الحب والكتابة

الحب والكتابة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هل يبدو العنوان رومانتيكيًا؟ لأى درجة.. إلى الحد المقبول أم أن الرومانتيكية، لا يمكن التعامل معها باعتدال، إما أن تقبلها كلها أو ترفضها تمامًا، مثل الخمر.. القليل منها ليس أقل خطرًا لأن بوسعه فتح باب على تفاصيل غائمة لكنها واعدة بظن لن يخيب طالما الكأس ملآن.

كان ذلك تلقائيًا تمامًا لنا، أن نخلط الكتابة بكل تفاصيل الحياة بحيث لا يطغى أحدها على الآخر. لا، آسف، هذا ليس صحيحًا، أحدهما كان ولا يزال هو المسيطر. الكتابة، حتى فى الأوقات التى لا تكتب فيها، لا تقبل الشراكة، منطقها نرجسي يريد أن يفرض نفسه على كل شئ، وعلى هذا “الكل” المسكين أن يظل تابعًا بلا سؤال.

الطريق إلى قلبها لم يكن سهلًا، إنما في الوقت نفسه كانت الرحلة ملهمة، مثل ذلك الطريق الذي سرت فيه أول مرة زرت فيه بيت عائلتها، بضعة بيوت قليلة في مكان خاص على النيل، نيل عفي، بكر، غير خاضع للسيطرة، بلا أسوار أو كورنيش قبيح يمنعك من النزول إليه، الأرض المزروعة ليست كلها على نفس العلو، بعضها منخفض للغاية عما بجواره، تم تجريفها مرات ومرات لأجل أموال ضاعت مقابل لا شئ، لم تتقبل الأرض خيانتها، لم يشفع لأصحابها أنهم وعبر أجيال عديدة ظلوا مخلصين لها، رتبت لأن يحصلوا على كنز ملعون، فقدوا الرضا من يومها، ومنذ الثمانينات وإلى الآن ربطتهم بجوارها في فعل عبثي يحاولون عبره إعادة ما ضيعوه، يشترون من جديد وعلى مراحل الطمي الذي باعوه، ربما سيستمر هذا لأجيال أخرى قبل أن تنفك اللعنة عنهم. أسمع منها قصتهم، وقصة كل ما في المكان، ناسه وحواديته وأشجاره وزهوره، تلك التي يمكنك أن تشعر بروائحها المختلفة بين سطور أعمالها، أبطالها مثلها لديهم هذا الشغف والرغبة في التواصل مع ما حولهم في الطبيعة، يبدو في بعض الأحيان أن وجودهم كله معلق بهذا، وليس بالحياة الأخرى الموازية التي يحيونها بيننا، وجودهم يفرضه قوانين لا يحاولون بجدية التملص منها أو الاعتراض عليها، لكن هذا الوجود الشبحي الهش أكثر جمالًا واغواء بحيث لا يمكن مقاومته.

هناك حيث بدأت مخيلتها في التدرب على العمل كراو للقصص التي ستسمعها.. الجنيات اللاتي يسرن بهدوئهن المخيف بجوار النهر، اللواتي لا يراهن إلا من لديه استعداد ليهب روحه كاملة للكتابة، يرينه ويبتسمن له، منصورة لم تنخدع برقتهن المزيفة، أحب التفكير في أنها رأت باكرًا الجانب الآخر لتلك الوداعة، عندما يسحبن من يستسلم لإغوائهن إلى قاع النهر.. هل سيجد حياة ما هناك؟ لا يمكن لأحد المجازفة بالنزول وراءهن للتأكد، ولا تجد إجابة أيضًا عندها، لكن البديل هو تلك الحياة السحرية والكابوسية في الوقت ذاته. “في البدء شعرت بالخوف. خوف بدائي عميق يسكنها منذ الأزل. هي دائمًا خائفة، ثم تبدأ تاليًا في اختراع الأسباب. فيما بعد انقلب خوفها فضولًا، ومن الفضول ولدت الرغبة. رغبة مذلة يائسة في الالتحام بهذه الأجساد النورانية الشفافة” (“نحو الجنون” ـ ميريت 2013).

