألقاها في النهر.) ص 17.
أما في قصة “حكاية طباخة السم” لطارق إمام تستوقفنا شخصية الحكيم الذي يكون مفتاحا لبراءة البطلة الطاهية في بيت الحاكم، كما جاء ذلك على لسان السارد: (انصرف حاملا معه كوب الماء وطبق الحساء. هنا شعرت العجوز بالرعب. وراحت تلاحقه كي لا ينكشف أمرها. تناديه ولا يرد. ظلت على حالها حتى وصلت خلفه لبوابات بيت الحاكم. هنا طلب الحكيم الشاب من الحراس أن يحتجزوها.) ص 88.
يمكننا اعتبار ماركيز وإمام أديبان متجاوبان مع وسطهما الاجتماعي بلا منازع وهذا ما يساعد المتلقي على فهم مضمون قصصهما، وهذا ما لمسناه في “لا يوجد لصوص في هذه المدينة” و”حكاية طباخة السم”، فالأولى لغارسيا رسمت ملامح داماسو وهو يسقط في فخ سرقته لكرات البلياردو، حيث أمسكه روك متلبسا ليلتها، كما نقرأ ذلك كالآتي: (“ما الذي معك؟” صاح، متقدما للأمام رافعا القضيب الحديد. أعطاه داماسو اللفة. أخذها روك بيده اليسرى، وهو ما يزال في وضع دفاعي، وفحصها بأصابعه. حينئذ فقط فهم: “مستحيل!“.) ص 36.
أما الثانية لطارق فقد تحقق حلم الطباخة الماهرة وهي تلك الفتاة البسيطة التي وقعت في حب الشاب الحكيم منذ أول مرة دق باب منزل أبيها، صدقها وعفويتها جعلته يخطبها في بيت الحاكم علنا: (هكذا عادت الفتاة لترى حبيبها من جديد، وحكم على العجوز الدميمة بالموت. وفي الصباح التالي غادرت “طباخة السم” المدينة مع الحكيم الوسيم..) ص 88.
في الختام، يمكننا القول أن الطاقة الخيالية التي رسمها كل من الكولومبي غارسيا ماركيز والمصري طارق إمام والتي تداخلت مع العالم الواقعي الذي نعيشه، استطاعت ببراعة جذب المتلقي ليعود ويقرأ القصص مرة أخرى دون إرادة منه ليعيش حالة من الدهشة الجمالية.
المصدر
(1) طارق إمام: قصص مدينة الحوائط اللانهائية ، الدار المصرية اللبنانية،2018.
(2) غابرييل غارسيا ماركيز وآخرين: لا يوجد لصوص في هذه المدينة قصص من أمريكا اللاتينية، ترجمة شوقي فهيم، دار آزال للطباعة والنشر والتوزيع، لبنان، ط1، 1986.
……………………………….
* كاتب وناقد جزائري