كرم الصباغ
يقرع سمعه أصوات تصفيق و زغاريد، سرعان ما تتحول إلي صراخ وعويل؛ يتخشب مكانه كتمثال يشتهي الصراخ؛ تفلت من حنجرته حشرجة هزيلة مكتومة، بالكاد تصل إلى أذنيه. تلتهم عيناه الضوء الخافت المنبعث من مصباح الكيروسين؛ يبصر ظلال شخوص وأخيلة تتراءى على حيطان الدار؛ تتحول قدماه إلى مسمارين غائرين، يحاول انتزاعهما من الأرض دون جدوى. يستجمع ما تبقى في جسده النحيل من رمق، بعد كد و عنت يصل إلى باب الدار الخشبي، يحرك المزلاج بيد تنازعها الارتباك و الارتعاش، يستنشق هواء الخلاء، يسلم ساقيه إلى الريح، يوغل في العتمة، لكنه يتوقف، فجأة عن الركض بمجرد رؤية سحنهم الكريهة، لقد تركهم وراءه منذ لحظات، فما باله يراهم الآن أمامه أشد ضخامة، و أكثر قبحا؟! ينتصب شعره كأسنة الشوك، و ينخلع قلبه من شدة الخفقان. يحاول المرور؛ فيعترضون طريقه فاغرين أفواههم؛ يتجمد الدم في عروقه، و يرتد إلى الوراء، تشيعه ضحكاتهم الصاخبة. يعود أدراجه إلى الدار، لا يجرؤ على الدخول؛ فيتكور أمام الباب في العراء، منتظرا عودتها بفارغ الصبر.
( ٢)
خلف كرة القش يركض صبيان النجع. يقبل عليهم مبتهجا؛ فتصده الأيدي، و يتنمر به الجميع رافضين أن يشاركهم اللهو؛ تمتلئ عيناه بالدموع، و ينزوي جانبا. تخرق كلماتهم القاسية أذنيه؛ يرتد إلى النخيل مكسور الخاطر. يكتفي بالمشاهدة من بعيد. يمل الأطفال لعبتهم الرتيبة، يبحثون عن تسلية أخرى. يبيعه النخيل إليهم دون مقابل؛ يجذبونه من مكمنه؛ يمسي لحمه كرة تركلها الأقدام، و تدفعها الأيدي، و تجلدها الألسنة؛ يتجه إلى غدير الماء باكيا. يحدق في صفحة الماء المهتزة؛ فيرى وجها مطموس الملامح. يشكو إليه هول ما يرى ليلا، و قسوة ما يسمع نهارا، و بذاءة ما يصف به الملاعين أمه. تطول الشكوى إلى ما بعد الغروب. يقبل الظلام الغليظ، تزيل ممحاته ما تبقى من الوجه المرسوم على صفحة الماء؛ لا يجد أنيسا؛ فيمسك عن الكلام، و ينسحب صامتا كاسف البال.
(٣)
يحل الليل، تهم بمغادرة الدار، يتوسل إليها أن تبقى، لا تأبه إليه، و الأحرى أنها لم تسمعه من الأساس؛ هي – عادة- لا تصغي إليه بما فيه الكفاية؛ فهي دائما في عجلة من أمرها. سوف تقلها السيارة إلى نجع بعيد، و هناك سوف تحيي عرس الليلة، سوف تطلق لجسدها و قلبها العنان، سوف تنهمك في رقصات ساخنة، و سوف يدفعها الفرح و الأنس و الانسجام إلى إطلاق الضحكات الصاخبة، و في غمرة النشوة سوف يسقط تماما من ذاكرتها؛ فهي عادة ما تنساه، كلما حاصرتها الأبدان و العيون، و كلما أسكرتها خمور الزحام.
(٤)
الفتيان يدقون (الصبيا) على آنية النحاس، و يشاركونها الحجل. بدربة تتفحص الوجوه؛ حتى لا تعود بيد فارغة. و في آخر الليل تقبض أجر الحجل الزهيد، تمر وسط السكارى المطروحين فوق الفرش كالخراف الناعسة، و عند الأعتاب تتعثر في جسد الصغير النحيل المتكور أمام الباب؛ يتعلق بعنقها لائذا بها؛ فتحمله إلى مضجعه صامتة، مكتفية بتمسيد شعره الخشن، يشعر بالطمأنينة؛ فيغط في نوم عميق، تسرع إلى مخدعها؛ فتنتشر في الدار رائحة عطرها الجذاب. يقرص الجوع أحشاءه؛ يستيقظ، يفرك الغبشة عن عينيه، يمد يده إلى سلالي الغاب، يخرج رغيفا جافا، يقضم لقيماته بوهن و نعاس. يتنامى إليه صوتهما؛ يتسحب على أطراف أصابعه، يمزق عريهما عينيه، تصفعه أصوات غنجها؛ تلتصق قدماه بالأرض. تتحول أصواتهما إلى طنين ثقيل متصل ينهش أذنيه. يحاول إغلاق عينيه، لكنها تشد نظره بحركة بهلوانية تدعوه إلى الاسترسال في المشاهدة. تتحول إلى دمية مخدرة بين يدي رفيقها، يقلبها كيف يشاء؛ تسلمها النشوة إلى الغياب. يغلي قلبه؛ فيذوب الغراء. يندفع نحو الباب، يحرك المزلاج، يجتاز العتمة هائما على وجهه. لا يكترث هذه المرة بذوي السحن الكريهة الذين يعترضون طريقه. يواصل سيره في عناد، يشق شوارع النجع المظلمة، يصل إلى الغدير، يرجم الصفحة الساكنة، و الوجه المعتم بالحجارة. لا يجد أمامه سوى الصحراء. يوغل في فراغها الشاسع؛ تختلط آثار قدميه بآثار نعال الرعيان، و حوافر الخراف، و مخالب الذئاب.