قالت لي أننا مختلفان عن بعضنا تمامًا، لم أفهم المغزى أول الأمر، واعتدت تكرار الجملة عليها في مناسبات عدة، لم أكن أسعى لتفسير، كلانا كان عليه التآلف مع الاختلاف، النار والماء، هذا إذا لجأنا إلى الأبراج التي ظلت طويلًا شغوفة بها، قبل أن يفتر حماسها لها كأحد تفسيرات اللغز، ربما فكت شفرتها ولم تعد أسرارها كافية، فى المقابل ستظل الأحلام أحد المرتكزات الأساسية، فى الليل حيث يذهب كل منا إلى مكان لا عهد لنا به وننساه بعد دقائق من عودتنا، تظل هى لفترة أسيرة أجوائه، كانت فى البداية تحاول قراءة الرموز التي تراها فى منامها عبر قراءات جادة، يسرها ما تراه أحيانًا، ألمح ذلك فى رضا يكسو وجهها، وابتسامة معلقة على شفتيها مصدرها تفاصيل عاشتها، لكن الأمر كثيرًا ما كان يبدو مزعجًا لها أيضًا، تتنقل بين الرموز واحدة تلو الأخرى، ثم يزداد الأمور تعقيدًا عندما تسعى لربط دلالات كل رمز بالحكاية ككل. لا أكون مفيدًا على الإطلاق فى أوقات مثل تلك، غالبًا يكون ليلى فترة موتى، والأوقات القليلة التى صادفت فيها والتقيت أحدًا أبعدته بعنف وأغلقت الباب، لا يمكننى التعامل مع ما لا أفهمه، وهذه واحدة من النقاط الأساسية التى نختلف فيها، لكل منا عوالم وكائنات مختلفة، لكن فى النهاية الكل مرحب به.

فى 2009 أنجزت منصورة روايتها “وراء الفردوس” قرأت المخطوطة الأولى، ومن السطور الأولى أصبحت مولعًا بذلك العمل.. “كنمرة هائجة نزلت سلمى رشيد درجات سلالم بيتهم الثمانى، يتبعها خادم يرزح تحت ثقل الصندوق الخشبى الضخم الذى يحمله. وقفت فى منطقة جرداء بالفناء الخلفى للبيت الذى فقد الكثير من رونقه، وأشارت بيدها فوضع الخادم حمولته على الأرض، ومسح العرق والتراب عن وجهه”.

أنا ممن يعتقدون أن الرواية ليست حكاية، لم تكن هكذا، ولن تكون، و”وراء الفردوس” لم تكن حكاية، لكنها لعبة فنية ذكية تستخدم الحكاية، لغة سلسة تعرف على الفور أن صاحبتها قد أتعبت نفسها كثيرًا حتى تهتدى إليها، أو ربما ليس كذلك بالتحديد، أحيانًا ما أشعر أنها تجد الكلمات المناسبة تمامًا للتعبير عما تود قوله، موهبة عملت على تنميتها بدأب فى قراءات متنوعة ومختلفة، ربما لذلك كانت ممن انتبهوا مبكرًا لعلاقة الثورة (25 يناير) باللغة، فقدمت عبر مجموعة مقالات رؤية لهذا الخروج الجماهيرى الذى كان مفاجئًا لجيلنا، كتبت عن وجه مختلف للثورة.. على اعتبار أنها هدم للغة المزيفة التى لا تعنى شيئًا، كانت تقول إن من خرجوا فى تلك الأيام كان على رأس مطالبهم استرداد المعنى.

فى ظنى أن الأهم فى “وراء الفردوس”، وما ينسحب على بقية أعمال منصورة، وبالأدق على مشروعها، هو المعرفة النقدية بتاريخ الرواية، وتكوينها رأيًا خاصًا بها عن ذلك، وهو فى اعتقادى أمر لا بد منه، نصل إليه قبل، أو أثناء الكتابة، أعنى لماذا نكتب؟ هي لم تتوقف مطلقًا مثلًا عند سؤال “النسوية”، أو الهم الذى تحمله المرأة، وإلزامية الانتماء لقضايا كتلك، قد تجد تعبيرًا عنه فيما تكتبه، لكنه ليس إلا موضوع يأتى بحسب ما يقتضيه العمل. أما الأصل فهو أن الرواية عمل فنى يسع العالم، والأغلب أن العكس هو الصحيح؟ طموح الرواية، طموح الروائي، ليس أن يعيد صياغة هذا العالم أو إعادة تركيبه، لا، بل أن يوجد عالمًا آخر وفق شروطه وأحلامه، يفعل ذلك بتلك الجرأة التى يحملها الأطفال فى قلوبهم عندما يسخرون من قوانيننا وفروضنا.

الفهم لما يعنيه مصطلح “رواية” مهم مثلا فى أنه جعل انتقالها سهلًا من “ضوء مهتز”، “متاهة مريم”، “وراء الفردوس”، “نحو الجنون” إلى “جبل الزمرد”، الرواية التى صدرت مؤخرًا عن “دار التنوير”، لا الشكل أو الموضوع هما الغاية، لكنه الفن، وهو وحده من منح صاحبته الجرأة والطموح لتنطلق في رحلة بحث عن الحكاية الناقصة من ألف ليلة وليلة، انطلاقًا من هنا كمكان، ومن الآن كزمان.. إلى أعمق ما يمكن لخيالها أن يذهب بحثًا عن نص يمكن بعد جمعه وقراءته إعادة حياتنا إلى لحظتها الأجمل.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم