الحاضر والضمير والشاهد.. أمل دنقل

الحاضر والضمير والشاهد.. أمل دنقل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هكذا، وسريعا مرت حفنة من السنوات على غيابك أيها الشاعر الرقيق، رغم قسوة عباراتك، ورغم حدة تعبيراتك، ورغم تقطيبة جبينك أمام كل فاسد وخائن ومنفلت، أتذكرك وأنت تجلس على مقهى ريش، تشاغب هذا، وتداعب ذاك، وتزورك الفتيات الجميلات كل يوم، ولا يخلو مجلسك من محبيك ومريديك، مثل يوسف أبو رية وأحمد اسماعيل يرحمهما الله، وكذلك لا يخلو مجلسك من الحوارات السياسية المباشرة، وغير المباشرة.

هكذا مرّت السنوات سريعا، والوضع يا أمل كما هو عليه، فمازل القياصرة يحكمون البلاد، فخلف كل قيصر يغور .. قيصر جديد،ومازلنا ننتظر العدالة المفقودة على الأرض، ويبدو أنها ستظل مفقودة ومغدورة ومستبعدة دائما،بل إن الأمر يزداد تعقيدا وحساسية على المستوى العام، رغم أن كل الناس يرددون بأننا قمنا بثورتين.

أعلم أنك ستكتب قصيدة لن يكتبها أحد غيرك، ولن تستدعى فيها رموزك التراثية مثل المتنبى وكافور وزرقاء اليمامة وكليب والمهلهل بن ربيعة و”أبو نواس” وسبارتاكوس، بل إنك ستكتب مباشرة عن رموز الواقع الحاضرة، والمربكة، ربما تكون قصيدتك إجابة ـ كما تعودناـ على كافة الأسئلة الحائرة يا أمل.

وأحيطك علما بأن الجميع هنا يقرؤنك السلام والمحبة والمودة ، رغم أن مقهى ريش أغلق أبوابه، ونجيب محفوظ الذى كان يجمعنا حوله بأبوية غامرة قدمات ،ورغم أن خيرى شلبى وابراهيم أصلان وعبد الرحمن الأبنودى ذهبوا إليك فى زيارة أبدية، لكن جميع من رأوك وعرفوك يهدوك ألف تحية وألف سلام ،ولك أن تعرف أن قصائدك يرددها الشباب الذين لم يعرفوك أبدا ،وهذه محمدة تجرّ عليك الغيرة والحسد ،حتى وأنت هناك، بعيدا عن كل دنيوى رخيص.

كل ما أطلبه منك ياصديقى الغالى أن تحسن استقبال أحبائنا الذين نودعهم واحدا بعد الآخر ،وأنت الهاش والباش والباسم والكريم بطبعك حسب تجربتى الخاصة والقصيرة معك،أوصيك على استقبال رفاقنا الذين ودعناهم بالأمس القريب والبعيد ويبدوا أننى عوّدت نفسى هذه الأيام على طقوس وتقاليد الوداع الثقيلة.

سأنقل لك حوارا حدث بينى وبين صديقة عزيزة، راحت تقول بأنها لم تصبح مطمئنة لهذه الحياة ،لأن كل شيء جميل راح يسرق منها ،حتى الأشخاص والأحداث واللحظات الجميلة تتسرب رويدا رويدا، والغريب ياصديقى أننى وجدت أن هذا التعبير ينطبق علىّ تماما، وتذكرت فقرتك التى تقول فيها :

“كل الأحبة يرتحلون

فترحل شيئا فشيئا

ألفة هذا الوطن”

فهل تدرك يا أمل كم أشعر بالفقد والغياب والغربة فى محيط لا يحتويكم ،وعزائى الوحيد أن كلماتكم العظيمة تملأ الحياة بكل معانيها وزخمها وظزاجتها ، رغم أنكم ذهبتم دون أى  تلويحة وداع ، فقط عبدالرحمان هو الذى كان يرسل وداعاته بأشكال مختلفة ،وظل يراوغنا بالغياب والحضور ،حتى غاب ولم يغب ،وذهب ولكنه باق مثلك تماما، ومثل ابراهيم أصلان ،وحلمى سالم ومحمد مبروك ومحمد ناجى  وبهائى الميرغنى ورضوان الكاشف ونزار سمك وخيرى شلبى وقبلهم سيد خميس وابراهيم منصور وصلاح عبد الصبور وعلى شلش وأروى صالح وجودة خليفة ونجيب سرور ويحيي الطاهر عبدالله..ياالله كيف سأحتمل غياب كل هذه الأقمار والشموس التى كانت ومازالت ساطعة.

أحيانا أكاد أشك فى اتزانى العقلى ،مثلا يحدث أن أهرع إلى التليفون لأبلغ ابراهيم أصلان حكاية ما ،أو لأسأله عن موضوع بعينه ،لا يعرف أحد الإجابة عليه سواه ،أكاد أن أجن فعلا يا أمل ،وأتساءل لماذا كل هذا الإمعان فى الغياب، رغم حضوركم الطاغى ،ورغم أن “لا تصالح” تملأ الأرض كلها ذهابا وإيابا فى وجدانات الشباب جميعا ،ومازل سبارتاكوس يلقى بوصاياه ،ومازالنا نبكى بين يدى زرقاء اليمامة.

يا أمل هذا ليس نوعا من الندب ولا التعديد ،ولكننى بعد أيام قليلة سأذهب إلى دار الكتب ،لأتحدث عنك،وأستمع لرفاقك ومحبيك ومريديك والقريبين منك ،سوف أرتدى ملابس مبهجة ،فرغم كل المعانى المؤلمة التى تنطوى عليها أشعارك ، إلا أنها تنطوى على التفاؤل والأمل والتحريض ،هذا التحريض الفنى والدراماتيكى :

(أيها الواقفون على حافة المذبحة

أشهروا الأسلحة!

سقط الموت ،وانفرط القلب كالمسبحة.

والدم انساب فوق الوشاح

المنازل أضرحة

والزنازن ..أضرحة

والمدى ..أضرحه

فارفعوا الأسلحة

واتبعونى!)

سوف نجلس لنردد أغانيك وأناشيدك ومفردات حلمك العريض بوطن يخلو من الشحاذين والمتسولين والخونة ، وطن يليق بنا ونليق به ، فلا وقت للندب ،ولا وقت للتعديد ،ولا وقت كذلك للحزن ،ولكننى سأحاول أن أكون متزنا ورصينا ودبلوماسيا بالقدر الذى ترسمه لنا مثل هذه الأروقة الحكومية الرسمية ،رغم أنك لم تكن ميّالا لمثل هذه الأروقة.

وقبل أن أنسى ياصديقى أريد أن أبلغك بمعلومة ،عندما عقد المجلس الأعلى للثقافة مؤتمرا كبيرا للاحتفاء بك منذ سنوات،وكانت حشود المحبين غير عادية ،وتذرع فناء المكان جيئة وذهابا فى احتفال مهيب، ورأيت عمنا محمود أمين العالم تزداد ابتسامته اتساعا، ويقول لى فى بهجة حقيقية: “بص ..الشعر الحلو لما يزهزه ..الناس كلها تنحنى له”..وما زالت ياصديقى هذه الجملة ترنّ فى أذنى ،سأذهب إذن بهذا الهاجس ،وبهذه الجملة الرائعة، وسأحتشد لك بكل ما أستطيع.

 

مقالات من نفس القسم

خالد السنديوني
يتبعهم الغاوون
خالد السنديوني

Project